الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اجعل صديقك نفسك
…
وجوف بيتك حلسك (1)
واقنع بخبز وملح
…
واجعل كتابك أنسك
واقطع رجاءك إلا
…
ممن يصرّف نفسك
تعش سليما كريما
…
حتى توافى رمسك (2)
وهو ينصح الإنسان أن لا يتخذ صديقا له إلا نفسه، فليس من صديق حقيقى تستطيع الاستعانة به حين يلم بك خطب من الخطوب، بل إنه ليدعوه إلى اعتزال الناس جميعا ولزوم بيته، حتى لا يصيبه أذاهم، وينصحه بالزهد فى متاع الحياة والرضا بأقل القليل: بخبز وملح فهما حسبه، وهما يكفيانه أن يريق ماء وجهه فى طلب ما فوقهما من طيبات الدنيا. ويقول له: اكتف بالكتاب، واتخذه صديقك وأنيسك فإنه سيضيف إليك معرفة، ولن يؤذيك أى أذى ولن يضرك أى ضرر، وينصحه أن يقطع رجاءه من الناس، فليس بينهم من يحقق له رجاء إلا إذا ألجأته الضرورة لمن يصرّف أمره، ويقول له إذا اتبعت هذه النصيحة من الزهد فى متع الحياة وعشت متقشفا ترضى بكسرة أو قطعة من الخبز واكتفيت بإدامها من الملح، ولم تتخذ لك صديقا سوى الكتاب، ولا أملت من أحد شيئا عشت أسعد السعداء حتى وفاتك. ويقول:
من كان منفردا فى ذا الزمان فقد
…
نجا من الذلّ والأحزان والقلق
تزويجنا كركوب البحر ثم إذا
…
صرنا إلى ولد صرنا إلى الغرق
وهو يمتدح العزلة والانفراد عن الناس حتى عن تكوين الأسرة، ويتمثل الزواج كركوب البحر ومخاطره من العواصف، ويتصور الأولاد ومطالبهم ومتاعبهم فى الحياة عواصف ماتنى تتناول راكب البحر وسفينته، حتى يغرق.
3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة
استحالت صقلية فى العهد الإسلامى إلى جنة فيحاء من جنات المسلمين بمدنها وحصونها التى تعد بالعشرات، بل بالمئات، وبحقولها وزروعها من كل صنف، وبحدائقها وثمارها من كل لون، وبأزهارها الأرجة التى تعطر جميع الأنحاء فيها والأرجاء. وبينما كانت تعيش فى أمن ورفاهية إذا أمراء الطوائف يقيمون لهم فيها عروشا وإمارات ويدب بينهم الشقاق وتتكاثر الفتن. ويشهر الإخوة المسلمون السلاح بعضهم على بعض، ويتسلل ابن الثمنة حاكم بلرم الخائن إلى روجار وروبرت ابنى طنكراد (Tancrede) أميرى قلوريّة وأنكبردة فى جنوبى إيطاليا مستنجدا بهما ضد
(1) حلسك: مكان إقامتك لا تبرحه
(2)
رمسك: قبرك
حاكم مدينة قصريانة وينجده روجار، ويستولى على مسينى ثم على بلرم سنة 464 هـ/1072 م وكان ذلك إنذارا باحتلال الجزيرة وضياعها، فلم يمر عشرون عاما حتى أخذت مدنها فيها تتساقط فى حجر روجار، وأصبح المسلمون يقلبون أكفهم على ما أنفقوا فيها وأنشئوا بها من حضارة وقصور وزروع وحدائق ذات بهجة، وأخذ كثير من علمائها وشعرائها يودّعونها، منهم من يتماسك مثل أبى العرب (1) الصقلى الذى رحل عنها إلى الأندلس منشدا:
أهمّ ولى عزمان عزم مشرّق
…
وآخر يغرى همّتى بالمغارب
ويا وطنى إن بنت عنّى فإننى
…
سأوطن أكوار العتاق النجائب (2)
إذا كان أصلى من تراب فكلّها
…
بلادى وكلّ العالمين أقاربى
وكان لا يدرى حين فراقه للجزيرة هل يتجه شرقا أو يتجه غربا إلى الأندلس، واختار الاتجاه إلى الغرب. ويتخيل كأن الوطن هو الذى بان عنه بكثرة ما فيه من الفتن والحروب مما اضطره إلى مفارقته وتوطنه فى رحال الإبل النجيبة باحثا عن وطن جديد، ويخفف الأمر على نفسه، فإذا كان أصله من تراب وكل البلاد تحمل التراب فهى جميعا بلاده، وكل من فيها من العالمين من أقاربه وذوى رحمه، وإذا كان أبو العرب متماسكا هذا التماسك فى اضطراره إلى النزوح عن وطنه فقد كان هناك من لا يزال يحن إليه مثل عمر بن رحيق الذى نشأ وتربى فى بلرم، حتى إذا استولى عليها روجار والنورمان رحل عنها، ولا تزال ماثلة نصب عينيه، ولا يزال يحن لها ولأهله، ولا يزال حبها يضطرم فى حنايا فؤاده ويهتف (3).
نفسى تحنّ إلى أهلى وأوطانى
…
وهل رأيتم محبّا غير حنّان
كانوا بقلبى أحياء وفى كبدى
…
نار تأجّج من شجوى وأحزانى
عزّ اصطبارى لرزء قد دهيت به
…
وبان عنى لوشك البين سلوانى
فهو يحن إلى أهله ووطنه حنين ملتاع فقد هما، وكانوا ماثلين تحت بصره وفى قلبه، فغابوا عنه وتأججت نار بكبده من شجوه وأحزانه التى يكتوى بها فؤاده، ويقول إنه رزء ومحنة دهته، وعزّ عليه أن يتحمّلها وكيف يتحملها؟ لقد نفد صبره، وفارقه سلوانه، ولم يبق له إلا الحزن الممض والشّجى الموجع، وأكبر شاعر توجع وتفجع على فقدان صقلية ابن حمديس، وهو جدير بأن نفرده بترجمة.
(1) الخريدة 2/ 222
(2)
بنت: بعدت. أكوار جمع كور: الرّحل
(3)
الخريدة 2/ 289