الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
النّثر وكتّابه
نشاط النثر
من المؤكد أن النثر الفنى من رسائل وغير رسائل نهض فى صقلية كما نهض الشعر، وكما نهضت العلوم الدينية، ومن يرجع إلى الخريدة ومن ترجم لهم من الشعراء هناك يجده يذكر فى عنوانات الشعراء أنهم كتاب، ذكر ذلك مع خمسة عشر شاعرا، ونوّه فى غير كاتب بإحسانه فى الكتابة كأن يقول فى البثيري الشاعر الكاتب:«باعه فى الترسل أمدّ، وخاطره فى النثر أحدّ» ويقول فى على بن الحسن بن الطوبى: «مؤلف دفاتر، ومصنف جواهر، ومقلد دواوين» يشير بذلك إلى أنه من كتاب الدواوين، ويصف نثره بأنه جواهر، ويقول عن ابن القرقورى إن ابن القطاع أثنى على نظمه ونثره كثيرا، كما يقول إن ابن القطاع ذكر عن هاشم بن يونس الكاتب أنه صاحب ترسل ومقامات وعن محمد بن الحسن الطوبى أنه كان صاحب ديوان الرسائل والإنشاء مترسلا شاعرا، ويقول القفطى عنه: عالم بالرسائل، وكلامه فى نهاية الفصاحة، وشعره فى غاية الملاحة، وله مقامات تزرى بمقامات البديع، وإخوانيات كأنها زهر الربيع».
وكل ذلك يدل على أن صقلية حازت لنفسها فى النثر نشاطا واسعا، بل إن من كتابها-كما يقول القفطى-من كانت مقاماته تزرى بمقامات البديع، وسقطت تلك المقامات من يد الزمن كما سقطت معها الرسائل البديعة شخصية ورسمية مما دبّجه الكتّاب هناك قبل العصر النورمانى وأيضا ما كتبوا ودبّحوا من أعمال أدبية متنوعة، ولولا أن ابن بسام ترجم لبعض من غادروا صقلية من الكتاب البارعين قبيل العهد النورمانى مثل ابن الصباغ، وسنخصه بكلمة.
وأيضا لولا أن ابن بشرون المهدوى زارها فى عهد روجار الثانى واحتفظ فى ترجمته لبعض شعرائها-وأقصد عيسى بن عبد المنعم وابنه محمد-ببعض رسائلهما ما استطعنا التعرف بوضوح على ما حظى به النثر هناك من نهضة ورقى، وسنراهما واضحين عند كاتبها المتأخر ابن ظفر، وسنفرده بترجمة قصيرة.
أما عيسى بن عبد المنعم فيذكر العماد عن ابن بشرون أنه: «كان كبير الشان، ذا الحجة والبرهان، فقيه الأمة، وأمثل الأئمة، له المعانى الأبكار البعيدة مرامى مرامها، والألفاظ التى هى
كالرياض جادها هامى رهامها (غيثها)» ويقول العماد إنه أورد من كلامه ما يأسو سماعه الكلوم (الجروح)، ويجلو سنا إحسانه العلوم، ويحكى درر الأصداف ودرارى (كواكب) النجوم. .
ويذكر له العماد فصولا من ثلاث رسائل، أولاها فى براعة صديق له فى خطه الرائع وبلاغته البديعة، ومن قوله فيها:
«نظرت من الكتاب إلى خط موصوف، معتدل الحروف، أملس المتون، مفتّح العيون، لطيف الإشارات، دقيق الحركات، لين المعاطف والأرداف، متناسب الأوائل والأطراف، يروق العيون حسنه وشكله، ويعجز المحاول صنعه، متضمنا معانى كأنها رقية الزمان، وصمتة (ألهية) الأمان. .
وقلت سبحان ربى القيوم: {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أكل هذا الإحسان، فى طاقة الإنسان. . ثم رجعت إلى نفسى، وثاب إلىّ حسّى، فقلت عند سكون جأشى (نفسى) وثبوت طيشى، وإفراخ روعى وذهاب دهشى، إن من دبّ فى الفصاحة ودرج فى وكرها، ورضع بلبانها، وجرع من درّها (لبنها الكثير) وصحب السادات مقتبلا (شابا) والأمجاد مكتهلا لخليق أن يحلّ من الفضل وسائطه ويجمع قطريه، بل يستولى على غواربه (أعاليه) ويملك شطريه».
وانتخاب الألفاظ واضح فى الرسالة مع المقدرة البينة على وصف الخط البديع وما يحسن عيسى بن عبد المنعم من وصف بلاغة صاحبه، مع ما يزين وصفه من سجع أحيانا وهو سجع طبيعى لا تكلف فيه، إذ يأتى به فى تضاعيف الكلام دون محاولة التعمل له، وليس ذلك كل ما يزين به وصفه فهو يزينه بعبارات تصويرية كوصفه المعانى فى رسالة صاحبه بأنها «رقية الزمان وصمتة الأمان» وكوصف صاحبه بصور متلاحقة إذ يقول إنه «دبّ فى الفصاحة ودرج فى وكرها، ورضع بلبانها، وجرع من درّها. ويقتبس العماد فصلا من رسالة ثانية لعيسى بن عبد المنعم أسقط فيها حرف الألف واللام مشيدا فى مطالعها:
ولا يحسّ القارئ للرسالة بما تكلفه عيسى بن عبد المنعم من إسقاط الكلمات ذات الألف واللام لمقدرته البيانية، وكأن كتاب صقلية لم يتأثروا فى كتابة رسائلهم بأسلوب السجع الذى عمّ فى المشرق منذ أواسط القرن الرابع الهجرى، بل تأثروا أيضا بما شاع فى كتابة الرسائل من
(1) بذ: سبق. بز: غلب.
(2)
نكب: انحرف.
(3)
الضرب: عسل النحل.
(4)
مريه: سائغه.
(5)
قسمه: ما يقسمه للناس.
ضروب تصنع مختلفة كأن تخلو الرسالة من حرف معين كهذه الرسالة أو يطّرد حرف معين فى جميع ألفاظها على نحو ما صورنا ذلك مرارا فى عرضنا للكتابة الأدبية بالمشرق وفى الأندلس.
وأحكم عيسى بن عبد المنعم فى هذه الرسالة انتخاب الألفاظ والأسجاع، ولم يكتف بالسجع من حيث هو، بل طلب فيه القصر حتى تكون الرسالة وافرة النغم، وعنى فى السجع بتصاوير كثيرة. ورسالة عيسى بن عبد المنعم الثالثة فى العتاب وفيها يقول:
والعناية بانتخاب الألفاظ والأسجاع واضحة فى الرسالة، مع رهافة الشعور فى مثل قوله:
«ذنوب الحبيب، تصغر عن التأنيب» وقوله: «كنا نتوقع تدانى العناق، فصرنا نقنع بأمانى التلاق» .
وقد ترجمنا لابنه محمد بين الشعراء وعرضنا هناك إشادة ابن بشرون به فى الفصاحة والقفطى به فى علوم الأوائل، وألممنا ببعض مراثيه البديعة، وساق له العماد عن ابن بشرون فصولا من ثلاث رسائل، مثل أبيه، وأولاها فى التشوق إلى صديق عزيز، ومن قوله فى صدرها:
«أخى ومولاى علّ الدهر يجمعنا
…
بمنزل عن جميع الشرّ مبتعد
شوقى إلى لقائك شوق الظمآن إلى الماء الزّلال (العذب الصافى) وارتياحى إلى ما يرد من تلقائك ارتياح السقيم إلى الصّحّة والإبلال، وتلهفى على فراقك تلهف الحيران، وتأسفى على بعدك تأسف الولهان، لكننى إذا رجعت إلى شاهد العقل، وعدلت إلى طريق العدل، يمازج قلبى سرورا، ويخالط شوقى بهجة وحبورا. . فأفزع إلى الدعاء لمقدر الأمور. الذى (يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور) أن يحسن لنا العقبى، ويقضى لنا بالحسنى، ويسبل علينا من العافية سترا سابغا ضافيا، ويوردنا من السلامة موردا سائغا صافيا، وأن يقرّب بك الاجتماع، حيث يوجد الاستمتاع، بما تقرّبه الأعين ويلذ الأسماع».
ومحمد لا يقل عن أبيه عيسى بن عبد المنعم فى براعة اختياره للألفاظ وروعة انتخابه للتصاوير، مع حسن الأسجاع وكأنه يريد أن يرضى الأذن بما تجد فى الألفاظ من جمال الجرس، وفى المعانى والتصاوير من الحسن الفائق، وربما تفوق فى ذلك كله على أبيه. وله من رسالة فى عتاب بعض خلصائه:
«قد عاملنى فى مشاهد هذه الأيام، التى قمعت (قهرت) الخاص والعام، بأشياء لو جرت بينى وبينه على خلوة لعددتها من لذيذ الأنس، لكنها أتت فى الملأ (أشراف الجماعة) بما آلم النفس، واحتملت ذلك منه، رجاء أن يقلع عنه، فازداد لجاجة، وازددت حراجة (ضيقا) حتى استفحل
الثّغاة (التافهون) علىّ بسبب ذلك المزاح، واستنسر البغاث إلىّ وهزّ الجناح. . وأعرضت عن أشياء لو شئت قلتها، ولو قلتها لم أبق للصلح موضعا، وأنا أحرص على صحبته وممن يرعاها حق رعايتها. . فأحب أن يحسن الظن بى، والذكر عنى، فإن فعل ذلك فعل الأشكل (الأشبه) به، والأليق بأدبه، والأولى بجميل مذهبه. وقد أطفأت هذه المعاتبة نارا مؤصدة (مطبقة) وبرّدت من صدرى غلّة موقدة».
والرسالة عتاب لشخص لا يعرف متى يمازحه، إذ يمازحه بما قد يقبله منه فى الخلوة، أما أمام الناس فإن المزاح يصبح كأنه هزء به وسخرية منه، ولذلك يؤلمه، ومع ذلك يقول إنه يحتمله رجاء أن يكف عنه ولكنه لا يكف، حتى تعاظم من لا وزن لهم عليه، وحتى «استنسر البغاث» وهو مثل يضرب لمن استشعر العزة بعد الهوان، إذ البغاث من أضأل الطير فشعر كأنه أصبح نسرا.
وأضاف محمد بن عيسى إلى ذلك إضافة بديعة، إذ قال إنه استنسر وهز الجناح كناية عن شعوره الشديد بالعزة إزاءه. ومع ذلك كله يصفح محمد بن عيسى عن هذا الصديق الثقيل، إذ التزم له التجلة أمام الناس. والرسالة تتخفف من السجع أحيانا، مما يدل على أن محمد بن عيسى لم يكن يتكلفه دائما، وكأنما كان يجرى على لسانه عفوا. وله من رسالة فى الشكر لشخصية مهمة يثنى على حضرتها قائلا:
والفصل-على شاكلة فصليه السالفين-فى دقة اختياره للألفاظ والأسجاع حتى تنزلق عن الألسنة فى يسر، وحتى يحسن وقعها فى الأسماع، وهو لذلك لا يزال يلائم بين اللفظ واللفظ، وبين المعنى والمعنى وبين الصورة والصورة، حتى يلذ الآذان والألسنة والأذهان حين تقرؤه أو تصغى إليه. وحرى بنا أن نتوقف قليلا بإزاء الكاتبين الصقليين: ابن الصباغ وابن ظفر.
ابن (1) الصبّاغ الصقلى
هو أبو عبد الله محمد بن الصباغ، من أدباء صقلية وكتابها البارعين، تألق اسمه فيها لأواخر عهد بنى أبى الحسين الكلبيين بالقرن الخامس الهجرى، وحين اضطربت صقلية بعدهم واستقلّ
(1) انظر فى ترجمة ابن الصباغ الذخيرة 4/ 308 ولعله هو نفسه الذى نقل ترجمته العماد عن الدرة الخطيرة لابن القطاع ص 83 باسم أبى عبد الله محمد بن على بن الصباغ الكاتب وقال عنه: كان فى عهد ابن رشيق المتوفى سنة 456 وقال كانت بينهما مراسلات.
كل قائد فيها بمنطقته غادرها إلى الأندلس، واستوطنها، وفيه يقول ابن بسام:«أحد أدباء وقته المشاهير، وكلامه يعرب عن أدب كثير وحفظ غزير» . ويعرض طائفة من فصول رقاعه ورسائله، من ذلك فصل من رقعة وجّه بها إلى ابن الشامى متولى الأرض التى كانت تتملكها الدولة فى المدن التى افتتحت عنوة، راغبا فى أن يكلّم له أمير صقلية صمصام الدولة آخر الأمراء الكلبيين الذى تولى الجزيرة بعد أخيه الأكحل سنة 427 كى يحرّر له أرضا للدولة كان اشتراها مما عليه من ضريبتها، وربما من دين للدولة كان لا يزال مدينا به، ويمضى صدر الرسالة على هذا النمط:
«إذا الحاجات عىّ بها رجال
…
وكان قضاؤها صعب المرام
وقلّت حيلة الشفعاء فيها
…
فحاول نجحها ببنى الشآمى
درارىّ العلا حفّت ببدر
…
منير فى سماء المجد سامى
ويعلم-أدام الله تمكينه-مذهبى فى التخفيف، وحمل مئونة التكليف، إلا فيما تلجئ الضرورة إليه، ويحمل الاضطهاد عليه، وكنت من ترفيه النفس عن الامتهان، والقناعة بما تسمح به نفس الزمان، فى حالة يعلم-حرس الله مجده-تقلّبى فى أثنائها، ومقيلى (قيلولتى) فى أفيائها (ظلالها) حتى عرض لى من سوء القضاء، ما أجار بالنار من الرّمضاء (شدة الحر) فسوّل لى الحرص الذى ما شمت (رأيت) له بارقا، والطمع الذى ما ركبت قط له عاتقا (منكبا) النظر فى إحداث بستان فى خرائب أخربت مالى، وشغلتنى عن كثير من أشغالى، وصرت منفقا ما جمعت فى الغربة والوطن، وكسبت فى الإقامة والظّعن (الارتحال) بين جدار فيها أهدمه، وغار أردمه، وأرض أرفع مرة وهادها، وأخفض تارة نجادها (مرتفعاتها) حتى استوت ساحاتها وتوطّدت (تمهدت) وغابت مغاراتها وتغطّت، وانكشطت أسنمتها وانحطّت، . . ولا يقدر على سقى دوحاته، ولا يتوصّل إلى إحياء مواته، إلا بدولاب (ساقية) وجابية (حوض) يأخذان الماء أخذة رابية (شديدة). . ومتى أعلم الأمير أن هذه الخرائب التى عانى وليّه غراسها لا يرتجى لها عمارة تعود بفائد، ولا ينتفع الديوان منها بدرهم واحد، وساكنوها منذ أعوام ما أدّى واحد منهم خراجا، ولا صنع لبيته بابا ولا رتاجا (بابا كبيرا) فهم بين قوم يأكلون الشجر قبل الثمر، ويرعون الأبّ (الحشائش) قبل الحب».
والرسالة قطعة أدبية بديعة، وهى مكتوبة بأسلوب السجع الذى يمتع اللسان بنطقه والآذان بسماعه، وتكتظ بصور تتعاقب فيها ومشاهد بديعة كمشهد إصلاح ابن الصباغ للأرض وإعدادها للزرع بين جدار يهدمه وغار يردمه ونجاد يخفضها ووهاد يرفعها حتى غابت مغاراتها وانكشطت أسنمتها وانحطت. فهو ليس حائك أسجاع وراسم تصاوير فحسب، بل هو أيضا
مصور يعرف كيف يعرض عليك مشهدا بأكمله كأنك تبصره وتراه. وهو إلى ذلك خفيف الظل يعرف كيف يسرك بالكلم، وكيف يورد عليك ما يضحك سنك على نحو ما صور ساكنى أرضه وبستانه، فمنذ أعوام لم يؤد واحد منهم خراجا، ولا صنع لبيته بابا ولا رتاجا، وإنهم-لفقرهم المدقع-ليأكلون الشجر والأبّ ومراعيه كالأنعام قبل الثمر والحب. ولا بد أن ابن الشامى وصمصام الدولة ضحكا طويلا حين وصلا فى الرسالة إلى هذا المشهد المضحك. وهذا الجانب الفكه فى ابن الصباغ اتضح بصورة أوسع فى رسائل ساقها له ابن بسام حين استوطن الأندلس وصحب هناك الأديب أبا حفص القعينى، وكانت فيه بدوره دعابة، وحدث أن ماتت له هرة، فجلس للعزاء عنها تماجنا، فما كان من ابن الصباغ إلا أن كتب له رسالة عزاء فيها، ومن قوله فى بعض فصولها:
وابن الصباغ عزّى أبا حفص القعينى فى هرّته، وكأنها كانت شقيقة نفسه وموضع راحته وأنسه، كما يقول، أو كأنها كانت محبوبة عزيزة، وهو يبدأ رسالته بأن هذه حالة الدنيا فهى دائما إلى فناء، أنفاس معدودة وآجال محدودة، ويدعو الله له أن يلهمه الصبر الجميل على فجيعته ويطفئ ببرد السلوان غليله، ويعزّيه فى ربيبة حجره وحجرته، وإضافة حجرته إلى حجره بديعة.
وتتراءى لنا فى الرسالة روح الفكاهة والسخرية مجسدة، وخاصة حين يحدثنا أن القعينى أقسم ليعقدنّ لها مأتما كبيرا تشقّ فيه جيوب النساء على محبوبته ويفضن الدمع ويرسلنه وجدا على هرته. ويعولن عليها بالصراخ والنواح. ولا نصل إلى هذه القطعة من الرسالة حتى نغرق فى الضحك، ويستمر قائلا للقعينى:
«ولست بناس ذكر تلك الملح التى كتبت لى تصف من أخلاقها وآدابها، والمدح التى أوردت
فى أعراقها وأنسابها، والغرائب التى ذكرت عن قوّتها وأيدها، وحيلها وكيدها، ومكرها بالفار وصيدها. . ذات ناب مطلول (عجيب) وساعد مفتول، وخصر مجدول (صلب) ريّانة (ممتلئة) الكاهل، ظمآنة الأسافل، تستضيئ من عينيها بأنور من المصباح، وتعتدّ من مخالبها بأمضى من السلاح».
وابن الصباغ يستمر فى روحه الفكهة، فيزعم أن القعينى طالما حدّثه عن أخلاقها وآدابها وأعراقها وأنسابها ومكرها بالفار وصيدها له فى لمحة، ويشيد بجمال تكوينها وقوة بصرها ومخالبها. وهى روح فكهة بديعة لابن الصباغ، مع القدرة البارعة على انتخاب اللفظة وأختها والسجعة وشقيقتها مع إحكام التصاوير والمشاهد. وحدث أن كانت لصديقه القعينى جارية سوداء كلف بها ثم باعها، وندم فحاول استرجاعها، فزعم مشتريها أنها حامل، وتولاّه الأسف، ونظم فى ذلك أشعارا كثيرة، فكتب إليه ابن الصباغ رسالة فكهة يقول فيها:
«نقل إلىّ بعض من يعرف أحوالك، ويشارف فعالك خبرا يصمّ السّمع، ويضيّق الذّرع (الطاقة الواسعة) وذلك أنك أخرجت عن ملكك ضفدعتك المريعة (المفزعة) فتناولها من استحسنت غدرانه، وبلغك من إقبالها عليه، وانصرافها بكليّتها إليه، ما أضرم قلبك شوقا لا تخبو ناره، وسلّ الوجد بها عضبا (سيفا) لا ينبو غراره (حدّه) فأنشرت (بعثت) للناس من نفسك (توبة) الأخيلية، وأحييت لهم منك مجنون (قيس) العامرية، وعضضت على بيعها أناملك، وأنضيت (أهزلت) فى طلبها زواملك (إبلك) وأطلت فى وصف شوقك لها وأوجزت، وقصّدت (نظمت القصائد) فى ذكر الأسف عليها ورجزت (نظمت الأراجيز) وجمعت لها من المحاسن ما افترق، وفتحت من البدائع فيها ما انغلق. . فأصبحت والظنون بك مرجّمة (متكلمة) والألسنة عنك مترجمة، والأقوال فيك كثيرة، والأيدى إليك مشيرة، فنهنه (ازجر) قلبك، وراجع لبّك.
واذكر خلقها وخلقها، وتأمّل وجهها وعنقها، وانظر خدّها وقدّها، وهل شئ مما يستملح عندها؟ ! فهنيئا أبا حفص راحة بصرك من شخصها المقيت، وفراغ قلبك من الكبد بخلقها المميت. . وكأنى بك قد أنشدت بيت ابن الرومى فيمن لا يشبهها إلا فى سواد الجلد، ولا يشركها إلا فى النسبة إلى الجد، إذ يقول:
أكسبها الحبّ أنها صبغت
…
صبغة حبّ القلوب والحدق
هيهات. . ما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة».
وابن الصباغ يتهكم بصديقه القعينى مرارا وتكرارا، إذ يصور عشقه لجاريته وما يضرم فى قلبه من نار لا تخبو، حتى لكأنما بعث من نفسه توبة بن الحميّر عاشق ليلى الأخيلية وقيسا عاشق ليلى العامرية، ويذم الجارية ذمّا شديدا ترويحا عن صاحبه حتى يسلوها ويمسك عن ذكرها