الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - التاريخ القديم
(1)
تاريخ ليبيا المغرق فى القدم يختلف باختلاف منطقتيها الغربية والشرقية: منطقة طرابلس ومنطقة برقة، ومعروف أن الفينيقيين ارتادوا ساحل طرابلس فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد بقصد التبادل التجارى مع أهلها الليبيين، وكانوا شعبا ملاحيّا عريقا يحترف التجارة، مما جعلهم يجوبون سواحل إفريقيا الشمالية وإسبانيا فى القرن المذكور وبعده، وفى أول الأمر كانوا يقنعون بإقامات مؤقتة فى أثناء تبادل العروض (السّلع) التجارية مع شعوب الأقاليم والمناطق التى نزلوا فيها، ومع الزمن آثروا أن يقيموا لهم مدنا-أشبه بمستعمرات-ليتخذوها مراكز ثابتة لما يحملون وينقلون من عروض تجارية. وفى تاريخ غير معروف بالضبط هل هو القرن الثامن قبل الميلاد أو قبله أو بعده أقاموا على ساحل طرابلس ثلاث مدن متقاربة، هى طرابلس، وكانوا يسمونها وايات Vaiat وحرّفها الرومان فسمّوها أويا Oea وأقاموا غربيها مدينة صبراته Sabrata فى موضع العجيلات الحالية وسماها العرب صبرة ومعناها بالفينيقية سوق القمح، وهو اسم يرمز إلى ما ستئول إليه المنطقة فى عهد الرومان إذ سيعدّونها مخزن قمح لهم. وأقام الفينيقيون شرقى أويا أو طرابلس مدينة لبدة Leptis فى موضع مدينة الخمس الحالية.
وهذه المدن الثلاث سماها اليونان Tripolis أى المدن الثلاث وأطلق العرب هذا الاسم على أويا Oea فأصبح اسمها طرابلس، وسمّيت بها المنطقة جميعها فيما يقابل برقة فى المنطقة الشرقية من ليبيا.
وإقامة الفينيقيين لهذه المدن الثلاث الكبيرة تشير بوضوح إلى نقلهم الليبيين نقلة كبرى من
(1) انظر فى تاريخ ليبيا عامة فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم والبيان المغرب لابن عذارى وتاريخ إفريقية والمغرب للرقيق القيروانى (قطعة منه-طبع تونس) وتاريخ ابن خلدون وتاريخ ابن الأثير والمؤنس فى تاريخ إفريقية وتونس لابن أبى دينار ورحلة التجانى والأزهار الرياضية فى أئمة وملوك الإباضية لسليمان البارونى وكتاب ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وتاريخ الفتح العربى للطاهر الزاوى وأعلام البيان له، والمنهل العذب فى تاريخ طرابلس الغرب لأحمد النائب الأنصارى وتاريخ طرابلس الغرب لمحمود ناجى وفتح العرب للمغرب للدكتور حسين مؤنس وتاريخ المغرب الكبير لمحمد على دبوز وتاريخ ليبيا للدكتور إحسان عباس وليبيا بين الماضى والحاضر للدكتور حسن محمود.
حياة التجوال والرعى إلى حياة الاستقرار والزراعة، ويظنّ أنهم أدخلوا إلى منطقة طرابلس زراعة الفواكه مثل الخوخ والتين والبرقوق والكروم، والنباتات التى تنتج الحنّاء والزعفران والشيح، وبعض الأشجار مثل أشجار اللوز وربما أشجار الزيتون أيضا. وبذلك بثوا فى مدن طرابلس نشاطا زراعيا بجانب نشاطهم التجارى. وخلفهم فى المنطقة بالقرن الخامس قبل الميلاد أبناء عمومتهم القرطاجيون، واتسعوا بالضربين من النشاط التجارى والزراعى فى طرابلس. وفى عهدهم أخذت تنظّم الصلة بين مدن الساحل الطرابلسى الثلاث وبين الواحات الداخلية وغدامس وغات وفزان، بل أخذت القوافل التجارية تتغلغل فى قلب إفريقيا وتنقل من تلك الأنحاء الرقيق والعاج وريش النعام، ويظن أن الواحات المذكورة آنفا كانت تستشعر الولاء للقرطاجيين.
وتتوالى الحقب حتى إذا اصطدم القرطاجيون بالرومان وتمت الغلبة للأخيرين استولوا على طرابلس ومدنها من أيدى القرطاجيين سنة 146 قبل الميلاد، وفى عهدهم ازداد ازدهار المدن الطرابلسية الثلاث ووجهوا حملة إلى غدامس وفزان استولت عليهما، واتسعوا بالنشاط التجارى إلى قلب إفريقيا، وأرسلوا لذلك ثلاث حملات استكشافية، أولاها لكشف مناطق طرابلس الجنوبية، والثانية لكشف أو اكتشاف السودان والثالثة لاكتشاف السودان الغربى.
ويبدو أن أسرا رومانية كثيرة استوطنت منطقة طرابلس يدل على ذلك مالا يزال إلى اليوم من كثرة الأطلال لمعابد وحصون وأبراج ومقابر وتماثيل ونصب عليها كتابات لاتينية متأكلة، ولا نلتقى بها فى المدن الكبرى الثلاث: أويا وصبراته ولبدة فحسب. بل نجدها أيضا فى أماكن مختلفة على الساحل مثل ترهونة وفى مواضع مختلفة منها إلى طرابلس وأيضا فى الداخل مثل يفرن فى المنطقة الجبلية الوسطى إذ على برج بها كتابات لاتينية، ومثل بونجيم إذ فى الشمال مبنى رومانى كبير به كتابة لاتينية نقشت عليه سنة 201 للميلاد باسم الإمبراطور الرومانى سبتيموس سيفيروس Septimus Severus وكان قد ولد ونشأ فى مدينة لبدة إحدى المدن الطرابلسية الثلاث المذكورة آنفا، ثم رحل إلى روما ليكمل تعلمه وتطورت به الظروف إلى أن أصبح إمبراطورا للدولة الرومانية، وقد أعفى أهل بلدته الطرابلسية: لبدة من الضرائب الحكومية، وتقديرا منهم لصنيعه كانوا يهدون روما سنويّا كمية وافرة من الزيت، ويقال إنها حين وزّعت على سكان روما بعد وفاته سنة 211 للميلاد كفتهم خمس سنوات. وحين اعتنقت روما المسيحية وعملت على نشرها فى الولايات التابعة لها نشرتها أو حاولت نشرها فى طرابلس لما كان بها من جالية رومانية كبيرة، وتدل على ذلك بعض الكنائس المطمورة فى الأماكن الأثرية الرومانية. وعنيت روما عناية واسعة بازدهار الزراعة فى طرابلس إذ كانت تعدها-كما أشرنا-مخزنها الضخم للغلال ولزيت الزيتون وغير ذلك من الطيبات، وهو ما جعلها تكثر فيها
من القنوات لحمل مياه الأمطار من الجبال كما تكثر من الخزانات والصهاريج والسدود على الوديان لخزن مياه الأمطار وتوزيعها على الزروع. وازدهار الزراعة-حينئذ-جعل القرى والبلدان تكثر فى الأنحاء الشمالية من منطقة طرابلس، كما جعل السكان يزدادون بها زيادة كبيرة.
وإذا كان الفينيقيون والقرطاجيون نزلوا طرابلس قديما قرونا متعاقبة فإن اليونان هم الذين نزلوا برقة قديما على نحو ما يحدثنا هيرودوت فى تاريخه، إذ يذكر أن السكان اليونان ازدادوا زيادة كبيرة فى إحدى جزر بحر إيجة، فأرسلوا فى سنة 650 قبل الميلاد بعثة منهم إلى الشاطئ الإفريقى فى اتجاه برقة لعلها تجد لهم أراضى صالحة للنزوح إليها، ونزلت البعثة فى جزيرة بلاتيا بخليج بمبه شرقى درنة، وبعد سنوات قليلة نزحوا منها إلى الشاطئ الإفريقى، وأسسوا به مدينة سيرين) Cyrene شحات الحالية) غربى درنة، ثم أسسوا أربع مدن أخرى غربيّها، هى على الترتيب) Appollonise سوسة الحالية) و) Barca سميت منذ القرن السادس الهجرى المرج مع أن المنطقة مسماة باسمها: برقة) و) Arsimoenoe طوكره الحالية) و) Berenice بنغازى الحالية) وأطلق اليونان على هذه المدن اسم بنطابلس Pentapolis أى المدن الخمس. وغلب على المنطقة جميعها اسم برقة كما ذكرنا وبالمثل غلب على منطقة ليبيا الغربية اسم طرابلس.
وظلت سيرين تعد مدينة برقة الأولى فى عهد اليونان، ولذلك سموا أراضى الساحل حتى بنغازى باسم سيرينايكا. وعلى نحو عناية الفينيقيين والقرطاجيين والرومان بالتجارة فى طرابلس عنى بها اليونان فى سيرينايكا أو برقة مما جعلها تنشط فى عهدهم بين مدنها الخمس وبين الواحات الداخلية من جهة، وبينها وبين السودان من جهة ثانية، فكانت القوافل التجارية تسير منحدرة وصاعدة بين بنغازى وسيرين فى أقصى الشمال وواحات كفرة وأوجلة وفزان، ويتغلغل بعضها إلى السودان وخاصة إلى دارفور وواداى حاملة من هناك الرقيق وسنّ الفيل وريش النعام والكركم. وكانت برقة على علاقة حسنة مع مصر، وتوطّدت هذه العلاقة بعد موت الإسكندر المقدونى وقيام دولة البطالسة بمصر إذ أصبحت جزءا من دولتهم مما نشّط تجارتها مع مصر إما عن طريق شاطئ البحر المتوسط والإسكندرية، وإما عن طريق الصحراء وواحة سيوة. وتدخل برقة فى حوزة الرومان سنة 96 قبل الميلاد، وبذلك تصبح ليبيا جميعها شرقا وغربا فى نطاق دولتهم الرومانية، ولذلك تلتقى فيها الآثار اليونانية بالآثار الرومانية، وتكثر الأولى فى سيرين (شحات الحالية) حيث ترى بها أطلال لآلهة اليونان ومقابرهم ولمدرجات مسارحهم، وتلك المدرجات سمة دائما لليونان فى كل بلد أقاموا به، وحاكاهم فى ذلك الرومان.
وقد ذكر بنتاءور الشاعر اليونانى فى القصيدة التاسعة من قصائده مدينة سيرين. وأخذت