المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

مكانتها تهبط منذ قضى الإمبراطور الرومانى تراجان على ثورة اليهود بها، وما تصل إلى القرن الثالث الميلادى حتى تصبح أنقاضا وأثرا بعد عين. وتابعت روما فى برقة صنيعها فى طرابلس من حيث العناية بالزراعة إذ كانت تعدّهما جميعا مخزنين لما يلزمها من الغلال، فحفرت لذلك كثرة من القنوات ترى-إلى اليوم-وراء ساحل برقة وقد طمرتها الرمال، كما ترى هناك آثار السدود والخزانات والصهاريج التى أقامها الرومان واليونان بطالسة وغير بطالسة فى كل مكان شمالا، وتحجب كثرتها عن البصر اليوم الأتربة والرمال التى انهالت عليها عبر القرون.

وهذا النشاط الزراعى وما اتصل به من النشاط التجارى أهّل برقة قديما لرخاء جعل المدن-بجانب مدنها الخمس المارة-تكثر فيها مثل درنة وطبرق، واشتهرت الأخيرة بأن جيزيلا أحد ملوك إسبرطة المشهورين كان يتخذها دار إقامة له.

وما يوافى العقد الرابع من القرن الخامس الميلادى حتى تغزو جموع الواندال الجرمانية الشمال الإفريقى وتسقط على ليبيا-كأمواج من جراد-تعيمو تفسد فى البلاد لنحو مائة عام، بل تدمّر وتحطم كل ما شاده الفينيقيون والقرطاجيون والرومان فى طرابلس وكل ما شاده اليونان والرومان فى برقة إلى أن تجرّد لهم القائد البيزنطى بليزير Belisaire وكشف غمّتهم عن صدر ليبيا سنة 534 للميلاد وأصبحت-من حينئذ-تابعة لبيزنطة. ولا نصل إلى أواخر القرن السادس الميلادى وأوائل السابع حتى نجد إمبراطور بيزنطة يتبع ليبيا لحاكم الإسكندرية، إذ تذكر المصادر العربية أنه حين فتح عمرو بن العاص ليبيا كانت برقة تتبع هذا الحاكم، بينما كانت طرابلس تتبع حاكم قرطاجة بإفريقية التونسية المعروف عند العرب باسم جرجير تحريفا لاسمه الحقيقى جريجوريوس، ويبدو أنه حين رأى عمرو بن العاص يستولى على مصر سارع بالاستيلاء على طرابلس ليحوز لنفسه شيئا من الغنيمة، إذ رأى الدولة البيزنطية توشك على الانهيار.

‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

لما أتمّ عمرو بن العاص السياسى البصير فتح مصر واستقامت له رأى أن يؤمّن حدودها الغربية ضد الدولة البيزنطية حاكمة الشمال الإفريقى حينذاك، فأعدّ جيشا فى أواخر سنة 21 للهجرة فتح به برقة، إذ استجابت له سريعا، وأرسل ابن خالته عقبة بن نافع إلى الداخل،

ص: 26

ففتح الديار فى الصحراء حتى وصل إلى زويلة حاضرة فزان، واستسلمت سنة 22 للهجرة.

وبعد أن رتب عمرو بن العاص شئون الحكم فى برقة اتجه إلى طرابلس ففتحها سنة 23 للهجرة، واستعان ببعض قواده فى فتح ما بقى من بلدانها وبلدان برقة. وتمّ ذلك كله فى عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب واستتم عمرو بن العاص فى سنة 23 فتح نفوسة وبذلك عمت ديار ليبيا جميعا أضواء الإسلام. وظل عمرو طوال هذه السنة والسنة التالية أو أكثرها ينظّم شئونها، وترك لأهلها أن يجمعوا بأنفسهم الجزية والضرائب المفروضة ويؤدّوها فى الموعد المضروب. وكانت هذه سياسة رشيدة، ولم تفرض ضرائب فادحة كما كان الشأن أيام الدولة البيزنطية، وأحسّ البربر فى ليبيا بتعاليم الإسلام فى العدل والمساواة المثلى بين من يسلمون منهم وبين العرب، فأقبلوا على الدين الحنيف وأخذ يعتنقه كثيرون منهم. ويعود عمرو إلى مصر مخلفا وراءه ابن خالته عقبة بن نافع. ويتولى الخلافة بعد عمر عثمان بن عفّان، فيولّى على مصر عبد الله بن أبى سرح سنة 25 للهجرة وتظل ليبيا لأيامه هادئة حتى فتنة عثمان سنة 35 للهجرة، فتضطرب الأمور فيها وفيما وراءها من إفريقية التونسية، ويتولّى عمرو بن العاص مصر ثانية لعهد معاوية. ويعنى معاوية ببرقة وطرابلس وإفريقية ويجعلها ولاية مستقلة ويولى عليها معاوية بن حديج السّكونى سنة 45 للهجرة، ويولّى بدوره رويفع بن ثابت الأنصارى على طرابلس، ويترك معه كتيبة، ويدور عام وقيل بل عامان ويفتح رويفع جزيرة جربة شرقى مدينة قابس. حتى إذا كانت سنة 50 للهجرة ولّى معاوية على المغرب جميعه عقبة بن نافع، فرأى بثاقب بصيرته أن يتخذ للجيش العربى قاعدة تكون معسكرا له، فيها ينزل الجيش ويسكنها ويخرج منها لمتابعة الفتوح فى المغرب، واختار موقعا فى داخل إفريقية التونسية غربى ميناء سوسة على بعد نحو ثلاثين ميلا من البحر المتوسط، وشيد فيه مدينته وسماها القيروان أى المعسكر، وجعل حولها سورا من القرميد، وشيّد فيها جامعا كبيرا، وسرعان ما استحالت القيروان مدينة ضخمة واستحال جامعها جامعة كبرى، ويعيد عقبة إلى إفريقية الهدوء والاستقرار ويقضى على الحكم البيزنطى فى الشمال الإفريقى جميعه. وبمجرد إتمامه لمدينته سنة 55 للهجرة عزل، وتولّى المغرب أبو المهاجر، وقد نازل قبيلة أوربة من البرانس وزعيمها كسيلة فى تلمسان ودارت عليها الدوائر، وأسر كسيلة ودخل فى الإسلام. وتولّى الخلافة يزيد بعد أبيه معاوية، فأعاد إلى المغرب عقبة بن نافع سنة 62 للهجرة، فسار بجيش ضخم اخترق به الجزائر والمغرب الأقصى حتى بلغ المحيط الأطلسى، وكان قد وبّخ كسيلة زعيم أوربة لما كان من حربه للمسلمين فأسرّها فى نفسه، وصمم على الانتقام، وفى عودة عقبة بالجيش تأخر عنه فى كتيبة صغيرة بجبال الأوراس جنوبى مدينة بسكرة فى الجزائر وكان كسيلة قد جمع من أنصاره جمعا كبيرا، فانتهز الفرصة وهجم على عقبة وصحبه واستشهد البطل العظيم، وأقيم له مسجد ضمّ رفاته، وسميت المنطقة باسمه: سيدى عقبة.

ص: 27

ويتولى المغرب حسان بن النعمان (71 - 85 هـ) فيثبّت الدين الحنيف هناك ويدخل فيه البربر أفواجا، إذ سوّى-حسب تعاليم الإسلام-بين البربر والعرب فى كل شئ: فى الأعطيات وفى الخراج وفى الجيش فلا فرق بين جند عربى وجند بربرى لا فى المعاملة ولا فى الفيئ وغنائم الفتوح، ولو أن الولاة فى القرن الثانى اتبعوا هذه السياسة مع البربر ما انتقضوا عليهم ولا شهروا السلاح ضدهم كما سنرى عما قليل. وأسّس حسان مدينة تونس وبنى بها دار صناعة متخذا منها نواة لإنشاء أسطول مغربى عربى لحماية السواحل المغربية من القراصنة والمغامرين الأوربيين، واستقدم من مصر ألف أسرة قبطية للمساعدة فى إنشائه. ونظّم إدارة الحكم والدواوين تنظيما دقيقا. وأتمّ هذا التنظيم بعده موسى بن نصير والى المغرب الجديد (85 - 96 هـ) إذ جعل المغرب خمس ولايات: ولاية برقة، وولاية إفريقية التونسية ومعها طرابلس، وولاية المغرب الأوسط، وولاية المغرب الأقصى، وولاية السوس أو سجلماسة. وكان يرسل لبرقة وطرابلس عمّالا أو ولاة كانوا يعدّون مستقلين فى الشئون الداخلية للمنطقتين، مع إرسالهم نصيبا من الضرائب وبعض الجنود إلى القيروان. وعمل موسى-بكل ما فى وسعه- على نشر الدين الحنيف بين البربر بإنشائه فى أنحاء المغرب لكتاتيب كثيرة تحفظ فيها الناشئة القرآن الكريم مع إحسانها لتلاوته ومع تعليمها بعض مبادئ الدين الحنيف. وتمّ هذا الرسوخ للإسلام فى المغرب وأرجاء ليبيا لعهد عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) الخليفة التقىّ إذ أرسل إلى المغرب عشرة من كبار الفقهاء للعمل على نشر الدين الحنيف هناك، واختار أحدهم واليا على المغرب جميعه هو إسماعيل بن أبى المهاجر المخزومى واستجاب إليهم آلاف من البربر حتى ليمكن القول بأننا لا نصل إلى مطلع القرن الثانى الهجرى حتى يصبح المغرب جميعه دارا إسلامية يؤدّى فيها الجمهور الأكبر فروض الدين الحنيف.

ولا تعود ليبيا وما وراءها من المغرب تحظى بوال من أمثال ابن أبى المهاجر وموسى بن نصير وحسان بن النعمان وعقبة بن نافع منذ وفاة عمر بن عبد العزيز، فقد أخذ يتولى المغرب ولاة ساموا البربر كثيرا من العسف والظلم، حتى إذا تولى عبيد الله بن الحبحاب المغرب زاد الطين بلّة، بتشدده فى جباية الأموال من البربر ورفضه رفضا باتا التسوية بينهم وبين العرب.

وانتهز الفرصة دعاة الخوارج من صفرية وإباضية ودعوا بقوة إلى مبادئهم فى التسوية المطلقة بين العرب والموالى من بربر وغير بربر فى جميع الحقوق والشئون المالية، وحتى فى الخلافة نفسها فلا تقتصر على قريش وأبنائها بل يتولاها أكفأ المسلمين ولو كان عبدا حبشيّا. واستجاب المغرب الأقصى سريعا لمبادئ الصفرية ونشبت فيه ثورة سنة 122 للهجرة، وتهزم جيوش الدولة جيشا من وراء جيش إلى أن يكتب لها النصر بعد سنوات. أما مذهب الإباضية فقد انتشر انتشارا واسعا فى طرابلس وجبل نفوسة وغربى ليبيا، وكان قد أصبح زمام الحكم فى

ص: 28

المغرب بيد عبد الرحمن بن حبيب حفيد عقبة بن نافع منذ سنة 126 للهجرة، فأخذ يرقبهم ويكثر من العيون عليهم، وعرف أن رئيسهم فى طرابلس عبد الله بن مسعود التّجيبى، فأرسل إليه أخاه إلياس فى قوة عسكرية كبيرة فقتله. ولم تنته بذلك الحركة الإباضية فى طرابلس فقد بايع الإباضيون فى طرابلس بعده بالإمامة الحارث بن تليد الحضرمى سنة 130 للهجرة واتخذ وزيرا له عبد الجبار بن قيس المرادى، والمظنون أنهما كانا من جيش أبى حمزة الخارجى الذى أرسله الإمام طالب الحق اليمنى لفتح الحجاز ومدينتيه المقدستين، ولم يكتب له النصر أخيرا على الجيش الأموى، وتسلل من جيشه الحارث وعبد الجبار إلى طرابلس، وأخذا يدعوان للمذهب بها، ونجحت دعوتهما وبويع الحارث إماما، وأرسل إليه عبد الرحمن بن حبيب جيشا، ويقال بل ذهب إليه بنفسه على رأس جيش، غير أن جيشه هزم شر هزيمة، وأصبح إقليم طرابلس من سرت فى ليبيا إلى قابس فى إفريقية التونسية يعترف بإمامته معتنقا لمذهب الإباضية. وفى سنة 132 للهجرة يغتال الحارث بن تليد ووزيره عبد الجبار فى ظروف غامضة، ويدخل عبد الرحمن بن حبيب طرابلس ويفتك بكثيرين من زعماء الإباضية.

وتعيش طرابلس وإقليمها نحو ثمانى سنوات فى هدوء، حتى إذا كانت سنة 140 للهجرة ثار الإباضية بقيادة إمامهم أبى الخطاب عبد الأعلى المعافرى واستولى على طرابلس وأعلن بها إمامته، وكان حازما مقداما جسورا غيورا على الدين، وكانت قبيلة ورفجومة الصفرية استولت على القيروان منذ سنة 138 للهجرة واستباحتها واستحلت المحارم وارتكبت كثيرا من المآثم والفظائع بها وجروحها تنزف بالدماء وأهلها يكثرون من العويل ولا مغيث، وعلم أبو الخطاب بعيث ورفجومة واستحالة أبنائها فى القيروان إلى ذئاب هائجة مسعورة، فثارت ثائرته واتقدت حميته لأهلها وأعدّ فى سنة 141 للهجرة جيشا ضخما نازل به ورفجومة النفزاوية فى معركة طاحنة قتل فيها قائدها عبد الملك بن أبى الجعد وهزمت هزيمة ساحقة، ودخل أبو الخطاب القيروان وطهّرها من رجس هذه القبيلة الباغية، وأقام عليها عبد الرحمن بن رستم واليا عليها من قبله، وعاد إلى طرابلس عاصمته. وكل ذلك علم به الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور، فاختار أحد قواده العظام محمد بن الأشعث وولاه على المغرب، وأرسل معه جيشا بالغ الضخامة فى نحو سبعين ألف مقاتل يقودهم صفوة كبيرة من القواد، ونشبت بينه وبين أبى الخطاب معركة حامية الوطيس سنة 144 للهجرة قتل فيها أبو الخطاب وأكثر أنصاره بحيث لم تقم للإباضية فى طرابلس وجبل نفوسة بعدها قائمة. وفرّ عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تيهرت فى المغرب الأوسط، وبها أقام للإباضية دولة ظلت نحو قرن ونصف. ويتولى المغرب يزيد بن حاتم المهلبى سنة 153 للهجرة ويعود النظام والاستقرار والهدوء إلى طرابلس حتى نهاية ولايته سنة 170 وقد ضم برقة إلى مصر. وتولى المغرب بعد يزيد أخوه روح بن حاتم

ص: 29

ثم هرثمة بن أعين حتى سنة 181 وكان عهدهما عهد أمن وطمأنينة فى طرابلس. وكان الخليفة العباسى هارون الرشيد سئم من كثرة الاضطرابات والثورات فى البلاد المغربية، فسأل عن مقدام جريء سيوس يستطيع ضبطها ضبطا محكما فأشار عليه قائده هرثمة بن أعين بإبراهيم بن الأغلب التميمى لما يعرف من كياسته ورجاحة عقله، فمنحه حكمها هو وأولاده وأحفاده طوال إقرارهم النظام فيها والأمن، وبذلك تأسست فى إفريقية التونسية دولة الأغالبة منذ سنة 184 للهجرة حتى سنة 296 وتبعتهم طرابلس وظلوا يرسلون إليها عمالا وظلت ثوراتها لا تهدأ بسبب من كان فيها وفى جبل نفوسة من الإباضية، وكان إباضية تيهرت لا يزالون يمدون إلى إباضيتها عونا مستمرا. ولعل ما كان يوليها الأغالبة من الأهمية هو الذى جعلهم دائما يولّونها ولاة بارزين من الأسرة، وكثيرا ما كانت تنتقض عليهم، على نحو ما حدث سنة 196 فى عهد واليها عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، واستطاع القضاء على الثورة، ومن أهم ولاتها من أبناء الأسرة أبو العباس عبد الله بن محمد الأغلبى، ونقله الأمير أبو الغرانيق، ثم أعاده إلى طرابلس، ومنهم أحمد بن سوادة الأغلبى وكان شاعرا بارعا ومحمد بن زيادة الله الثانى وكان أديبا وشاعرا وخطيبا ومؤلفا بارعا، ونفس عليه ذلك ابن عمه إبراهيم بن أحمد الأغلبى (261 - 289 هـ) وغار من سمعته الطيبة عند خليفة بغداد الرشيد فتسلل إليه خفية فى طرابلس وقضى عليه. وفى عهد هذا الأمير الأغلبى شهدت برقة سنة 265 ثورة عباس ابن والى مصر أحمد بن طولون على أبيه، واتخذها قاعدة له وجهز منها حملة كبيرة زحف بها على طرابلس، غير أن جيش عاملها الأغلبى محمد بن قرهب هزمه وردّه على أعقابه. ولم يلبث أبوه أن قضى على ثورته سنة 268 وولى على برقة عاملا يصلح فيها ما أفسده ابنه. وثار جبل نفوسة فى سنة 283 ثورة عنيفة قضى عليها إبراهيم بن أحمد الأغلبى قضاء مبرما.

وحين قضت الدولة العبيدية الفاطمية على دولة الأغالبة سنة 296 حاولت أن تبسط سيادتها على طرابلس وتم لها ذلك، وأرسل مؤسسها عبيد الله المهدى جيشا إلى برقة، فاستولى عليها من يد واليها العباسى، وكانت برقة سنّية وطرابلس إباضية، وكانتا ترفضان العقيدة العبيدية الإسماعيلية، ولم تلبث طرابلس فى سنتى 299 - 300 للهجرة أن حملت لواء الثورة فى وجه ماقنون واليها من قبل عبيد الله المهدى وفتكوا برجاله من قبيلة كتامة التى كانت تؤيد الدعوة الفاطمية وأتاحت للمهدى استيلاءه على صولجان الحكم من أيدى الأغالبة. وصمم المهدى على الانتقام من طرابلس وأهلها، فجرّد لها حملة كبيرة بحرية وبرية ولم يلبث أسطوله أن قضى على الأسطول الطرابلسى، وضرب الحصار برّا حول طرابلس حتى ساءت أحوال أهلها سوءا شديدا، فطلبوا الأمان، فأمنهم القائد أبو القاسم بن المهدى، وكان فى الجيش معه أحد أبناء طرابلس ممن كانوا قد سارعوا بالالتفاف حول المهدى، وكان ابنا عاقا فعذب أهل بلدته ونكل

ص: 30

بهم وأغرمهم ثلاثمائة ألف دينار، واستكانت طرابلس. وفى سنة 304 ثارت برقة فنكل بها العبيديون تنكيلا شديدا. وفى سنة 310 ثار الإباضيون فى جبل نفوسة ثورة عنيفة، وقضت عليها جيوش العبيديين. وتظل ليبيا غربا وشرقا خاضعة لهم إلا ثورات صغرى كثورة أبى حاتم وثورة أبى يحيى الإباضيين وقضى على الثورتين يزيد بن حاتم المهلبى (154 - 170 هـ). وحرى بنا أن نذكر أن من أهم قضاتهم الذين كانوا يرسلون بهم إلى طرابلس لنشر دعوتهم القاضى النعمان صاحب المؤلفات المشهورة فى الدعوة إلى العقيدة الإسماعيلية الفاطمية، وتبع المعز الفاطمى فى ارتحاله إلى عاصمته الجديدة: القاهرة سنة 361 للهجرة. وكان المعز قد ترك على بلاد إفريقية التونسية والمغربين الأوسط والأقصى بلكّين بن زيرى زعيم قبيلة صنهاجة، وجعل جبل نفوسة تابعا له، وفصل عن ولايته طرابلس وبرقة ملحقا لهما بمركز الخلافة فى القاهرة، وجعل لكل منهما واليا تابعا له، ولم يدم ذلك لطرابلس طويلا، فإن بلكين ألحّ على الخليفة الفاطمى العزيز (365 - 386 هـ) أن يلحقها بولايته هى ومنطقتها، وأجابه إلى أمنيته سنة 367 وولى عليها بلكّين حتى سنة 373 هـ ولاة من قبله، وخلفه ابنه المنصور ثم حفيده باديس سنة 386 للهجرة وأخذ يرسل إليها بدوره ولاة مختلفين، كان آخرهم عسيلة بن بكار سنة 390 فخانه بتسليمها إلى يانس الصقلى حاكم برقة، وأرسل إليه باديس أحد قواده على رأس جيش حاصر طرابلس. وفى هذه الأثناء تسلّل إلى طرابلس مغامر من قبيلة زناتة يسمى فلفل بن سعيد واستولى عليها وأسّس بها دولة بنى خزرون، وأخذت تكثر بها الاضطرابات والمنازعات بين أفراد الأسرة ومن الطريف أنه تأسس فى طرابلس حينئذ مجلس شورى يساعد الحاكم الخزرونى فى تصريف الأمور، وأول من رأسه على بن محمد بن المنمر، وقد قضى هذا المجلس على آثار المذهب الشيعى فى طرابلس وثبت المذهب المالكى السنى بها، وظلت أسرة بنى خزرون تحكم طرابلس حتى منتصف القرن الخامس الهجرى. وإذا ولينا وجوهنا نحو برقة فى تلك الفترة وجدنا أمويا أندلسيا يسمى أبا ركوة يدعو لنفسه فيها بالخلافة، ويتبعه بنو قرة البرقيون أصحاب الجبل الأخضر، ويحاربون معه الفاطميين ثم يتخلّون عنه ويقتل. وتظل الزعامة فى برقة لبنى قرّة طوال النصف الأول من القرن الخامس الهجرى.

ص: 31