الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمع والبصر، ورمينا فيه بأعظم الحوادث والغير، وأى رزء ما أفظعه فى القلوب، وأى خطب ما أشنعه فى الخطوب. . وقد رمانى ساعد الزمان حين رماك، وأصمانى سهمه كما أصماك. .
لا أعاد الله عليك بعد هذا الخطب خطبا، ولا أرجف لك قلبا».
والاستعارات فى التعزية والجناسات تخلو من التكلف، والسجع ينزلق فى الرسالة- كسابقتها-عن اللسان بخفة، والألفاظ فيه متآخية كأنما بينها رحم وقرابة، لما بينها من تلاؤم فى الجرس ييسّرها فى النطق على اللسان، ويزيّنها فى السمع للآذان.
4 - المقامات
فن المقامة فن عربى عباسى ابتكره بديع الزمان عارضا فيه حيل الأدباء السيارين المحترفين للكدية أو الشحاذة الأدبية عن طريق ما يخلبون به الناس من فصاحتهم، وقد كتب مقاماته بأسلوب قصصى، واتخذ لها جميعا راوية هو عيسى بن هشام وبطلا هو أبو الفتح الإسكندرى، وعيسى يروى فى كل مقامة حيلة لأبى الفتح مع شئ من حواره معه فى أساليب أدبية مسجوعة بديعة. وتلقانا فى القيروان وتونس رسائل أدبية يسميها أصحابها مقامات، وهى لا تقوم-كما قامت عند بديع الزمان والحريرى بعده-على الكدية أو الشحاذة الأدبية، مما يجعل فى تسميتها مقامات ضربا من التجوز. ومن أقدمها فى القيروان رسالة نقدية لابن شرف سماها «رسائل الانتقاد» عرض فيها نحو أربعين شاعرا منذ العصر الجاهلى حتى عصره، وأتبع ذلك ببحث فى سقطات عدد من الشعراء وعيوبهم. وأحكامه على الشعراء مجملة وغير معللة غالبا، وهى بذلك ليست مقامة وإنما هى رسالة نقدية ولا نسمع بعد ذلك عن عمل لقيروانى حاكى به قصص الشحاذة الأدبية عند بديع الزمان والحريرى، حتى إذا كنا فى العصر العثمانى وجدنا غير شاعر ينسب إليه بعض المقامات، وأول ما يلقانا من ذلك ثلاث (1) مقامات للشاعر على الغراب الصفاقسى المترجم له بين شعراء المديح، وأولاها تسمى المقامة الباهية نسبة إلى الشيخ أبى العباس أحمد الباهى فى إتمامه مدرسة أحدثها لعهد الأمير على باى الأول، وقد حدثه بها أبو الصلاح مسعود عن أبى الثناء محمود الذى روى له أخبار تونس مفيضا فى مديحها ومديح الأمير على باى الأول. ثم يفيض فى وصف المدرسة ومبانيها وغرفها وصفا مسهبا، ثم يطنب فى تهنئة الشيخ الباهى وابنه بإتمام المدرسة ويختم المقامة بقصيدة فى مديح الشيخ. وواضح أن هذه المقامة ليس لها من فن المقامة شئ، أما فى حقيقتها فإنها رسالة تهنئة للشيخ الباهى المسماة باسمه. وسمى مقامته الثانية باسم المقامة الهندية نسبة إلى الهندى وهو التين الشوكى، وكان شخص ذمه فأخذ يبدئ ويعيد فى وصفه ووصف نموه على شجره قبل قطفه والالتذاذ
(1) انظر المقامات فى ديوانه ص 331 وما بعدها.
بطعامه، وحاكى المقامة أبو سنان الهندى عن أبى عاصم الهندى، وليست مقامة إنما هى رسالة فى وصف التين الشوكى، ومقامته الثالثة اتخذ موضوعها عباءة كان كلّف حمودة بن عطاء الله بحملها وغسلها فأبطأ بها عليه، فكتب إليه هذه المقامة مداعبا، وفيها يقول:
«المسئول من علىّ همتكم وشريف حرمتكم أن العباءة إذا كانت فى دائرة الوجود وعلى الوجود مشتملة، فأسرع إنفاذها على الحال اللازمة لها أو المنتقلة، وإلا فأخبرنا لنعرض عنها ونقول:
{عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها} فإن الشتاء أرسل يخبرنا بموافاته. . وهذه العباءة غاشية (1) لجميع أهل بيتنا فى البرد، كافية للجمع منهم والفرد، ومنذ فقدت زمن ذلك الحر الكثير، لم يسألنى عنها منهم صغير ولا كبير، بل كلما أمال النوم رقابهم غلّقوا أبوابهم {وَاِسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ} ولما أن قطّب وجه الشتاء وعبس، وقد أصبح أنفه يتنفّس، صاروا كلما أقبلت ليلة شاتية، تتقلّب جنوبهم فى المضاجع كل ناحية، وقاموا قبل الفجر يسألوننى {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ} وجعلوا يتأسفون على فقرهم إليها ويقولون:{يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها}
وليس الحديث عن هذه العباءة مقامة إنما هو رسالة أراد بها إلى الدعابة، ونراه فى هذه القطعة من الرسالة يقتبس مرارا من القرآن الكريم آيات يزين بها أسلوبه، وهو يكثر من ذلك فى مقاماته كما يكثر من التصنع لمصطلحات العروض والعلوم وخاصة النحو. وفى هذه القطعة من مصطلحاته الحال اللازمة والمنتقلة، وأيضا فإنه يكثر من التوريات، ويتكلف لذلك كله فى صور مختلفة.
وللشاعر محمد الورغى ثلاث (2) مقامات أيضا، سمى أولاها الباهية، وهى تتطابق مع المقامة الباهية لعلى الغراب فى أنها تتخذ موضوعها مديح الشيخ الباهى وابنه اسماعيل وهى بذلك مثل مقامة الغراب رسالة لا مقامة. وسمّى مقامته الثانية الورغية كتبها حين ختن على باى الثانى أولاده وأولاد أخيه محمد الرشيد، وفيها يفتخر بشعره ويضع نفسه فوق شعراء عصره، ويعارض قصيدة أحدهم ويتناولها بالنقد، وهى أيضا لا تشبه فن المقامة فى شئ إلا فى نسبتها إليه. وسمى المقامة الثالثة المقامة الخمرية كتبها حين هدم الأمير على باى الثانى الحانات فى عاصمته تونس، وجعل بطلها سعد السعود مكنيا به عن نفسه، وحاور فيها فتاة رامزا بها عن تونس، ويستهلها بقوله (2):
«يا رواة الأخبار، وحملة القول المختار، شمل الله جمعكم بسلام، وجمع شملكم فى دار السلام (3). خير المتكلمين من حدّث بما نفع، وخير السامعين من أحرز وجمع، وخير ما قيل من
(1) الغاشية: الغطاء.
(2)
انظر فى هذه المقامات كتاب الأدب التونسى فى العهد الحسينى ص 154 وما بعدها.
(3)
دار السلام: الجنة.