المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ا دولة الموحدين - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌ا دولة الموحدين

النورمان-كما مرّ بنا آنفا-يغزون المهدية سنة 517 ويعيدون الكرة سنة 543 بقيادة روجار الثانى ويظلون بها نحو اثنى عشر عاما ويستولون على ساحل إفريقية التونسية الشرقى ومدنه:

قابس وصفاقس والمنستير وسوسة، وينزل روجار فى قصور المهدية الشامخة، ويتخذ فيها دواوين لحكم تلك المدن وإدارتها إلى أن خلصته‌

‌ا دولة الموحدين

سنة 555 هـ/1160 م. وكل ما حدث من ذلك إنما كان بسبب هجرة الأعراب الكبيرة إلى إفريقية وما نشأ عنها من تفتت قواها فى عهد إماراتها أو دولها الصغرى، فإذا روجار الثانى ملك صقلية يغزوها ولا يجد على أسوارها من كانوا يحمونها ويسحقون أعداءها سحقا.

5 -

دولة (1) الموحدين-الدولة الحفصية

(أ) دولة الموحدين

أنشأ هذه الدولة ابن تومرت المصلح الدينى المغربى الذى زار المشرق وتتلمذ فيه على الأشعرية وغيرهم، ورجع إلى المغرب، فنظم فيه ثورة واسعة ضد دولة المرابطين المغربية وفقهائهم المالكية، وتبعه كثيرون، وسمّى جمهورهم باسم الموحدين، وإليهم نسبت الدولة. وبدأ منازلة المرابطين سنة 524 هـ/1129 م غير أنه توفى سريعا فخلفه عبد المؤمن بن على وهو يعد المؤسس الحقيقى لتلك الدولة، وقد استطاع القضاء على دولة المرابطين وأخذ يتملك الأندلس منذ سنة 540. وذكرنا-آنفا-أن الحسن بن على آخر أمراء الدولة الصنهاجية استنجد به حين استولى منه روجار الثانى على المهدية وساحل إفريقية التونسية الشرقى، وما إن علم بجلية الأمر حتى امتلأ غيظا ولباه بجيش جرار سنة 553 هـ/1158 م ومضى يفتح مدن المغرب الأوسط. الجزائر وبجاية وقسنطينة وبعض مدن إفريقية التونسية، وكان بنو خراسان يحكمون تونس ففتحها عنوة سنة 554 هـ/1159 م ورافقه فى هذه الرحلة أسطول كبير، وتقدم إلى المهدية وحاصرها بجنوده برا وبأسطوله بحرا، وطال الحصار إلى ستة أشهر، واحتلها عبد المؤمن يوم عاشوراء سنة 555 هـ/1160 م وأقطعها الأمير الحسن بن على الصنهاجى وأشرك فى حكمها أحد الموحدين. ونقل عبد المؤمن عاصمة إفريقية التونسية منها إلى مدينة

(1) انظر فى دولة الموحدين البيان المغرب والجزء الرابع من تاريخ ابن خلدون والمن بالامامة لابن صاحب الصلاة والمعجب للمراكشى وتاريخ الدولتين الموحدية والحفصية للزركشى وأعمال الأعلام لابن الخطيب والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصرى وعصر المرابطين والموحدين لمحمد عبد الله عنان.

ص: 130

تونس، وتظل عاصمة للبلاد إلى اليوم ويقيم فيها دواوين الحكم، ويطبق فيها وفى ولايتها ما اتخذه فى دولته بالمغرب من التراتيب المخزنية فى تنظيم المصالح الحكومية وظلت هذه التراتيب قائمة إلى نهاية حكم الدولة الحفصية، ويتوفى سنة 558 هـ/1162 م ويخلفه ابنه يوسف وتظل إفريقية التونسية هادئة لعهده حتى إذا كانت سنة 575 هـ/1179 م ثار عليه بنو الرّند فى قفصة بشط الجريد فخرج إليهم وتغلب سريعا عليهم، وعاد إلى عاصمته: مراكش وتوفى سنة 580 وخلفه ابنه يعقوب وكان من وزرائه الشيخ عبد الواحد جد الحفصيين، وكان تقى الدين بن أخى صلاح الدين الأيوبى فكر فى الاستيلاء على ليبيا وإفريقية التونسية للاستعانة بهما فى حرب الصليبيين، وكلف بهذه المهمة قراقوش وابن قراتكين، واستولى الأول على مدينة قابس واستولى الثانى على مدينة قفصة، وفى هذه الأثناء فكر بنو غانية ولاة المرابطين فى جزر ميورقة ومنورقة ويابسة أن يثأروا لدولتهم من الموحدين، وتسلّل منهم إلى إفريقية التونسية على وأخوه يحيى يريدان أن يقيما فيها دولة ويعدّا جيشا للانقضاض على الموحدين. وعلم يعقوب بما يحدث فى إفريقية التونسية فخرج إليها فى جيش جرار سنة 583 هـ/1187 م وظل طوال طريقه يبنى فى سائر أعماله المارستانات للمرضى والمساجد للمصلين وانقضّ على قفصة وقتل ابن قراتكين كما انقض على قابس ولم يجد بها قراقوش واستولى على أمواله وأهله مما اضطره إلى إعلان طاعته، أما ابنا غانية فحين علما بمقدم يعقوب انسحبا إلى شط الجريد وفيه لقى على مصرعه سنة 584 هـ/1188 م. وعاد يعقوب إلى عاصمته، وأخذ ينهمك فى الإعداد لموقعة الأرك التى سحق فيها سنة 591 هـ/1195 م ملك قشتالة ألفونس الثامن ومن تجمع له من حملة الصليب الهولنديين والإنجليز، وازداد حينئذ عيث يحيى بن غانية واستولى على شط الجريد والقيروان وطرابلس وقابس وصفاقس وتونس، وتوفى يعقوب سلطان الموحدين سنة 595 هـ/1198 م وتولى ابنه الناصر وظل يفكر فى شأن يحيى ورأى أن يرسل حملة بحرية كبرى إلى أخيه عبد الله فى جزائر البليار (ميورقة ومنورقة ويابسة) حتى يجتث جذور جرثومة الفساد واستولى عليها أسطوله سنة 600 هـ/1203 م وصمّم بعد ذلك على قطع فروع الجرثومة فى إفريقية التونسية واستئصال يحيى بن غانية، فخرج فى جيش جرار ومعه وزيره أبو محمد عبد الواحد بن يحيى بن أبى حفص سنة 602 هـ/1205 م وأوقع بيحيى هزيمة ساحقة بالقرب من مدينة قابس، واسترجع مدينة المهدية وغيرها من المدن التونسية، وعاد إلى مراكش سنة 603 واستخلف أبا محمد عبد الواحد بن يحيى بن أبى حفص على تونس (إفريقية التونسية) وطرابلس، وأخذ زمام الأمور بها يتجمع ويستقر فى يده ويد أبنائه، وكأنما كان حكمه لتونس وطرابلس تمهيدا قويا لقيام الدولة الحفصية، وقد نازل يحيى بن غانية فى نواحى طرابلس وهزمه وفرّ جريحا.

ص: 131

(ب) الدولة (1) الحفصية

استقام حكم عبد الواحد فى تونس وطرابلس وأحبه الناس وعظّموه إلى أن توفى سنة 618 هـ/1221 م وخلفه ابنه عبد الرحمن، وعزله سريعا سلطان الموحدين وولّى أخاه عبد الله، فعهد لأخيه أبى زكريا يحيى بحكم قابس سنة 620 هـ/1223 م ولم يلبث أن غضب عليه ونهض لحربه، وخالفه بعض القواد، والتحقوا بجيش يحيى وتمت له الغلبة على أخيه، فدخل تونس سنة 625 هـ/1227 م وبايعته بمجرد دخوله، وأخذ يعمل على الاستقلال بولايته وكان مما حفزه على ذلك أن أبناء سلطان الموحدين يعقوب العظيم صاحب موقعة الأرك وأبناء عمومتهم أخذوا يتصارعون على الملك والحكم وأخذت دولة الموحدين تضعف ضعفا شديدا وسرعان ما قطع أبو زكريا اسم سلطان الموحدين من خطب الجمعة وجعلها باسمه سنة 627 هـ/1229 م وبذلك أعلن قيام دولته الحفصية واستقلاله نهائيا عن دولة الموحدين. وفى سنة 628 هـ/1230 م وقع مع فريدريك الثانى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة-تفاديا لغارات أسطوله على ساحل تونس-معاهدة اعترف فيها بتملك فريدريك لجزيرة قوصرة (بنطلارية) بعد أن ظلت تابعة لإفريقية التونسية خمسة قرون وكان من شروط المعاهدة أن تظل الدولة الحفصية تأخذ نصف جبايتها وظل هذا الشرط ساريا طوال حياة أبى زكريا، وبمجرد وفاته انتقض هذا الشرط وأجبر المسلمون فيها وفى مالطة وصقلية على الخروج منها جميعا إلى العدوة الإفريقية، ومن بقى أجبر على اعتناق النصرانية. وظل أبو زكريا يتعقب يحيى بن غانية حتى توفى فى برية تلمسان سنة 631 هـ/1233 م. وفى سنة 634 هـ/1236 م بايعت تونس أبا زكريا ثانية، ويقال إنه أعلن حينئذ قطع اسم سلطان الموحدين من خطب الجمعة أو خليفتهم وذكر اسمه فيها. وكأن بدء قيام الدولة الحفصية إنما كان فى سنة 634 هـ والرأى الأول أكثر سدادا.

وتعاظمت حملات نصارى الإسبان ضد عرب الأندلس وأخذت مدنهم الكبرى تسقط فى

(1) انظر فى الدولة الحفصية البيان المغرب لابن عذارى وتاريخ ابن خلدون ومعالم الإيمان للدباغ وابن ناجى والمؤنس فى أخبار إفريقية وتونس لابن أبى دينار ورحلة التجانى ورحلة العبدرى والفارسية فى مبادئ الدولة الحفصية لابن قنفذ والحلل السندسية فى الأخبار التونسية للوزير السراج وخلاصة تاريخ تونس للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وكتابه ورقات عن الحضارة العربية وتاريخ إفريقية فى العهد الحفصى لروبار برنشفيك وراجع فيه خاصة علاقات حكام الدولة الحفصية مع أمراء وحكام صقلية وموانئ إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.

ص: 132

حجورهم فأرسل إليه زيان بن مردنيش صاحب بلنسية سنة 635 هـ/1237 م وفدا يستنجده لنصرته ضد أعداء الاسلام، كان فيه أبو عبد الله بن الأبار، وأنشده قصيدة فريدة منها قوله:

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

ولبّاهم بأسطول محمّل بالأغذية والأسلحة، ووقعت فى أيدى النصارى. وقد ابتنى جامع القصبة فى تونس وصومعته ونقش عليها اسمه، وحين تمّت أذّن فيها بنفسه، وأنشأ فى قصره دارا للكتب جمع فيها ستة وثلاثين ألف مجلد فى مختلف العلوم والآداب. وكان عادلا حسن السيرة كما كان فقيها وشاعرا أديبا، وكان يأخذ نفسه بالتقشف والزهد فى متاع الحياة، وجمع للدولة بعدله وسياسته الرشيدة أموالا طائلة، وأخذت تونس (إفريقية التونسية) تستعيد مجدها وشخصيتها القوية أيام الأغالبة والصنهاجيين، ونفقت سوق العلم والأدب وكثر العلماء والشعراء وتوفى أبو زكريا سنة 647 هـ/1249 م.

وخلفه ابنه المستنصر محمد وكان أبوه عنى بتربيته فدبّر أمور الدولة تدبيرا محكما وانتعشت تونس فى عهده. ولما قضى التتار فى بغداد على الخلافة العباسية وقتلوا الخليفة العباسى سنة 656 هـ/1258 م وأصبح المسلمون بدون خلافة وخليفة جاءته فى سنة 657 هـ بيعة أمير مكة بالخلافة بإنشاء عبد الحق بن سبعين صوفىّ الأندلس، وكان مجاورا هناك فقرئت على الملأ واحتفل بها احتفالا عظيما، ومن حينئذ تلقب بأمير المؤمنين، وبايعه بنو مرين بفاس. وفى ذى القعدة سنة 668 هـ/1269 م غرّت الأمانىّ لويس التاسع بعد تنكيل مصر به وبحملته المشهورة، فقاد حملة كبيرة هاجم بها تونس برا وبحرا، وحاصرها ستة أشهر، ودفن تحت أسوارها، وعادت الحملة مدحورة إلى البحر المتوسط وما وراءه بعد أن أغرمها المستنصر مالا كثيرا. ومن أعماله الجليلة بناء الحنايا التى كان يجرى عليها الماء إلى مدينة قرطاجة من زغوان فى أيام الرومان وأصلح ما أفسده الزمن منها، ومدّها فى تونس إلى السقايات المختلفة: جامع الزيتونة وغيره، وازدهرت الحياة والحضارة بتونس لعهده ازدهارا عظيما. وتوفى سنة 675 هـ/1276 م وتولّى بعده ابنه يحيى الواثق وكان حسن السيرة غير أن عمه أبا إسحاق إبراهيم ثار عليه سنة 678 واستولى على أزمة الحكم، وخرج عليه فى سنة 681 هـ/1282 م ثائر يسمى أحمد بن مرزوق المسيلى ادّعى أنه الفضل ابن أمير المؤمنين الواثق بن المستنصر، وتمكن من الاستيلاء على تونس بمساعدة أعراب قابس الهلاليين، وبعد سنة ونصف من حكمه تصدّى له الأمير عمر أخو الواثق وجمع له جموعا سنة 683 هـ/1284 م وقبض عليه وقتله، وتولى شئون الحكم. وسرعان ما خرج عليه بالجزائر ابن عمه يحيى بن إبراهيم واستقل ببجاية وقسنطينة، وتوفى عمر سنة 694 هـ/1204 م وخلفه أبو عصيدة محمد بن الواثق وحاول استرجاع القسم الشرقى فى الجزائر وأخفق، وتوفى سنة 709 هـ/1309 م دون عقب واضطربت

ص: 133

الأمور فى تونس، واستطاع أبو يحيى زكريا بن اللحيانى أن يستولى على زمام الأمور سنة 711 هـ/1311 م وكان شيخا كبيرا، فتخلى عن الحكم لابنه أبى ضربة، وحاربه أمير قسنطينة الحفصى أبو بكر سنة 718 هـ/1318 م وهزمه وقبض على صولجان الحكم فى تونس وتلقب بالمتوكل على الله، وخرج عليه بعض الأمراء من أسرته وأمدهم بنو زيان أمراء تلمسان من بنى عبد الواد، فأصهر إلى سلطان بنى مرين فى المغرب الأقصى، وهاجم معه ديار هذه الإمارة أو المملكة سنة 720 هـ/1320 م واقتسماها فيما بينهما. وصفا له الجو حتى وفاته سنة 747 هـ/1346 م وأخذ يعنى بالحركتين العلمية والأدبية وازدهرت لعهده، كما عنى بشئون الزراعة والصناعة والتجارة، فازدهرت جميعا، ومما يدل على هذا الازدهار ما ذكره المؤرخون من أن عدد دكاكين العطارين وحدهم فى أيامه بلغ فى تونس سبعمائة دكان. وبويع بعده لابنه أبى حفص الثانى، وثار عليه أخوه أبو العباس. وانتهز السلطان المرينى أبو الحسن فرصة هذه الفتن فاتجه فى جيش جرار إلى تونس سنة 748 وفتك بسلطانها أبى حفص، واستقام له ملك المغرب الأوسط، والأدنى لمدة سنتين ونصف، غير أنه لم يحسن السياسة مع الأعراب كما كان يحسنها سلاطين تونس فثاروا عليه ونازلوه فى تونس وهزموه، وجاءه الخبر بأن ابنه أبا عنان ثار عليه فى مراكش، فعاد سريعا إلى عاصمته سنة 750 هـ/1349 م. وعادت تونس للحفصيين، وتولّى زمام الخلافة والحكم الفضل بن أبى بكر الحفصى، ودبّر له الحاجب القديم الشرير ابن تافراجّين مؤامرة قتل فيها، وتولى أخوه أبو إسحاق إبراهيم سنة 751 هـ/1350 م واتخذ ابن تافراجّين حاجبا له، واضطربت عليه الأمور إلى أن توفى ابن تافراجّين سنة 766 ولم يلبث أن توفى سنة 770 هـ/1368 م. واستولى على زمام الأمور فى تونس أبو العباس أحمد الحفصى سنة 773 هـ/1370 م وهو من خيرة الحكام الحفصيين قمع الأعراب وأهل الفساد، واسترجع ما ضاع من الدولة فى أثناء الفتن مثل المهدية وسوسة وقابس وشط الجريد وجزيرة جربة، وساد الأمن والعدل فازدهرت البلاد. وفى أيامه غزا الجنويون والفرنسيون المهدية فى ثمانين قطعة، ودافعهم عنها جيشه وردهم على أعقابهم خاسرين، وتوفى سنة 796 هـ/1303 م بعد ما أعاد لتونس ما كان لها من هيبة وقوة.

وخلفه ابنه أبو فارس عبد العزيز، وفيه يقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب:«هذا السلطان درة عقد الدولة الحفصية وفخر من مفاخر البلاد التونسية، سار بعدل وتدبير وسياسة، فازدهت إفريقية (التونسية) فى أيامه، وبلغت شأوا بعيدا فى الثروة والعمران» . وقد بدأ عهده بإخضاع طرابلس وقابس وقفصة والجريد وبسكرة والصحراء، وكان بنو سليم قد أكثروا من الثورات فقلّم أظفارهم، واستصرخوا سلطان فاس المرينى بالمغرب الأقصى فأرسل لهم جنودا من عنده وانضم إليهم أمير بجابة الحفصى ابن أبى زكريا، واتجهوا بجموعهم إلى تونس سنة 812 هـ/1409 م فهزمهم وقتل الثائر الحفصى، وصمم على الثأر من السلطان المرينى،

ص: 134

فلما شارف عاصمته «فاس» أرسل إليه بالطاعة، فعفا عنه ونصحه أن يحكم بالعدل الذى لا تستقيم حياة الرعية بدونه. ورجع إلى عاصمته بعد أن دان له شمال إفريقية بالسمع والطاعة. وفى سنة 835 هـ/1432 م احتلّ ملك أرجون جزيرة جربة وأنجدها ولاذ المحتلون بالفرار. وقد أنشأ طائفة من القلاع والمحارس لحماية السواحل والثغور، وبنى مارستانا للمرضى والعجزة، وأنشأ لنفسه قصرا بضاحية باردو فى تونس وأحاطه بحديقة بديعة وشيد فيه خلفاؤه الحفصيون والعثمانيون قصورا وحدائق أنيقة. ومن مآثره الجليلة تشييده مكتبة لطلاب العلم فى أحد أروقة جامع الزيتونة إلى الشمال وجمع لها آلافا من المجلدات وقفها عليها، وقد نحّى عن كاهل الشعب كثيرا من الضرائب الفادحة وبسط العدل والأمن، وتوفى سنة 837 هـ/1434 م.

وتولى بعده حفيده محمد المنتصر، وأنشأ مدرسة سميت المدرسة المنتصرية، وبنى زاوية الشيخ الصالح أحمد بن عروس وتوفى بعد عام وشهرين، وخلفه أخوه أبو عمرو عثمان سنة 839 هـ/1435 م وظلّل العدل والأمن والاستقرار الرعية طوال حكمه الذى امتد إلى نحو أربعة وخمسين عاما إذ توفى سنة 893 هـ/1488 م وقد قمع ثورة لعمه أبى الحسن فى قسنطينة وبجاية، وثارت عليه تلمسان وأعادها إلى طاعته، وكان أخوه المنتصر توفى ولم يكمل مدرسته المنتصرية فأكملها، وشيد لنفسه مدرسة كبيرة جعل فيها مسجدا للصلاة وغرفا للدراسة ومساكن للطلبة وسماطا يمتدّ كل يوم للفقراء، ووقف عليها ما يكفيها ويكفى من بها من العلماء والطلبة، وبنى ثلاثة مكاتب لقراءة القرآن، وعنى بإنشاء مكتبة عمومية فى أحد أروقة جامع الزيتونة، وأتمها بعده حفيده أبو عبد الله محمد، ونسبت إليه فسميت العبدلية. ومن حسناته كتابة مصحف بخطّ يده فى عدة أسفار جعله بجانب نسخة البخارى التى وقفها أبوه فى جامع الزيتونة. وخلفه حفيده أبو زكريا، لمدة ست سنوات، ووليها بعده أخوه أبو عبد الله محمد الذى أتمّ المكتبة العمومية التى ابتدأها جده كما أسلفنا.

وكانت الدولة العثمانية قد عظم شأنها وأصبح لها أسطول ضخم ينافس الأسطول الإسبانى أقوى أساطيل أوربا حينذاك فى البحر المتوسط، وكان لها أميران من أمراء البحر هما الأخوان:

عرّوج وخير الدين ويسميه الإفرنج بربروسة، وكانا يشتغلان بالقرصنة لحساب الدولة العثمانية، وتقدما إلى الأمير أبى عبد الله محمد الحفصى المذكور آنفا طالبين منه الموافقة على أن يتخذا من جزيرة جربة قاعدة لأعمالهما البحرية ضد السفن الإسبانية لتخليص مدينة الجزائر من احتلال الإسبان على أن يكون له الخمس من غنائمهما، وقبل منهما هذا العرض، وظل ذلك مدة، وحدث أن استطاع عروج وخير الدين تخليص مدينة الجزائر فعلا من يد الإسبان واتخذاها منذ سنة 916 هـ/1511 م قاعدة لأعمالهما البحرية واستغنيا عن جزيرة جربة التونسية. وكانت الدولة التونسية قد أخذت فى التدهور والضعف الشديد لعهد الأمير أبى عبد الله محمد، ورأى

ص: 135

ذلك خير الدين رأى العين، وتوفى الأمير أبو عبد الله سنة 932 هـ/1526 م وخلفه ابنه الحسن فرأى خير الدين أن يزحف إلى تونس من الجزائر، ويضمها إلى الدولة العثمانية كما ضم إليها الجزائر، وزحف إليها فعلا واستولى عليها سنة 935 هـ/1529 م فلجأ الأمير الحفصى الحسن إلى كارلوس الخامس ملك إسبانيا، فرآها فرصة عظيمة، وقدم معه سنة 943 هـ/1537 م ودخل مع الحسن تونس عنوة، وفرّ خير الدين بجنده إلى الجزائر وأذن كارلوس لجنده بنهب تونس، فاستباحوا حماها، وأجلس الحسن على عرشها وأشرك معه فى الحكم أحد قواده، وعقد معاهدة معه بمقتضاها يتنازل للإسبان عن بعض المدن التونسية سوى ما اشترطه عليه من دفع أموال باهظة سنويا، وثار على الحسن ابنه أحمد حاكم عنابة (بونة) وانضم إليه كثيرون. وبعد قتال عنيف استولوا على تونس وسملوا عينى الحسن، ففقد بصره وفر إلى القيروان وتولى ابنه أحمد مكانه، واستولى الإسبان على المهدية والمنستير وجزيرة جربة والقيروان وكان أهل طرابلس قد استغاثوا بالدولة العثمانية فأزاحت عنهم فرسان مالطا كما ذكرنا فى حديثنا عن ليبيا. سنة 958 هـ/1551 م بفضل أسطول درغوت الذى كان مرابطا أمام الجزائر، وقد استطاع أن يفتكّ المهدية والقيروان وجربة والمنستير من أيدى الإسبان وأقام بكل منهما حامية عثمانية ونائبا، وكان خير الدين (بر باروسة) قد حرّر الجزائر من الإسبان وأصبحت ولاية عثمانية، فأرسل الأمير أحمد الحفصى إلى واليها سنة 977 هـ/1570 م أحد وزرائه يستنجد به ضد الإسبان، فانتهز الفرصة وقدم بجيش استولى به على تونس وأخذ البيعة فيها للسلطان العثمانى، فاستنجد الأمير الحفصى أحمد بالإسبان أعدائه فأعادوا الحماية وعرف الأمير أحمد خطأه، فترك الحكم لأخيه محمد سنة 980 هـ/1573 م ورحل إلى صقلية وظل بها إلى مماته، وخضع محمد للحماية الإسبانية، وأشرك الإسبان فى الحكم الكنت سربلونى وازدادوا عسفا وعتوا، وتكررت استغاثة التونسيين بالدولة العثمانية، فأرسلت إليهم فى سنة 981 هـ/1573 م قوة عثمانية كبيرة بقيادة الوزير سنان باشا، ففتك بالحامية الإسبانية فتكا ذريعا وطرد بقيتهم من البلاد إلى البحر المتوسط وما وراءه، وأرسل بالأمير الحفصى محمد إلى الأستانة فظل معتقلا بها إلى وفاته.

وبذلك انتهت الدولة الحفصية بعد أن حكمت تونس نحو ثلاثمائة وخمسين عاما.

ص: 136

6 -

العهد (1) العثمانى

كانت فاتحة أعمال سنان باشا بعد تحريره القطر التونسى أن أعلن إلحاقه بالدولة العثمانية، فأصبحت إحدى ولاياتها فى إفريقية الشمالية الممتدة من مصر إلى الجزائر، وأخذ يرسى النظام الذى سيقوم على أسسه الحكم فى تونس، فنظم الديوان الذى تجتمع فيه الهيئة الحاكمة للنظر فى شئون الجند والولاية، وقدّر الرواتب، ورتّب لجباية الأموال مشرفا باسم الباي، وجعل للبلاد حامية عسكرية عدادها أربعة آلاف جندى من الانكشارية، وهم جند الدولة الذين كانت تربيهم تربية إسلامية عسكرية، وكانت تجلبهم من الأناضول ومن سباياها فى أوربا، وجعل على كل مائة منهم أميرا يسمى «الداى» وجعل عليهم رئيسا هو الأغا، وانتخب بعض الأعيان من البلاد لمشاركة الديوان فى الحكم، وضرب السكة باسمه. ولما أنهى كل هذه الترتيبات وخطب الخطباء فى تونس باسم السلطان العثمانى عاد إلى إستانبول دار دولته وحكومته. وعينت إستانبول لتونس واليا بلقب باشا، ولم يلبث الدايات أن شغبوا على الوالى سنة 999 هـ/1591 م واتفق الرأى على اختيار أحدهم ليكون له الرأى النافذ فى شئون الانكشارية، وسرعان ما أخذ هؤلاء الدايات يتسلطون على الحكم فى تونس ويعينون الوالى منهم وتضطر الدولة إلى قبول الواقع، وأول داى مهم منهم تولى شئون البلاد عثمان داى، وكان من خيرة الجند الذين رافقوا سنان باشا، وقد تولاها سنة 1007 هـ/1599 م فسنّ قوانين وطّد بها الأمن والعدل فى البلاد، وأشرف على القرصنة فى البحر المتوسط وعظم حظ تونس من غنائمها الوافرة، وفى أيامه سنة 1016 هـ/1609 م أخرج الإسبان من بقى بديارهم من الأندلسيين إلا من تنصر أو تظاهر بتنصره، فهاجر منهم آلاف إلى تونس، وأكرمهم عثمان داى، إذ أقطع ذوى اليسار منهم ما اختاروه من الأراضى ووزع على المحتاجين منهم الأموال والنفقات فانتشروا فى أرجاء البلاد وأخذوا يؤسسون فيها المدن والقرى وينشئون المصانع والمزارع والبساتين، وبذلك أحدثوا فى إقليم تونس نهضة عمرانية وصناعية وزراعية، ويقال إن

(1) انظر فى العهد العثمانى بتونس كتاب المؤنس فى أخبار إفريقية وتونس لابن أبى دينار والحلل السندسية فى الأخبار التونسية للوزير السراج وذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان لحسين خوجه تحقيق الطاهر المعمورى (طبع تونس) ورحلتى العياشى والناصرى ودائرة المعارف الإسلامية فى مادة تونس وما بها من مراجع تاريخية عن العصر التركى وخلاصة تاريخ تونس للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب.

ص: 137

المهاجرين منهم فى عهد عثمان داى كانوا يبلغون ثلاثين ألفا، ولم يلبث أن توفى سنة 1019 هـ/1611 م ودفن بزاوية ابن عروس. وخلفه يوسف داى، واستمر نزول المهاجرين الأندلسيين فى البلاد وأفاءوا عليها عمرانا وفيرا، وقد استرد جزيرة جربة من والى طرابلس العثمانى، واتفق على تسوية الحدود بين تونس والجزائر، ومن أعماله إنشاؤه جامعه الكبير ومدرسة سميت المدرسة اليوسفية نسبة إليه، وتنظيمه أسواق المتاجر، ونشط الأسطول التونسى لأيامه بقيادة قبطانه مراد، ويقال إنه غنم فى إحدى غاراته البحرية تسعين سفينة.

وتوفى يوسف داى سنة 1040 هـ/1631 م وخلفه القبطان مراد رئيس البحر، وفى أيامه تمتعت تونس بحياة رغدة آمنة فأحبه الناس، وعمل على أن تظل ولاية تونس فى بيته فتنازل عن الحكم لابنه حمودة، وأقرت الدولة العثمانية صنيعه، وبذلك أصبح حكم تونس وراثيا فى أسرته، وكان عهده وعهد ابنه حمودة عهدا هنيئا فى تونس واستطاعت كتيبة الصبائحية أن تقضى على العصاة قضاء نهائيا فى عهد حمودة فأمنت السبل وعاش الناس فى اطمئنان سابغ أو غامر فى جميع أنحاء الإقليم، ومن أعماله بناء جامع بديع بجوار زاوية أحمد بن عروس وصومعة أنيقة لجامع الزيتونة ومارستان للمرضى، وعنى بقصور الحفصيين فى باردو. واشتهرت زوجته عزيزة حفيدة الداى عثمان بأعمال بر كثيرة، من ذلك أنها حبست وقفا كبيرا على مارستان كان خاصا بمرضى الأعصاب، ولذلك سمى دار الدراويش، ومن الطريف أنها خصّت قسما من الوقف بالعود والرباب والضاريين عليهما ترويحا لأولئك المرضى، وبذلك سبقت الطب الحديث إلى تبين تأثير الموسيقى فى مداواتهم وتهدئة أعصابهم. وتوفى حمودة المرادى سنة 1076 هـ/1666 م وخلفه ابنه مراد وكان حسن السيرة وقبض بقوة على زمام الأمور، وسمع بأن جنود الانكشارية فى طرابلس قتلوا الوالى فذهب إليهم ونكّل بهم، وأجلس ابنا له فى عمله.

وتوفى سنة 1086 هـ/1676 م. وولى بعده خلف سئ شاع فى أيامهم البغى والظلم، وتنازعوا فى الاستيلاء على الحكم واستعان بعضهم بالجزائر، ودخلت جنودها تونس غير مرة، مما جعل الداى إبراهيم الشريف يفتك بآخر أمرائهم سنة 1114 هـ/1703 م. وبذلك انقرضت الدولة المرادية، وعاود الجزائريون الكرة على البلاد التونسية، وهزموا إبراهيم الشريف.

وجزع أهل الحل والعقد فى تونس من الشيوخ وغيرهم، واتفقت كلمتهم على إسناد الدولة للباى حسين بن على وكان قد تقلد وظائف حربيّة وإدارية مختلفة للأسرة المرادية، ولم يجد بدا من النزول على رأيهم وإرادتهم. وفرح به أهل تونس وبايعوه فى ربيع الأول سنة 1117 هـ/يولية 1705 م. وبدأ أعماله بإصلاح سور تونس وتحصين قلاعها، ولم يلبث الجيش الجزائرى أن خيّم بالقرب من تونس فدارت الحرب وثبت التونسيون، وتقهقر الجزائريون إلى بلادهم. وأخذ الإقليم التونسى يعيش فى أيامه حياة رغدة آمنة وانتعشت المزارع والمتاجر والمصانع، وأخذ يعنى بإنشاء المدارس، فأنشأ فى تونس مدرستين كما أنشأ مدرسة فى كل من

ص: 138

القيروان وسوسة وصفاقس ونفطة، واتخذ قصر باردو مقرا لحكومته وبنى به قصرا ومسجدا.

ورضيت عنه الدولة العثمانية فجعلت ولاية تونس وراثية فى أسرته، ولم يكن له ولد فى أول أمره فتبنّى ابن أخيه على بن محمد، وعنى بتربيته وجعله وليا لعهده ثم رزق بابنيه محمد وعلى، فنقل ولاية العهد منه إلى ابنه محمد الرشيد وجلب لعلى ابن أخيه من الدولة العثمانية لقب الباشا، ولكن عليا ظل غاضبا، ووصل إلى الجزائر، فشجعه حاكمها العثمانى على مغاضبة عمه وأمده بجيش جرار، زحف به إلى الإقليم التونسى والتقى بجيش لعمه وانتصر عليه سنة 1147 هـ/1735 م ودخل تونس وتقلد شعار الولاية، وأصبح تابعا لوالى الجزائر العثمانى يؤدى إليه الخراج، أما عمه حسين باى فإنه نجا مع ابنيه إلى القيروان وأخذ يعد جيشا للقاء ابن أخيه حتى إذا كانت سنة 1153 هـ/1741 م التقى الجيشان جنوبى القيروان ودارت الدوائر على جيش حسين وقتل فى المعركة. وأصبح على واليا لتونس دون منازع. وكان البحارة الجنويون يقيمون فى مرسى طبرقة بالشمال الغربى للقطر التونسى، فبعث ابنه يونس على رأس جيش شرّدهم كما شرد فرنسيين فى قرية بجوارهم أقاموا بها مراكز تجارية. وحدث شقاق بين الابن وأبيه، وتحاربا ودارت الدوائر على ابنه. وكان على باشا متعمقا فى الدراسات اللغوية، وله شرح كبير على كتاب التسهيل لابن مالك فى النحو، وجمع فى قصر باردو مكتبة نفيسة، وأنشأ أربع مدارس بعاصمته: الباشية نسبة إليه والسليمانية ومدرستى بير الحجاز، وكان راعيا للأدباء والشعراء من أمثال على الغراب ومحمد الورغى. وكان ابنا عمه حسين قد فرّا بعد مقتل أبيهما إلى الجزائر مستنجدين بواليها التركى، وظلا هناك ستة عشر عاما استطاعا فى نهايتها أن يقنعا الوالى التركى بأن يرسل معهما جيشا لنصرتهما على ابن عمهما وأخذهما بثأرهما، وأرسل معهما جيشا جرارا، حاصرا به تونس، ودافع ابن عمهما على دفاعا مستميتا سنة 1169 هـ/1756 م وخرّ صريعا فى المعركة.

وتربّع ابن عمه محمد الرشيد على كرسىّ تونس، وكان مولعا بالموسيقى والتلحين والضرب على مختلف الآلات، فترك تدبير شئون الدولة لأخيه على، ولم يلبث أن توفى سنة 1172 هـ/1759 م وخلفه أخوه على واهتم بتعضيد التجارة والزراعة والصناعة، وانتشر فى القطر الأمن. وأنشأ فى تونس محكمة شرعية ومدرسة لقبت بالجديدة، كما أنشأ تكية للضعاف والعجزة من الرجال والنساء، ولما تم بناؤها وأخذت تقدم الغذاء للمحتاجين قاد إليها جماعة من العمى فاقدى البصر وجلس معهم وأطعمهم بيده. وحدث فى أوائل حكمه سنة 1181 هـ/1768 م أن ألحقت فرنسا جزيرة كورسيكا بممتلكاتها فلم تصادق الحكومة التونسية على هذا الإلحاق ولا اعترقت بالجنسية الفرنسية لأسرى تلك الجزيرة ممن حملهم إلى تونس أمراء البحر المتوسط وقراصنتها، وأعلنت فرنسا الحرب على تونس وأطلق أسطولها قنابل على ثغور المنستير وسوسه وحلق الوادى وبنزرت وبعد اتصالات أبرم الصلح بين فرنسا وتونس

ص: 139

بباردو سنة 1184 هـ/1770 م. ولما تقدمت به السن ووهن منه الجسم أشرك ابنه حمودة معه فى الحكم، وكاتب الدولة العثمانية فى ذلك فوافقت، وتوفى سنة 1196 هـ/1782 م. وخلفه ابنه حمودة، وكان أبوه قد عنى بتربيته وإعداده لإدارة الحكم والدولة إدارة سديدة وفى عهده استأجر بحّارة تونسيون من بعض بحارة البندقية سفينة لحمل بضائعهم من الإسكندرية إلى صفاقس، وعرّج بهم البحارة على مالطة، فقبض واليها على التونسيين وزجّ بهم فى السجن بحجة ظهور وباء فيهم وأمر بإحراق ما معهم من السّلع. وعاد التجار التونسيون إلى العاصمة تونس، وتظلموا لحمودة، فطلب من نائب جمهورية البندقية أن تؤدى جمهوريته قيمة ما ضاع على التجار التونسيين بمقتضى القانون التجارى، وأفضى هذا النزاع إلى إعلان تونس الحرب على البندقية سنة 1204 هـ/1790 م وجهزت لذلك أسطولها، ورضيت البندقية بدفع الغرامة وانعقد الصلح بين الحكومتين. وفى سنة 1209 هـ/1795 م وفد على تونس والى طرابلس على القرمانلى فرارا من ثورة لعلى برغل فيها، فأحسن استقباله حموده، وكان على برغل قد استولى أيضا على جزيرة جربة التونسية، فأرسل إليها حمودة الأسطول التونسى فاستردها بمجرد ظهوره أمامها، وأرسل أحد قواده على رأس جيش مع والى طرابلس فدحر على برغل وأقرّ عليها على القرمانلى، وعاد الجيش ظافرا منصورا. ونشبت الحرب بينه وبين الجزائر سنة 1221 هـ/1807 م وكانت لهم الجولة الأولى وأعاد حمودة الكرّة وانتصر جيشه انتصارا ساحقا.

وكل ذلك يدل على أن تونس حظيت فى عهد حمودة بمكانة دولية كبيرة.

وقد عم فيها الرخاء والأمن ونشطت الزراعة والصناعة والتجارة بها نشاطا كبيرا إلى نهاية حكمه سنة 1229 هـ/1814 م وكان معاصرا لنزول الحملة الفرنسية مصر وانتصار المصريين عليها انتصارا حاسما سنة 1215 هـ/1801 م وهو انتصار هز العرب فى جميع بلدانهم هزة عنيفة جعلتهم يستيقظون من سباتهم الطويل ويستشرفون عصرهم الحديث مستشعرين فيه كيانهم وهويّتهم العربية الإسلامية، ونرى الباي حمودة يستشعر-بقوة-شخصية تونس ويحاول- جادّا-أن يعيد إليها قواها التى طمرها العثمانيون حقبا متوالية، فيأمر بتجنيد التونسيين وإشراكهم فى الجيش والحكم مع الترك أو الحامية التركية، وضرب للتونسيين بنفسه مثلا وطنيا كريما فى ملبسه ومطعمه، فلم يكن يلبس إلا من منسوجات تونس ولم يكن يطعم إلا من خيراتها وطيباتها متباهيا بذلك مفاخرا، وبذلك ابتدأ الداى حموده ببلده العصر الحديث فى القرن التاسع عشر بدءا قويما سديدا.

ص: 140