الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
الجغرافية والتاريخ
1 - الجغرافية
(1)
جلب هذا القطر قديما بحسن موقعه على البحر المتوسط وكثرة خيراته الفينيقيين ومن بعدهم الرومان فالواندال فالروم البيزنطيين، وهو يقع فى المنطقة الوسطى من الشمال الإفريقى بين البحر المتوسط فى الشمال والشرق وليبيا فى الجنوب الشرقى والصحراء فى الجنوب الغربى والجزائر فى الغرب. وتبلغ مساحته نحو مائة وخمسة وعشرين ألف كيلومتر مربع. وتدخل إليه جبال أطلس من الجزائر قرب مدينة تبسّة فى الجنوب الغربى، وتصعد بعض فروعها إلى الشمال الشرقى مارّة بجبل زغوان شمالى القيروان وتنعطف منها مرتفعات-فى شكل تلال-إلى بنزرت. وتمتد سهول تحت أقدام جبال أطلس وخاصة فى الشمال. وليس فى الاقليم التونسى نهر كبير سوى نهر مجردة المنحدر من الغرب إلى الشمال الشرقى فى اتجاه تونس، وسهوله من أخصب السهول، وتنتج مقادير ضخمة من الحبوب سوى ما ينمو فيها من الزروع والغروس.
وتمتد فى الساحل على طول البحر المتوسط أراض خصبة وافرة السكان والعمران. ووراء قابس فى الساحل الشرقى إلى شط الجريد وواحاته تترامى فى الجنوب أراض منبسطة واسعة فى وسطها مراع كثيرة وبعض المزارع، وغربيها بقاع شاسعة من الحلفاء وتوجد بعض السبخات، وشرقيها منطقة نفزاوة. ومدينة توزر هى قاعدة منطقة أو شط الجريد الذى تلتف به غابة واسعة من النخيل، ومياهها تنبع من الرمل وتتجمع خارجها، وتتشعب فى جداول عليها أرحاء صنعها ابن الشباط المهندس فى القرن السابع الهجرى، وتوزر من قديم تعدّ من أهم البلاد التونسية لإنتاجها الوافر من البلح والتمور فضلا عما بها من البساتين والفواكه المتنوعة وفى الشمال الشرقى من توزر مدينة قفصة، ويقول جغرافيو العرب إنها من أكثر بلاد الله فستقا، وكان
(1) انظر فى جغرافية تونس أو الاقليم التونسى كتابات ابن رسته وابن حوقل وأبى عبيد البكرى والشريف الإدريسى، وهذه تونس للدكتور الحبيب ثامر. وتاريخ إفريقية فى العهد الحفصى ليرنشفيك ترجمة الدكتور حمادى الساحل (نشر دار الغرب الإسلامى) 1/ 313 وما بعدها ومادة تونس فى دائرة المعارف الإسلامية، وما بها من مراجع.
يحمل منها إلى سجلماسة فى المغرب الأقصى ومدن الأندلس. وكانت تمدّ القيروان بأصناف التمور والفواكه. ومدن نهر مجردة هى مدن الحبوب ومن أهمها مدن الكاف وسليانة وتبرسق وباجة غربى تونس وبينهما نحو مائة كيلومتر، ويقول البكرى إنها كثيرة الأنهار (لعله يريد جداول المياه) وهى على جبل فى هيئة الطيلسان، واشتهرت قديما بإنتاج الحبوب، وخاصة القمح، ولذلك سموها قديما باجة القمح. ونمرّ بالساحل من الغرب ابتداء من مدينة بنزرت، وهى ثغر فى أقصى الغرب التونسى على البحر المتوسط فى موقع ممتاز، تحف بها مزارع مثمرة وغابات كثيفة.
وتشتهر بإنتاجها من الحبوب والبقول والزيتون، فضلا عن أنها ميناء تجارى مهم، وفى شرقيها بحيرة ويقول عنها الإدريسى: فمها متصل بالبحر المتوسط وكلما دخلت فى البر اتسعت وكلما قربت من البحر ضاقت، ويصاد بها أنواع كثيرة من الأسماك. وكان بجانبها محارس أو رباطات ينزلها النساك المجاهدون فى سبيل الله لحماية تونس من القراصنة والغزاة. ونمضى شرقا على الساحل فى الشمال، فتلقانا تونس على خليجها، وقد بناها حسان بن النعمان والى إفريقية (71 - 85 هـ) بالقرب من قرطاجة الفينيقية، متخذا منها دار صناعة كبيرة لبناء أسطوله.
واتخذها عاصمة، غير أن الولاة والحكام بعده تركوها إلى القيروان التى كان قد بناها عقبة بن نافع بين سنتى 50 و 55 للهجرة واتخذها هو ومن بعده عاصمة لإفريقية، حتى إذا استولت الدولة الحفصية على صولجان الحكم فى الاقليم اتخذت تونس عاصمة للبلاد، وما تزال هى العاصمة إلى اليوم. وإلى الشرق من خليج تونس خليج الحمامات وبينهما شبه جزيرة من أخصب الأراضى التونسية، وتكتظ بغابات الزيتون وبساتين الفواكه وخاصة البرتقال.
وتلقانا بعد خليج الحمامات فى الشرق مدينة سوسة، وقد اتخذتها الدولة الأغلبية منذ أواخر القرن الثانى الهجرى دار صناعة لسفن أسطولها الحربى، وبواسطة هذا الأسطول استطاعت تلك الدولة الاستيلاء على صقلية سنة 212 هـ/827 م وعلى مالطة سنة 255 هـ/868 م ويقول ابن رستة فى كتابه:«الأعلاق النفيسة» : إن ساحل سوسة كثير السواد من الزيتون والكروم والأشجار، وبه قرى كثيرة يتصل بعضها ببعض، وهى-مثل بنزرت-يصاد بها أنواع مختلفة من الأسماك، وخاصة من الحيتان. وجنوبى سوسة مدينة المنستير وكانت فى الأصل محرسا كبيرا أو رباطا بناه هرثمة بن أعين والى الرشيد لحماية الساحل وحراسته وظلت تتسع مع الزمن إلى أن أصبحت مدينة كبيرة. وإلى الجنوب منها مدينة المهدية التى بناها المهدى مؤسس الدولة العبيدية الفاطمية بتونس، بناها على نتوء صخرى بالساحل لتكون حاضرة له ودار صناعة لأسطوله، ويقول البكرى إنها من أعاجيب الدنيا. وإلى الجنوب منها صفاقس وهى مدينة تجارية مهمة، وتحيط بها أشجار الزيتون والفواكه، وفى كتاب الحلل السندسية أنه يصاد بها أنواع من السمك تفوق الحصر، وببحرها صوف تصنع منه ثياب رفيعة، وقد يوجد فى بحرها صدف يشتمل
على لؤلؤ صغير الحب، وأمامها جزر قرقنة ويشتهر سكانها بصيد الإسفنج. وإذا سرنا نحو الجنوب لقيتنا مدينة قابس متوسطة خليجها ويصاد فيه الإسفنج أيضا بكثرة، ويكثر بها النخيل والعيون الجارية، ويقول البكرى إن اللوز كثير بها وبالمثل جميع الثمار، ويكثر بها التوت، وحريرها أطيب الحرير وأرقه. وإلى الجنوب الشرقى من خليجها جزيرة جربة الكبيرة الخصبة.
وإلى الجنوب منها منطقة نفزاوة المشهورة بواحاتها وتشتهر ناحية طرّة فيها بصنع الزجاج من قديم لوجود الكارتز هناك بكثرة. والأشجار والزروع تحيط بالاقليم التونسى على امتداد سواحله شمالا وشرقا وفى حوض نهر مجردة غربا وفى واحات نفزاوة وشط الجريد. والمنطقة الوسطى وحدها منطقة المراعى وفيها تنتقل القبائل الرحّل.
ومناخ القطر التونسى-فى جملته-مناخ البحر المتوسط دافئ معتدل، ونزول الأمطار بها يختلف كثرة وقلة حسب أنحائها، وهى تكثر فى الشمال شتاء، وتقل قلة شديدة فى الجنوب، وتختلف درجة الحرارة فيها باختلاف البقاع ووقوعها على الجبال وسفوحها وفى السهول الزراعية وبقرب البحر أو فى داخل الصحراء.
2 -
التاريخ (1) القديم
كانت تعيش فى القطر التونسى وغيره من أقاليم المغرب-فى العصور السحيقة-قبائل لا حضارة لها سماها الرومان باسم البربر، وحوالى القرن العاشر قبل الميلاد ارتاد سواحل إفريقيا الفينيقيون بحثا عن مواقع غنية بالخيرات يرسون بها سفنهم للتبادل التجارى، وكانوا شعبا ملاحيا احترف التجارة، وأعجبهم ساحل الإقليم التونسى، فاتخذوا فيه مواقع لإقامات مؤقتة يتبادلون فيها السلع التجارية مع أهله وسكانه. ومع الزمن ومرور دوراته المتعاقبة رأوا أن يقيموا لهم فى ذلك الإقليم مدينة تكون لبعض أسرهم مستقرا كما تكون مركزا ثابتا لمتاجرهم.
وفى تاريخ غير معروف بالضبط هل هو القرن الثامن قبل الميلاد أو قبله أو بعده أسسوا لهم مدينة غربى مدينة تونس الحالية سموها قرطاجة، وأخذت تزداد قوة، وأخذ بحارتها وتجارها ينشئون لهم مراكز تجارية جديدة فى الساحل الإفريقى مثل بجاية وشرشال فى الجزائر وطنجة فى
(1) انظر فى تاريخ الإقليم التونسى القديم خلاصة تاريخ تونس للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب (طبع تونس) والجزء الأول من تاريخ المغرب الكبير للأستاذ محمد على دبوز (طبع مطبعة الحلبى فى القاهرة)
المغرب الأقصى ونزلوا ساحل إسبانيا فى الجنوب الشرقى والغربى وأسسوا لهما مدينتين:
قرطاجنة على البحر المتوسط وقادس على المحيط الأطلسى.
وكان الفينيقيون أصحاب حضارة، ومعروف أنهم اشتقوا لهم من حروف الهيروغليفية المصرية أبجديتهم التى نشروها فى البلاد التى نزلوها قديما كما نشروها فى العالم القديم. وقد نزل قرطاجة التونسية كثير من أسرهم، وخالطوا السكان الإفريقيين، وامتزجوا بهم مصاهرة وغير مصاهرة، بحيث أصبحت لهم فى قرطاجة دولة كبيرة، كما أصبح لهم شعب ضخم يتألف منهم ومن البربر، واتسعوا فى تجارتهم مع المراكز التجارية التى أنشئوها فى المواقع المذكورة آنفا وفى فرنسا وصقلية، وجابت قوافلهم الصحراء فى الجنوب وحملت من السودان الرقيق والعاج والتّبر.
ولا نصل إلى أواسط القرن الثالث قبل الميلاد، حتى نجد روما تحاول أن تخضد من شوكة نفوذهم فى البحر المتوسط، وسرعان ما نشبت الحروب بين الطرفين وظلت أكثر من مائة عام ابتداء من سنة 264 إلى سنة 146 قبل الميلاد، وكان ميدانها لنحو عشرين عاما جزيرة صقلية موضع النزاع بين القوتين الكبيرتين، وأذعنت قرطاجة فى نهايتها للصلح، وعادت الحرب بينهما للنشوب سنة 218 قبل الميلاد واستمرت حتى سنة 202 إذ باءت حملة هانيبال الكبرى بالإخفاق، وكان قد كوّن جيشا ضخما اقتحم به جبال البرانس وجنوبى فرنسا وشمالى إيطاليا محاولا أن يفتح روما، غير أن الأقدار لم تسعفه، وبعد ذلك بنحو خمسين عاما نشبت بين روما وقرطاجة حرب ثالثة ظلت ثلاث سنوات من سنة 149 إلى سنة 146 قبل الميلاد انتهت بانتصار روما وتدميرها نهائيا لقرطاجة الفينيقية. وكانت حضارتها قد استقرت فى الشمال التونسى قرونا وأجيالا متعاقبة، وكانت حضارة متقدمة لا فى شئون الملاحة والتجارة فحسب فهم أساتذتها فى العالم القديم بل أيضا فى صناعة السفن والمعادن والزجاج وفى زراعة الحبوب والبقول وأشجار الفاكهة وغراسة الزيتون والمظنون أنهم نقلوه-كما نقلوا كثيرا من أشجار الفاكهة-إلى إفريقية فى تونس وغيرها من موطنهم الأصلى فى الشام، ومن أكبر الأدلة على اهتمامهم بالشئون الزراعية فى إفريقية التونسية أن نجد عالمهم الزراعى الكبير: ماجون (Magon) يؤلف أقدم كتاب عالمى فى الزراعة وغراسة الأشجار وقد نقله الرومان إلى اللاتينية حينما قهروا القرطاجيين التونسيين واستولوا على البلاد منذ سنة 146 قبل الميلاد. كما استولوا على ما فيها من كنوز العلم والعرفان وكنوز الخيرات والطيبات.
ومنافسة لقرطاجة الفينيقية وهياكلها الضخمة ومبانيها السامقة أقام الرومان لهم بجانبها قرطاجة جديدة شادوا فيها هياكل ومعابد ومبانى باسقة كما شادوا مسرحا للتمثيل وملعبا لمصارعة الحيوان وبعض الحمامات. وكانوا يحكمون قرطاجة والقسم الشمالى من الاقليم التونسى مباشرة، وما وراءه فى نفس الإقليم وفى نوميديا (القسم الشرقى من الجزائر) كان
يحكمه ولاة تابعون لهم من البربر، واشتهر من بينهم وال يسمى يوغرطة حارب الرومان وحاول الاستقلال ببلاده ووقع فى أيدى أعدائه فسجنوه بروما إلى أن قضى نحبه سنة 106 قبل الميلاد. وأخذت البلاد تستكين لروما، وأخذ بعض البربر ينشأ بها ويتعلم فيها مثل يوبا الثانى المتوفى سنة 22 للميلاد. وهو جزائرى، وقبره بالقرب من شرشال، وله مؤلفات مختلفة باللاتينية فى تاريخ الرومان وفى الجغرافية والموسيقى. واندمج بعض البربر فى الحياة الرومانية واستطاعوا الوصول إلى أعلى الوظائف فى الدولة، حتى ليصبح أحد أباطرة روما ويجلس على عرشها سنة 193 للميلاد بربرى من مواليد لمطة على الساحل الإفريقى ويقال: بل من مواليد لبدة بجوار طرابلس، وهو سبتيموس سيفيروس. وتابعت روما قرطاجة فى العناية بالزراعة فى إفريقية التونسية وشق القنوات بها وإقامة السدود والخزانات والصهاريج والمواجل، مما جعل الزراعة تزدهر بها فى زمنهم الذى امتد نحو ستة قرون طوال. وتظل التجارة مزدهرة بها أيضا وتظل القوافل تنحدر إلى الجنوب لحمل السلع من السودان. وقد نزلتها-وعاشت فيها- أسر رومانية كثيرة. وحين اعتنقت روما المسيحية حاولت نشرها فيها، وابتنت لها بعض الكنائس، ويبدو أنها عملت على نشر لغتها اللاتينية، وقد ظلت حية فى بعض الألسنة بعد الفتح الإسلامى-كما سنرى-قرونا طويلة، وسنرى بعض الأمراء الأغالبة يتعلمونها، كما تعلمها المعز لدين الله الفاطمى.
وتأخذ الأحوال فى روما تسوء، حتى إذا مضينا فى القرن الخامس الميلادى زادت سوءا على سوء، مما جعل أحد ولاتها فى إفريقية المسمى بونيفاس يخرج عليها ويستغيث بقبائل الواندال الجرمانية التى كانت قد استولت على إسبانيا، وتقدم تلك القبائل، وتعيث فى إفريقية التونسية دمارا وفسادا لمدة مائة عام من سنة 439 إلى سنة 534 للميلاد، خرّبت فيها كل-أو أكثر- ما كانت تزدهى به البلاد من أسباب الحضارة والعمران مما أقامه بها الفينيقيون والرومان إلى أن خلصها منهم القائد البيزنطى بليزير Be? lisaire سنة 534 للميلاد، وأصبحت إفريقية التونسية-من حينئذ-تابعة لقيصر بيزنطة (القسطنطينية) ويسمى العرب سكان هذه الدولة باسم الروم. وكانت بيزنطة تولّى على إفريقية حاكما عامّا يلقّب بالبطريق Patricius مقامه بقرطاجة، وأسندت إليه إصدار الأوامر والإشراف على الموظفين وعلى أداة الحكم والشئون المالية، وكانوا يتبعون سياسة خرقاء ظالمة فى فرض الضرائب الفادحة والجبايات والإتاوات الباهظة. ولم تعن بيزنطة-وبالتالى حكامها-بنشر لغتها اليونانية فى البلاد على نحو ما عنيت روما وحكامها-من قبل-بنشر اللغة اللاتينية، فلم تكن اليونانية تتجاوز ألسنة الموظفين والجند البيزنطيين، وظلت اللاتينية هى اللغة المسيطرة فى المدن الإفريقية: فى قرطاجة وسوسة وغيرهما بسبب ما كان فيها من جاليات رومانية كبيرة.