المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - الجغرافية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌1 - الجغرافية

‌الفصل الأوّل

الجغرافية والتاريخ

‌1 - الجغرافية

(1)

صقلية جزيرة كبيرة تقع فى منتصف البحر المتوسط، فتقسمه إلى شطرين شرقى وغربى، ويكاد يتلاقى شماليها الشرقى بإيطاليا فبينهما مضيق مسّينى الذى لا يكاد يتجاوز عرضه ثلاثة كيلومترات. بينما يتسع البحر المتوسط بينها وبين تونس وطرابلس حتى ليبلغ عرضه نحو مائة وعشرين كيلومتر تقريبا أو يزيد وبخاصة أمام طرابلس. وهى فى الداخل مرتفعات وهضاب ووديان، وعلى مرتفعاتها أقيمت مدنها الداخلية لتكون حصينة. وفى جنوبيها إلى الغرب مدينة جرجنت، والشاطئ الغربى والجنوبى الغربى موانيهما لا تصلح للملاحة، وإذا تغلغلنا نحو الشمال الغربى وجدنا مروجا ومراعى متسعة، ونمضى نحو الشمال فنجد ثغر أو مرفأ طرابنش، ونتجه غربا فى الساحل الشمالى وهو ساحل صخرى جبلى، ونلتقى بخليج تام الاستدارة، ويلقانا بعده خليج مدينة بلرم (Palermo) عاصمة صقلية الإسلامية ولا تزال عاصمتها إلى اليوم، ووراءها تنحسر الجبال ويلقانا سهل من أخصب السهول، ونستمر فى السير على الساحل الصخرى الجبلى حتى تلقانا مسينى على مضيقها. ونسير من مدينة سينى متجهين إلى الجنوب شرقى صقلية فى ساحل جبلى صخرى ونلتقى بثغر أو مدينة طبرمين، ونمضى حتى قرب ثغر أو ميناء قطانية حيث يصبح الساحل رمليا، ويصبّ فيه بعض الجداول. وإذا مضينا فى اتجاهنا نحو الجنوب لقينا ثغر سرقوسة الذى أنشأه اليونان، وبه ولد العالم الإغريقى الفيزيقى المشهور أرشميدس، وبها قتل سنة 212 ق. م.

وأعلى جبال صقلية جبل إتنا فى أقصى الشمال، ويبلغ ارتفاعه ثلاثة آلاف وثلاثمائة متر

(1) انظر فى جغرافية صقلية صورة الأرض لابن حوقل ومعجم البلدان لياقوت ونزهة المشتاق فى اختراق الآفاق للإدريسى وكتاب المسلمون فى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا للأستاذ أحمد توفيق المدنى (طبع الجزائر) وكتاب العرب فى صقلية للدكتور إحسان عباس (طبع دار المعارف- القاهرة).

ص: 331

تقريبا، ويجلّل هامته شيب أو ثلج أزلى، بينما يغلى جوفه بنار لا تخمد أبدا، وكأنه شيخ رحيم قاس فى آن واحد، وقسوته لا توصف، إذ يظل يلقى بحممه مغيظا محنقا أياما، وتغطّى حممه الأرض بطبقة خصبة. وتمتد شمالى الجزيرة سلسلة جبال من الشرق إلى الغرب، أكبر الظن أنها امتداد لجبال الأبنين فى إيطاليا وجبال الأطلس فى شمالى إفريقيا، وهى جبال صخرية جرداء عارية مما كان ينتظر لها من زينة النباتات الخضراء، وطبقتها الخارجية تتكون من حجارة كلسية وبعض أنواع الرّخام الرفيع، ومنها تتكون بعض جبال فرعية، تنحدر صوب الجنوب ومن أهمها الجبال التى أنشئت فوقها مدينة قصريانة وسط الجزيرة، والجبال التى تتجه نحو مدينة جرجنت.

وهذه الجبال غنية بالخزف والرخام والملح المعدنى والجص، وكل ذلك يكوّن ثروة طبيعية مهمة لصقلية، ويوجد الكبريت قرب جرجنت وحول قطانية وبلرم.

ومناخ صقلية فى جملته معتدل، وفصل الشتاء فيها ليس قارس البرد بفضل الجبال الشمالية التى تحميها منه، وهو يمتدّ فيها من شهر نوفمبر حتى شهر مارس، وفصل الصيف معتدل الطقس إلا ما يهب عليها فيه من رياح السموم التى تأتيها من إفرتقية. ويكفى لنتصور اعتدال المنجخ فيها أن درجة الحرارة فى بلرم لا ترتفع عن 26 درجة صيفا ولا تهبط عن 11 درجة شتاء، ولذلك سميت بلاد الربيع الأبدى.

واعتدال مناخها هيّأها لأن تنمو فيها مختلف الزروع والغروس، وتكثر الأمطار فى ساحلها الغربى والشمالى وقد نقل إليها القرطاجيون القمح والزيتون والإغريق الكرمة، ونقل إليها العرب النخيل والليمون واللوز والفستق والتين ومختلف الأزهار، وأيضا الموز والبرتقال، وبها بعض مراع فى سهولها هيأت لكثير من قطعان الغنم والماعز والخنازير. ويكثر فى سواحلها صيد البحر بمختلف أنواعه.

2 -

التاريخ (1) القديم

استوطن صقلية فى أقدم عصورها شعب الصيقول (Les Sicules) ومنه اشتق اسمها، ومنذ أكثر من ألف سنة قبل الميلاد أخذ يفد عليها غزاة من الشرق أو الجنوب أو الشمال، فكانت

(1) انظر فى التاريخ القديم لصقلية كتاب تاريخ مسلمى صقلية لميخائيل أمارى Dei Musulmani Di Sicilia Amari: Storia: وكتاب المسلمون فى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا ص 19 وما بعدها وكتاب العرب فى صقلية ص 25 وما بعدها وتاريخ صقلية الإسلامية فى القسم الثالث من كتاب ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب 3/ 435 وما بعدها.

ص: 332

تخضع لهم بحكم أنها جزيرة صغيرة لا يمكنها مقاومة هؤلاء الغزاة. ولها قبل الفتح الإسلامى تاريخ قديم، وبعده تاريخ نورمانى سنلم بأحوال المسلمين فيه. وأول من سكنها-كما قلنا آنفا-شعب الصيقول، وكان الفينيقيون-منذ نشأتهم على صفحات التاريخ-شعبا تجاريا يجوب سواحل البحر المتوسط، ويؤسس له عليها قواعد تجارية، وقد نزلوا سواحل صقلية وأسسوا لهم فى شماليها قاعدة هى بلرم. ومضت على ذلك قرون، وإذا اليونان يتبعونهم فى الاستيلاء على ساحلها الشرقى ويؤسسون هم به قاعدتين فى القرن الثامن قبل الميلاد هما سرقوسة وقطانية، وسرعان ما تحولتا مدينتين كبيرتين، وصعدوا إلى الشمال وأسسوا مدينة مسّينى. وفى هذه الأثناء كانت دولة قرطاجة فى الشمال التونسى آخذة فى القوة ومددت ذراعها إلى صقلية تريد أن تستولى عليها من الإغريق وظلت الحرب بينهما فى مدّ وجزر وانتصار وانهزام إلى أن استطاعت قرطاجة أن تفرض سيادتها على الجزيرة سنة 264 قبل الميلاد. غير أن القرطاجيين لم يكادوا يحوزونها لأنفسهم حتى نشبت حروب عاتية بينهم وبين الرومان، وعبثا حاولوا إنقاذها، فغادروها سنة 242 قبل الميلاد، وأصبحت جزءا من الإمبراطورية الرومانية، وأصابها ما أصاب أهل روما منذ القرن الثالث الميلادى من التدهور والفتن والفساد الأخلاقى.

ولما سقطت روما تحت أقدام المغيرين الشماليين لم تلبث أن سقطت بدورها تحت ضربات الواندال الذين استولوا على إفريقية التونسية، وقد أرهقوهم لمدة نحو قرن بالضرائب الفادحة، وأذاقوهم ضروبا من العسف والظلم والاستبداد لا تطاق.

وتسترجع بيزنطة فى عهد جستنيان صقلية، إذ كلّف قائده بلزاريوس بالاستيلاء على الجزيرة من الواندال كما استولى على إفريقية الشمالية وكانت المدن خالية من حاميات واندالية، ما عدا بلرم، فقد كان بها حامية لهم، وكانت أسوارها منيعة، فقاومته فترة ثم استسلمت مثل أخواتها الصقليات، وفرحت جميعها بنزول الجيش البيزنطى فيها واستبشرت لخلاصها من ظلم الواندال وتعسفهم فى جمع الضرائب، غير أنهم لم يلبثوا أن شعروا بأنهم تخلّصوا من ربقة عسف إلى ربقة عسف جديد، إذ أصلاهم ولاه بيزنطة طوال ثلاثة قرون عبئا ثقيلا من الضرائب الفادحة، فقد فرضوا عليهم ضريبة على الأملاك وضريبة على الرءوس وضريبة على التجارة أو الصناعة وضريبة للجيش أو ضريبة دفاع وضريبة للملاحين وضريبة للموظفين. ولم تكن الدولة البيزنطية وحدها هى التى تجنى الضرائب من صقلية، فقد كانت تجنيها معها الكنيسة: كنيسة روما وميلانو وراقنا، وكان للكنيسة الأولى الحظ الأوفر، إذ كان لها إقطاعات كثيرة موزعة حول بلرم وقطانية وسرقوسة وجرجنت، وكان يديرها قسّيسان أحدهما فى بلرم والثانى فى سرقوسة. وكان همّ كل منهما أن يجمع أكثر ما يمكن من الضرائب، وبالمثل كان وكلاء كنيستى ميلانو وراقنا، وكان يرسل إلى روما سنويا أسطولان محمّلان بالقمح فى الربيع وفى الخريف، وكانت ترسل إلى راقنا سفن محملة بمئات القناطير من القمح والفواكه والخضراوات والجلود المدبوغة والحرير

ص: 333

والمواد الصوفية، والفلاح الصقلى يتصبب عرقا، ويجمع الضرائب وكلاء الكنائس المذكورة مرة ويجمعها وكلاء الدولة البيزنطية مرة، دون رحمة أو إشفاق. وكانت روما فى أثناء ذلك ترسل إلى صقلية بكثير من العبيد، وأضافت إليهم من كانت تنفيهم من المذنبين ومقترفى الجرائم والجنود المتمردين. وكل ذلك عمل على إضعاف شخصية صقلية فى العهد البيزنطى-كما يقول أمارى-وأزهق فيها الشعور بالكرامة الإنسانية ولم يبق فيها منه بقية.

3 -

الفتح (1) العربى وعهد الدولة الأغلبية

بينما هذا الظلام يطبق على صقلية ويطبق معه الضنك والضيق والإعس إذا بالعرب يفتحون ديار إفريقية التونسية المواجهة لصقلية ويستولون على جميع بلاد المغرب، وكان طبيعيا أن يفكروا فى السيطرة على البحر المتوسط وعلى جزره: صقلية وغيرها، وتبعا لخطتهم الحربية فى التعرف على أحوال البلاد قبل غزوها نراهم يرسلون سنة 45 هـ/665 م حملة استطلاعية إلى صقلية بقيادة عبد الله بن قيس، وبعد تعرفه على سواحلها الجنوبية عاد إلى إفريقية التونسية، وأرسلت بعد ذلك حملات بحرية مماثلة بقيادة محمد بن أوس الأنصارى وبشر بن صفوان الكلبى، وتبعهم جميعا فى تلك الحملات سنة 122 هـ/740 م حبيب بن أبى عبيدة حفيد عقبة بن نافع مؤسس القيروان، واضطر إلى العودة سريعا لاضطراب الأحوال فى إفريقية التونسية ويقول ابن عذارى إن ابنه عبد الرحمن غزا بعده صقلية ثم سردانية وقاتل بها حتى صالحه أهلها. وهذه الحملات المبكرة نبّهت الدولة البيزنطية إلى أن تحسب حساب الغزو العربى المفاجئ، فأحالت صقلية إلى قاعدة حربية تمتلئ ثغورها ومدنها وقلاعها وحصونها بالعتاد الحربى الوافر.

وكان من أهم الأسباب التى أسرعت بفتح صقلية أن قائدا بيزنطيا يسمى أوفيموس (Euphemius) وتسميه المصادر العربية فيمى ثار على قسطنطين بطريق صقلية، فأمرته حكومة

(1) انظر فى الفتح والعهد الأغلبى البيان المغرب لابن عذارى وتاريخ ابن الأثير وتاريخ ابن خلدون وأعمال الأعلام لابن الخطيب والمؤنس لابن أبى دينار والجزء الثالث من كتاب ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية والمسلمون فى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا للأستاذ أحمد توفيق المدنى والعرب فى صقلية للدكتور إحسان عباس.

ص: 334

القسطنطينية بالقبض عليه وتعذيبه، وعلم فيمى بذلك الأمر، فرأى أن يستنجد بالأمير زيادة الله الأغلبى حاكم إفريقية التونسية ضد البطريق وحكومته، واستجاب إليه زيادة الله إذ رأى فى ذلك فرصة لا تعوّض للاستيلاء على صقلية، فأعدّ سريعا جيشا لفتحها، ورأى بكياسته أن يسند قيادته إلى أسد بن الفرات القاضى وشيخ فقهاء المالكية بالقيروان.

وأقلع الأسطول الأغلبى بقيادة أسد بن الفرات من ميناء سوسة فى منيصف ربيع الأول من سنة 212 هـ/827 م وكان يحمل عشرة آلاف مقاتل، وأرسى بعد ثلاثة أيام على ساحل صقلية عند مدينة مازر فى الجنوب الغربى، واستطاعوا فى وقت قصير الاستيلاء على بعض المدن والحصون الجنوبية، وتقدموا إلى الساحل الشرقى حتى حاصروا مدينة سرقوسة قاطعين نحو مائتى كيلومتر إليها، وتعززوا بمدد جديد إليهم من إفريقية. وكان أسد يباشر الحصار بنفسه ويضيّق على المدينة، وانتشر مرض بين صفوف الجند العرى أودى بحياته العظيمة، فلبّى داعى ربه فى ربيع الثانى سنة 213 هـ/828 م ودفن تحت أسوار سرقوسة. وخلفه على قيادة الجيش محمد بن أبى الجوارى، واستولى على جرجنت فى الجنوب بالإضافة إلى مازر، وأخذ يستعد للهجوم على مدينة قصريانة، وكانت الحملة قد أصابها عناء شديد بسبب المعارك المتصلة، وأوشكت على الانسحاب إلى إفريقية، غير أن ما نذروا أنفسهم له من الجهاد فى سبيل الله ونشر الإسلام تحت راية الشيخ أسد بن الفرات كان يطرد اليأس من نفوسهم ويشدّ أزرهم إلى أبعد حد، ولم يلبث الأمل أن ملأ نفوسهم إذ رفدهم مدد جديد من إفريقية ومن أسطول لشرصان المجاهدتن الأندلسيين سمع بحملتهم، فجاء يؤيدهم، وتوفى قائدهم محمد بن أبى الجوارى سنة 216 هـ/831 م فأرسل إليهم الأمير زيادة الله الأغلبى قائدا جديدا هو زهير بن عوف، فصمم على الاتجاه إلى الشمال وغزو بلرم وحاصرها برا وبحرا وضيّق الخناق عليها، وفى أثناء ذلك استولى على ماسينى سنة 219 هـ/834 م وما زال يزداد شدة فى تضييق الحصار على بلرم إلى أن استيأس منها الروم، فغادروها بحرا وبرّا، تاركين المدينة مفتوحة أما مخجيش المسلمين فدخلها فى رجب سنة 220 هـ/835 م وكان بها سبعون ألفا قبل الحصار فلم يجد الجيش بها سوى ثلاثة آلاف كما يقول ابن الأثير فى تاريخه. واتخذها المسلمون هناك عاصمة لحكمهم فى الجزيرة كما كانت عاصمة لمن قبلهم، وظلت كذلك لمن يعدهم، وأخذوا فى تشييد القصور بها والمساجد والحمامات والفنادق وإقامة الأسواق بها والحدائق حولها، وحوّلوها مركزا علميا يبثّ إشعاعات نوره إلى ظلمات القرون الوسطى فى أوربا.

وتوفّى هذا القائد المجاهد العظيم زهير بن عوف سنة 221 هـ/835 م وولى صقلية بعده أبو الأغلب إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب واهتم بالحرب البحرية ونازل سفن البيزنطيين غير مرة وانتصر عليها، بل حطمها حطما، وبذلك أصبحت للأسطول الإسلامى الصقلى سمعة كانت

ص: 335

تدخل الرعب والفزع فى قلوب الأعداء، وكانت مطامح المسلمين المجاهدين تتجه صوب إيطاليا القريبة ديارها من مسّينى فجهز أسطولا أرسل به صوب قلوريّة بجنوبى إيطاليا فنزل بها الجند المسلمون ووصلوا إلى نهر البو سنة 223 هـ/838 م. ويتوفى أبو الأغلب سنة 236 هـ/850 م ويتولى صقلية العباس بن الفضل ويجهز أسطولا لغزو قلوريّة سنة 239 هـ/853 م. ويقيم بها بعض الحاميات، وخرجت مسّينى بعون من الروم عليه فأعادها سنة 242 وأخذ يفتح الحصون فى الداخل الواحد بعد الآخر، وفتح جفلود (شفلودى) على البحر بالشمال فى نفس السنة، وشدّد الحصار على قصريانة المنيعة فى وسط الجزيرة، واستسلمت سنة 244 هـ/858 م بعد جهاد عنيف، وبنى العباس فيها توّا مسجدا، ونصب فيه منبرا وخطب فيه الجمعة. ولعل فى ذلك دلالة واضحة على أن قواد الفتوح فى صقلية وجنودها المسلمين كانوا يعدون غزو مدنها وحصونها جهادا فى سبيل الله. وأزعج أخذه لمدينة قصريانة الكبيرة المحصنة بيزنطة فأرسلت أسطولا يحمل مددا كبيرا من الرجال والمؤن إلى سرقوسة، والتقى به الأسطول الإسلامى الصقلى ونشبت بينهما معركة عنيفة انتصر فيها الأسطول الإسلامى، واستولى على مائة من سفن الأسطول البيزنطى، ولاذ الباقون بالفرار، ويقول ابن الأثير إن المسلمين لم يستشهد من جنودهم فى هذه المعركة البحرية سوى ثلاثة، وكأن الجنود البيزنطيين لم يلبثوا حين رأوا أسطول المسلمين وجنوده البسلاء أن ألقوا سلاحهم وسفنهم وفروا من المعركة منهزمين.

ولم يلبث هذا القائد المجاهد أن لبّى نداء ربه سنة 247 هـ/862 م ويتولاها خفاجة بن سفيان سنة 248 هـ/863 م ويحتل مدينة نوطس فى شرقى الجزيرة إلى الجنوب، وكان أهل طبرمين ينازلون المسلمين نزالا مستميتا، ورأوا أن يجنحوا إلى السلم بعد أن أعياهم القتال وطلبوا إلى القائد خفاجة أن يرسل إليهم وفدا للصلح فأرسل إليهم وفدا يفاوضهم وعلى رأسه زوجته، ومرّ بنا فى إفريقية التونسية إلى أى حد كانت المرأة التونسية تحافظ على كرامتها ومدى ما كان لها من منزلة فى نفوس التونسيين بالقيروان وغير القيروان، وهذه إحدى نسائهم تتولى السفارة لأول مرة بين قومها وأعدائهم لتضع شروط الصلح، وهى بذلك تعد أول سفيرة عربية، واستقبلها الأعداء بحفاوة واستجابوا لما وضعته من شروط الصلح، وسلموها مفاتيح المدينة، وبذلك نجحت السفارة نجاحا عظيما، فدخلها المسلمون صلحا. ولابن هذه السيدة محمد الذى كان يناضل نصارى صقلية نضالا عنيفا الفضل فى استيلاء المسلمين على مالطة سنة 255 هـ/869 م فإنه جهز أسطولا لفتحها ونزلها، وقضى على الحامية الرومية فيها واستولى عليها وجعلها تابعة لصقلية. ونزلتها جالية تونسية أشاعت بها لهجتها العربية، ودارت السنة فأرسلت بيزنطة أسطولا تبغى استردادها، ولم يكد يظهر له فى مياهها الأسطول الإسلامى الصقلى حتى ألقى الرعب والفزع فى قلب كلّ من فيه، فولّوا على وجوههم فرارا دون أن يخوضوا معركة، وظلت مالطة تابعة لصقلية نحو مائتين وعشرين عاما إلى أن استولى عليها

ص: 336

النورمان مع استيلائهم على صقلّية، ولغتها إلى اليوم لهجة عربية تونسية محرفة حرّفت بمر الزمن، وعبثا حاولت الدول التى استولت عليها-ومعها إنجلترا-أن تترك لغتها كما تركت الإسلام وتتخذ فى ألسنتها مكانها اللغة الإيطالية أو اللغة الإنجليزية، وباءت كل هذه المحاولات فى القرون الثمانية الماضية بالفشل، مما يدل على قوة العربية وحيويتها، وأن قوما إذا اتخذوها لا يمكن أن يتحولوا عنها-مهما دخل عليها من التصحيف والتحريف خلال قرون متطاولة- إلى لغة أخرى لسلاستها وعذوبة جريانها فى الألسنة.

ويتوفّى خفاجة وابنه محمد، وتؤول ولاية صقلية إلى أحمد بن عبد الله الأغلبى، وكان بطلا مقداما فصمم على فتح سرقوسة، وكانت بيزنطة لا تزال ترسل إليها بالنجدة تلو النجدة، وكلما انهزم لهم أسطول جهزوا لها أسطولا آخر، وحاصرها أحمد، واستمر الحصار تسعة أشهر من أوائل المحرم إلى أواخر رمضان سنة 264 هـ/877 م ثم اقتحمها بمجانيقه وخيله وجنده، فاضطرت إلى التسليم بعد أن ذاقت الأمرّين من الجوع وذكّ الأسوار وسقوط القلاع، وبعد أن لقى حتفه من المدافعين عنها أكثر من أربعة آلاف جندى بيزنطى. وولى صقلية سنة 268 هـ/881 م محمد بن الفضل فجعل همه القضاء على معقل مهم للروم هو قلعة الملك وكان من فيه يكثرون من الإغارة على المسلمين ويقضّون مضاجعهم، والتقى الجمعان بقرب المعقل وحمى وطيس الحرب وانجلت عن انتصار عظيم للمسلمين واندحار شديد لأعدائهم إذ قتلوا منهم ما يزيد عن ثلاثة آلاف ودخلوا القلعة تخفق على رءوسهم رايات النصر.

وولّى إبراهيم بن الأغلب ابنه عبد الله على صقلية، وفى أيامه سنة 275 نشبت معركة عنيفة برّا وبحرا بين الروم والعرب، فإن الدولة البيزنطية أرسلت بأسطول ضخم إلى صقلية، ولقيه الأسطول الإسلامى الصقلى واحتدمت المعركة، وكانت كارثة الروم هائلة وإذ قتل منهم سبعة آلاف وغرق خمسة آلاف ولاذ من كتبت له الحياة بالفرار. وانتهز المسلمون هذه الفرصة من النصر على الأسطول البيزنطى، وهاجموا قلوريّة فى جنوب إيطاليا تأديبا لمن يحشدهم الروم فيها لإمداد حاميات المدن والحصون التى لم يستسلم من فيها للمسلمين.

وفى سنة 289 هـ/901 م استدعى الأمير إبراهيم بن الأغلب ابنه عبد الله والى صقلية وتنازل له عن صولجان الحكم فى القيروان وإفريقية التونسية، وصمم على أن يقضى بقية أيامه مجاهدا فى صقلية، واتجه إلى سوسة فى ثوب مرقّع علامة الزهاد، وأبحر منها على رأس جيش قوى إلى بلرم، وكان قد أعدّ إعدادا قويا بالأسلحة والعتاد، وسار على رأسه لغزو مدينة طبرمين شرقى الجزيرة إلى الشمال أمنع المراكز التى لا تزال باقية للروم فى الجزيرة، وكانوا لا يزالون يرسلون إليها بالإمدادات. وهاجمها ودارت رحى الحرب عنيفة بين الفريقين. وأحسّ شيئا من التخاذل فى صفوف جيشه لاشتداد وطيس الحرب فجمعهم، وأمر قارئا أن يقرأ عليهم بصوت مرتفع

ص: 337

قوله تعالى: {هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ.} ولعل فى ذلك ما يؤكّد مرة أخرى أن غزو صقلية وفتح بلدانها إنما كان جهادا فى سبيل الله ونشر دينه الحنيف. وبمجرد أن استمع الجند إلى هذه الآيات الكريمة وارتسم أمامهم الفردوس وما أعدّ فيه للمجاهدين امتلئوا حماسة وانقضّوا على أعداء الله ودينه الحنيف، فانهزموا انهزاما ساحقا، وأصبحت مدينة طبرمين أمام جيش المسلمين مفتّحة الأبواب ولا حامى ولا مدافع، وارتعدت فرائص إمبراطور بيزنطة كما روى ذلك ابن الأثير وابن خلدون وأعلن فى القسطنطينية الحداد سبعة أيام لم يضع فيها على رأسه تاج الملك. وسار إبراهيم بن الأغلب توا إلى مدينة رمطة آخر معاقل الروم شرقى الجزيرة جنوبى طبرمين، ففتحوا له أبوابها سريعا واستولى عليها دون قتال. ولم تكف إبراهيم بن الأغلب هذه الانتصارات، فقد ركب البحر مع جنده من مسينى إلى شبه جزيرة قلوريّة جنوبى إيطاليا، واخترقها بجنده مستوليا فيها على كثير من الحصون، ونصب الحصار على قلعة كشنتة (Consenza) المنيعة شمالى قلورية وضيق عليها الحصار، غير أن مرضا ألم به فى أثناء ذلك، فأسلم روحه إلى بارئها تحت أسوار هذه القلعة، ونقل رفاته إلى بلرم ثم نقله ابنه أبو العباس إلى القيروان.

ولعل فى كل ما قدمت ما يصوّر الدور التاريخى المجيد الذى نهضت به الدولة الأغلبية فى القرن الثالث الهجرى الذى ظلّ فيه صولجان الحكم بإفريقية التونسية فى يدها، فقد أضافت إلى البقاع الإسلامية جزيرتين كبيرتين: صقلية ومالطة، وظلت تجاهد فى سبيل الله بصقلية وتعدّ الأساطيل لمنازلة الأسطول البيزنطى وتنكّل به وتمزّق سفنه شر ممزق. وبدأت تلك الحرب بشارة تميزها وأنها حرب جهاد ونشر للإسلام، إذ كان قائد الحملة شيخ الإسلام وإمام المالكية وقاضى قضاتها أسد بن الفرات، وكان يشترك فى هذا الجهاد غير واحد من أمراء الدولة الأغلبية، حتى إذا أوشكت شمس دولتهم على الغروب خلع إبراهيم بن الأغلب زىّ الإمارة والسلطان ولبس زىّ الزهاد المجاهدين فى سبيل الله، وأبلى فى الجهاد بصقلية وقلوريّة بلاء عظيما.

ص: 338