الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأبيات تحمل شماتة مرة بهذا الثائر، فقد عجّل أبو زكريا بفطامه، فلم يطب له شئ من أمنيته، إذ سرعان ما قضت عليه وعلى أتباعه الرماح والسيوف، وكأنما أراد رفعة فنالها ولكن على جذع نخلة، ولكأنما الشرفات من حوله تصيح به: يا لهول ما حاولت، وتلك جثته مصلوبة وحرّ الشمس يحرق إهابه وجلده، والريح أو الرياح تسفى عليه من كل جانب، وكم أمّل أن تنجح ثورته ويسكن القصور المشيدة، وها هو أعظم ما يرجوه قبر يضم جسده وأشلاءه وتلك عاقبة ثورته فى دنياه أما فى أخراه فعاقبتها نار حامية. ونتوقف قليلا لنترجم للشعراء الثلاثة الذين أشرنا إليهم آنفا، وهم فتح بن نوح وابن أبى الدنيا وابن معمر.
(أ) فتح بن نوح الإباضى
هو أبو نصر فتح بن نوح النفوسى، من شعراء النصف الأول من القرن السابع الهجرى ولد ونشأ بجبل نفوسة، ورعاه خير رعاية علمية وأدبية خاله أبو يحيى زكريا بن إبراهيم البارونى، وكان مع شعره وأدبه عالما بالمذهب الإباضى متعمقا فيه، وكان يدرس للشباب صباحا، وفى المساء بعد صلاة العشاء يلقى فى الناس بالمسجد فى نفوسة دروسا عامة، وأكثر أشعاره فى الموعظة بحكم أنه كان واعظا حقيقيّا، إذ كان ما يزال يعظ الناس كل مساء، ومن قصيدة يصور فيها نفسه:
أنا المتيّم لا باليوسفيّات
…
ما نهنهتنى إليها قط همّاتى (1)
بل تيّمتنى فنون العلم أطلبها
…
ما النفس باقية فى هيكل الذات
لست الغداة بصبّ خاضع طمعا
…
فى وصل غانية أرجو مودّات
بل فى منادمة الأخيار راغبة
…
نفسى إلى أجل يفضى بموتات
فهو لا يشغل بحب يوسفيات فاتنات، ولم يحدث أن هماته وطموحاته كفّته أو زجرته عنها، لأنه لا يفكر فيها أى تفكير إذ شغله عنها العلم ومعرفته أن كل ما عليها فان وأنه لا يبقى للإنسان إلا عمله، وإنه لذلك لا يهوى غانية ولا يتذلل لها راجيا منها المودة والعطف، فلذته فى دنياه إنما منادمة التقاة الأخيار، حتى يوافيه أجله. وتكثر فى مواعظه المخمسات على نحو ما تكثر عند الأندلسيين، وله مخمس أدواره موزعة على جميع حروف الهجاء، وفى أول كل دور حرف القافية على هذا النمط:
حاء حذار-واسمعن يا صاح-
…
من سحر ثغر الأبرق الوضّاح (2)
(1) اليوسفيات: صواحب يوسف الفاتنات.
(2)
الأبرق هنا: الثّغر. الوضاح: صفة للثغر أى الجميل البسام.
يلهيك تخلابا عن الأرباح
…
عما قليل أضت صفر الراح (1)
من صالح الأعمال جمّ الحاب (2)
…
خاء خبت نار امرئ شمّاخ
…
يفخر بالأنجار والأسناخ (3)
ما الفخر إلا للفتى النوّاخ
…
حيث التقى مخيّم الأشياخ (4)
أولى النّهى والعزم والألباب
وهو يحذر صاحبه من سحر ثغر المرأة الجميلة، إذ يخلب لبه ويلهيه عن أرباح الأعمال الصالحة، فيعود صفر الكف من الصالحات مملوءة بالآثام والذنوب، ويقول: خمدت نار شخص شامخ بأنفه كبرا واستعلاء، يفخر بالأصول والأنساب، وليس ذلك بفخر، إنما الفخر للفتى المقيم حيث منزل الأشياخ من التقى والصلاح أولى العزم والعقول الراجحة. وفى مخمّس ثان له ينشد:
وأوّل ما أوصى به فى مخمّسى
…
لباس سرابيل التّقى خير ملبس
به ساد أقوام من الجنّ والإنس
…
وليسوا ذوى مال ولا بذوى فلس
ولا نيل ما نالوا ببيض ولا سمر
…
بذلك أوصى الله من كان واعيا
من اهل القرون السالفات الخواليا
ونادى به أهل العصور البواقيا
…
وقال: اتّقون اليوم حقّ تقاتيا
يطاع فلا يعصى وشكر بلا كفر
وهو يقول: أول ما يوصى به فى مخمسه أن يلبس الإنسان سرابيل التقوى ولا يخلعها عن جسمه ونفسه أبدا فهى خير ملبس، وطالما ساد بها أقوام من الجنّ والإنس وأصبحوا من أكبر الأثرياء وليسوا بأصحاب أموال كثيرة ولا قليلة، ولا نالوا ما نالوا من غنائم حرب بالرماح والسيوف، ومع ذلك هم أغنى الأغنياء. ويقول إن تلك وصية الله أوصى بها ذوى الألباب من أهل القرون السالفة، وبالمثل من أهل العصور الباقية، إذ قال-عزّ من قائل-اتّقون اليوم حق تقاتى، وطاعته واجبة وشكره فرض بلا كفر. وقرأ مخمسته مؤسس الدولة الحفصية أبو يحيى زكريا، فعشّرها بمخمس ثان. وله مرثية بديعة فى خاله مربّيه وراعيه أبى يحيى زكريا بن إبراهيم، وفيها يقول:
أحرى وأجدر للأجفان والمقل
…
تقنى بكاء على الإسلام لم تبل (5)
(1) أضت: صرت.
(2)
الحاب يريد الآثام، جمع حوبة (أى إثم).
(3)
الأنجار والأسناخ: الأصول والأعراق.
(4)
النواخ: المقيم.
(5)
تقنى: تحمر-تبل: تذرف الدمع مدرارا.
دعها تسيل أسال الله مقلة من
…
يسطو عليها بسطو العتب والعذل (1)
أبعد ما غاب بدر الدين فى جدث
…
يهنا الحياة بنو الآداب بالأمل (2)
كيف البقاء لطرف زال ناظره
…
حين اعترته بنات الدهر بالسّمل (3)
زر ساحة السّفح واسفح عندها حزنا
…
دمعا يزيد على التسكاب والهطل
أعنى الولىّ أبا يحيى الذى حييت
…
صوى العلوم بمحياه ولم يؤل (4)
وهو يبكى خاله، ويقول إنه أحرى وأجدر للأجفان والمقل أن تبكى دما على الإسلام وفقيده، ويعجب أن لا تذرف الدمع مدرارا، ويدعو على من يعاتب الناس على بكائهم عليه ويعذلهم لائما، حتى ليتمنى لهم حزنا موجعا كحزنه، ويقول إن بنى الآداب بعد أن غيّب عنهم لن يهنئوا بأمل ولا بأمنية، وإنه لم يعد يرى من حوله، إذ أصابته بنات الدهر ونكباته فى ناظره وكأنما فقأت عينه بحديدة محماة. ويطلب إلى رفاقه أن يزوروا معه القبر ويسكبوا دموعهم هناك، فقد توفى أبو يحيى زكريا الذى طالما اتّقدت منارات العلوم وصواها فى حياته، وقد مات ولم يعد.
ويمضى الشاعر فى مرثية خاله منشدا:
يا غربة الدين بعد الشيخ مفتقدا
…
يا وحشة السّير الغرّاء عن الأول
لا عن تراض جرى حكم المنون به
…
قدما جرى فى نبىّ الله والرّسل
قسرا على الأسد فى الأغيال واغلة
…
وفى الذّرى لوعول صعبة السّبل (5)
كمثله فلتلد أنثى مفاخرة
…
أو لا فلا ولدت عن آخر الطّول (6)
يا أيها الشامت المبدى شماتته
…
مهلا بفيك تراب السهل والجبل
وهو يبالغ إذ يجعل الدين بعد وفاة خاله يعود غريبا، ويبدو من الشطر الثانى أن خاله كان يعنى بالسير التاريخية، ويعود إلى المبالغة فى البيت إذ يقرن وفاة خاله بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاة الأنبياء! ويقول إن حيّا لا يستعصى على الموت، لا الأسد فى أغيالها ولا الوعول فى ذرى الجبال وقممها العالية، وينوّه به ويفاخر، إذ يقول مثله فلتلد الأمهات وإلا فلا تلد إلى آخر الدهر، ويدعو على الشامتين بموته. ولعل فيما أنشدناه من شعر فتح بن نوح ما يصور ملكته الشعرية الخصبة.
(1) يسطو: يبطش ويقهر. العذل: اللوم
(2)
جدث: قبر
(3)
بنات الدهر: نكباته. سمل العين: فقؤها بمسمار محمى.
(4)
صوى: أعلام ومنارات. يؤل: يرجع
(5)
أغيال جمع غيل: بيت الأسد. الوعول جمع وعل: تيس الجبل
(6)
عن آخر الطول: يريد إلى آخر الدهر