المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - فى العهد العثمانى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌5 - فى العهد العثمانى

‌5 - فى العهد العثمانى

كانت الدولة العثمانية بالقرن العاشر الهجرى فى أوج قوتها، فانتخب أهل تاجوراء وفدا ذهب إلى إستانبول مستغيثا بتلك الدولة طالبا منها حمايتها لطرابلس وإقليمها وطرد فرسان مالطة من ديارها، ولقيهم السلطان العثمانى: سليمان لقاء كريما، وأمر فورا الأغا مرادا بمرافقتهم للتعرف على أحوال المنطقة ونزل تاجوراء سنة 957 هـ/1550 م وأنشأ بها جامعا ومدرسة، وأرسل إلى السلطان بالأحوال فى المنطقة، فأمر سنان باشا قائد الأسطول العثمانى أن ينسق كافة العمليات الحربية مع مراد أغا لإخراج فرسان مالطة من طرابلس، فأمر سنان باشا درغوت الذى كان مرابطا-حينئذ-ببعض قطع من الأسطول أمام الجزائر بمهاجمته لأولئك الفرسان بطرابلس وطردهم منها، وصدع توا لأمره وهاجم طرابلس، واستسلم له فرسان مالطة سريعا سنة 958 هـ/1551 م. وأصبحت طرابلس ومنطقتها تابعة للدولة العثمانية، وكان مراد أغا أول من شغل منصب الوالى التركى بها، فعمل توا على ترميم القلعة وتعمير المدينة، وحوّل الكنيسة التى بناها فرسان مالطة بالقلعة إلى مسجد، وأخذت الحياة العامة فى طرابلس تنشط ونشطت معها التجارة، وسرعان ما أصبحت طرابلس قاعدة مهمة من قواعد البحرية العثمانية فى البحر المتوسط. وأدركته الشيخوخة سريعا، فرأى ترك طرابلس سنة 964 هـ/1556 م إلى تاجوراء، لتمضية بقية حياته، وخلفه على البلاد من قبل الدولة العثمانية درغوت، وكان قائدا بحريا عظيما، فاتخذ طرابلس قاعدة كبرى لعملياته البحرية الحربية ضد قراصنة وأساطيل الأوربيين من إسبان وغير إسبان، وكثرت بها الغنائم والأسرى الأوربيون، وبذلك أعاد إلى الأذهان سيرة خير الدين (بربروس) فى الساحل الجزائرى واتخاذه الجزائر وغيرها من مدن هذا الساحل قاعدة لأعماله البحرية العظيمة التى ظلت ترتعد لها فرائص الأوربيين، وبالمثل أنزل بهم الفزع والرعب درغوت بسفنه البحرية وجنوده من الترك والطرابلسيين المغاوير.

وعنى عناية واسعة بتحصين المدينة فأنشأ بها أبراجا مختلفة وقصرا له ودارا للبارود وأذن للأسرى المسيحيين بإنشاء مقبرة خاصة بهم مما يدل على كثرتهم فى أيامه بسبب حملات أسطوله البحرية وجهاد جنوده البحرى فى سبيل الإسلام وحماية ديار أبنائه المغاربة. وأنشأ بطرابلس جامعا عظيما ضم رفاته حين توفى سنة 970 هـ/1562 م ووليها بعده علج على ساعده الأيمن فى القيادة البحرية لفترة محدودة، وخلفه عليها جعفر باشا وولاة آخرون منهم مصطفى باشا وفى عهده استولى ثائر من أهل البلاد هو يحيى الجبالى سنة 992 هـ/1584 م على كل ما سوى

ص: 39

طرابلس من المدن والأوطان وجبى خراجها، وزحف إلى المدينة وحاصرها، واستدعت الدولة العثمانية الوالى سنة 997 هـ/1588 م لتهدئة الثائرين، وأرسلت أسطولا لفك الحصار عن طرابلس وتعقب الثائر، وسرعان ما فكّ الحصار وهزم يحيى الجبالى وتوغّل فى الصحراء مع الأعراب، وقتل، وانتهت ثورته.

وكانت الدولة العثمانية ترسل مع ولاتها فى الولايات المختلفة التابعة لها حاميات عسكرية من جنودها الانكشارية، وكثرتهم كانت من أطفال البلاد الأوربية النصرانية التى كانت تحاربها أو الولايات التى كانت تدين لها بالولاء، أو من أبناء الشعب الذين رغبوا فى الانضمام إلى هؤلاء الجنود، وكانت تربّيهم تربية عسكرية إسلامية، وتؤلف منهم عددا ضخما فى جيوشها وترسل منهم مع ولاتها حرسا أو حامية كبيرة، وكانت الحامية تنقسم إلى فرق، ولكل فرقة رئيس منها يلقّب بالداى بمعنى ملازم. وما نصل إلى القرن الحادى عشر الهجرى حتى تبرز نزعة قوية فى صفوف حاميات الانكشارية بالولايات العثمانية المختلفة للاستقلال بها وأن يتولاها داياتهم، وفى سنة 1020 هـ/1611 م نلتقى بصفر أول داى يحكم طرابلس ويدبّر شئونها، وعنى بالحرب البحرية أو الجهاد البحرى الطرابلسى مما جعل الأسرى المسيحيين يكثرون بطرابلس فى أيامه.

وحكم طرابلس بعده الداى مصطفى الشريف سنة 1034 هـ/1624 م وفى عهده نشطت البحرية، وعنى بتحسين بعض الحصون، وتولّى طرابلس بعده الداى رمضان، وكان ضعيف الشخصية، وتخلّى عن الحكم سريعا إلى صهره محمد الساقزلى (1043 - 1059 هـ/ 1633 - 1649 م) وهو ثالث ولاة طرابلس العثمانيين العظام بعد مراد أغا ودرغوت، وكانت له مثل درغوت شهرة بين أبطال البحر العثمانية، وكان الأسطول الطرابلسى فى عهده يتكوّن من 24 قطعة، وكانت برقة قد دخلت فى طاعة العثمانيين منذ استيلائهم على مصر سنة 923 هـ/1517 م وضمّها محمد الساقزلى إلى ولايته فى طرابلس ونشطت التجارة وحركة العمران فى عهده نشاطا عظيما. وتوفى سنة 1059 للهجرة وخلفه عثمان الساقزلى وهو مثل محمد الساقزلى من أهم ولاة ليبيا، وقد طال حكمه لها إلى نحو ثلاث وعشرين سنة، وازدهرت التجارة فى عهده ازدهارا عظيما، كما ازدهر النشاط البحرى، وزار طرابلس لأول عهده العياشى فى رحلته المشهورة إلى الحج، وفيها يشيد بطرابلس ومبانيها وأهلها وكرمهم الفياض وواليها عثمان الساقزلى ويقول إن له نكاية فى العدو، وله مراكب قلّ نظيرها معدّة للجهاد، ويذكر أنه رأى ستة من هذه المراكب أو السفن وهى تخرج لجهاد أعداء الدين، وكانت تحمل نحو ألفى مقاتل خرجت-كما يقول-مجتمعة إرهابا للعدو حين يراها. وكانت تجلب كثيرا من الغنائم والأسرى مما جعل عثمان الساقزلى يبنى لهم سجنا كبيرا كان به نحو تسعين غرفة أو زنزانة بجانب سجنى الداى صفر ومحمد الساقزلى، وجعل بعض القاعات فى قصر درغوت

ص: 40

مستشفى خاصا بالأسرى، وخصّص لرعايتهم طائفة من الأطباء، وألحق بالمستشفى صيدلية لتحضير ما يلزمهم من الأدوية. وأنشأ لنفسه قصرا بديعا، كما أنشأ مدرسة قرب باب البحر لا تزال قائمة إلى اليوم، وبنى فى سنة 1065 هـ/1654 م فندقا كبيرا كان به مائة غرفة كما كان به بئر فى ساحته، وعنى بأسواق البلدة، وكان عهده عهد أمن واستقرار وعمران مزدهر إلى أن توفى سنة 1082 هـ/1671 م. وتعاقب دايات بعده ضعاف الشخصية على حكم ليبيا وكثرت تهديدات الأساطيل الأوربية إنجليزية وفرنسية، وكانوا يشفعون التهديد بقصف طرابلس حتى تضطر إلى مفاوضتهم وإرجاع أسراهم إليهم، وكانت طرابلس تردهم إليهم طلبا من داياتها للمهادنة ورغبة فى السلام. ومن خير ولاتها فى أوائل القرن الثانى عشر الهجرى محمد الإمام الذى أقام علاقات حسنة مع بعض الدول الأوربية وخاصة فرنسا، وبنى له مسجدا بسوق الترك وجدّد بناء هذا السوق وسوق الحرير. وسمح الوالى بعده خليل الأرناء وطى (1090 - 1096 هـ) لإسبانيا بإقامة قنصلية لها فى طرابلس، وكان ظلوما غشوما واتخذ بطانة له من النصارى ضعف دين وسوء سياسة.

وتتردّى طرابلس وليبيا فى هاوية من الصراعات والانقسامات، وينقذهما منها إجماع رأى الانكشارية على تولى أحمد القرمانلى طرابلس وليبيا سنة 1123 هـ/1711 م وكان شخصية قوية، فأخذ يعمل على استقلاله بليبيا وطرابلس وجعلها وراثية فى أبنائه، وتلقّب بأمير المؤمنين، وأخذ يعنى بشئون الدفاع عن طرابلس وتجديد أسوارها وأبراجها وتزويد الحصون بمدافع من عيارات كبيرة، وبنى مسجدا كبيرا وألحق به مدرسة، كما بنى بعض قصور له، منها قصر للاّزينوبا الذى نفّذ فيه مذبحته للإنكشارية، إذ دعاهم إليه، وقد أكمن لهم فى سقوفه ودهاليزه من اغتالوهم حتى يستطيع أن يحكم البلاد حكما نظيفا من شغبهم، وكأنما حاكاه محمد على-فيما بعد-حين اغتال المماليك بالقلعة. وكان حكمه حكما عادلا رشيدا، وامتد إلى نحو خمسة وثلاثين عاما، مما أعطاه الفرصة لينهض بأعمال كثيرة، من ذلك إجراؤه الماء لطرابلس على حنايا ليسقى به أهلها وينتفعوا به، ومنها بناء سوق فسيح الفناء وبناء بيوت ومقاصير أنيقة فى القلعة، ومنها بناء فسقية بقرب البحر لينهل منها أهل السفن من أسطوله وغيرهم، وفى سنة 1141 هـ/1728 م اندفع إلى طرابلس أسطول فرنسى فى مظاهرة بحرية ليرغم القرمانلى على رد بعض غنائم لأسطوله ورد الحرية إلى الأسرى الفرنسيين ودفع بعض التعويضات، فرفض مطالبه بعنف، وأخذ الأسطول الفرنسى يقذف طرابلس بالقنابل قذفا شديدا لمدة ثلاثة أيام والقرمانلى مصر على موقفه ونفدت ذخائر الأسطول الفرنسى فانسحب إلى البحر ولم يعد ثانية إلى المياه الطرابلسية. وحمد له الطرابلسيون هذا الموقف الشجاع. وانتعشت الحركة التجارية لعهده انتعاشا كبيرا إلى أن توفى سنة 1158 هـ/1745 م وخلفه ابنه محمد حتى سنة

ص: 41

1167 هـ/1753 م وكان عهده عهد أمن ورخاء واستقرار كعهد أبيه وخلفه ابنه على الذى ظل بيده صولجان الحكم فى طرابلس وليبيا لنحو أربعين عاما إذ توفى سنة 1208 هـ/1793 م وتميزت الفترة الأولى من عهده بالأمن والرخاء ونشاط الزراعة والتجارة، حتى إذا كانت سنة 1199 هـ/1784 م حدثت كارثة خطيرة عصفت بطرابلس وإقليمها: كارثة مجاعة كبرى ظلت عامين وانتشر معها وباء الطاعون، وانهار لذلك اقتصاد طرابلس فى العهد الأخير لعلى القرمانلى، وظلت لهذا الانهيار بعده آثار غير قليلة، وفى عهده أقامت دول البحر المتوسط الأوربية قنصليات لها فى طرابلس مع مصادقته على ما منحته من امتيازات أجنبية، مما يدل على حمقه وهوجه وقصر نظره. وبعد وفاته حدثت انقسامات بين أبنائه على الحكم، وقتل ابنه يوسف أخاه الحسن، وشق عصا الطاعة عليه أخوه أحمد، وانتهز الفرصة مغامر عثمانى هو على برغل كان يقود بعض سفن صغيرة مسلحة فى البحر المتوسط، فنزل طرابلس واستولى عليها سنة 1208 هـ/1793 م دون مقاومة تذكر، وغضب لذلك باى تونس، إذ استغاثت به الأسرة القرمانلية، وردت إليها سنة 1210 هـ/1795 م وتولّى مقاليد الحكم بطرابلس وليبيا يوسف القرمانلى، ومهما كانت الطرق التى سلكها مع إخوته للاستيلاء على الحكم فإنه كان حاكما ممتازا، ونعمت البلاد فى عهده بالأمن والرخاء والانتعاش التجارى ونشاط العلاقات بين طرابلس ومدن الشواطئ والانفتاح على الغرب والتعرف على مدنيته، مما أعدّها لاستقبال العصر الحديث.

وكانت الأقطار العربية قد أخذت تستعد-منذ فاتحة القرن التاسع عشر الميلادى- لاستقبال هذا العصر عقب نزول الحملة الفرنسية مصر واندحارها بفضل مقاومة الشعب المصرى. وقد أيقظ هذا الحدث الخطير البلاد العربية جميعا من سبات عميق كان قد استغرقها منذ احتلال العثمانيين لأراضيها فى القرن العاشر الهجرى/السادس عشر الميلادى، وأخذت كل منها تستشعر شخصيتها وتحاول انبعاثها انبعاثا جديدا بصور تختلف سرعتها باختلاف ظروفها الخاصة، وكانت مصر أسرعها إلى هذا الانبعاث، وهو انبعاث كان يقوم فيها-وفى جميع الأقطار العربية-على ركنين: ركن التمسك بالتراث الإسلامى العربى على نحو ما يمثله الأزهر. وتمخض هذا التمسك فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر عن ظهور الشيخ محمد عبده ودعوته الإصلاحية الدينية الكبيرة، والركن الثانى ركن التعرف على ما سبقت إليه أوربا فى ميادين العلم والأدب والحضارة، مما جعل مصر تسبق شقيقاتها العربيات فى إرسال البعوث إلى الغرب وإنشاء المدارس العلمية المختلفة فى الطب وغير الطب لعهد محمد على.

وفى رأينا أن فجر العصر الحديث بليبيا أخذ ينشر أضواءه بطرابلس فيها لعهد يوسف القرمانلى وإن لم تكن أضواء مكتسحة، ولكنها أضواء على كل حال، إذ أخذ يوسف يحاول

ص: 42

انفتاح طرابلس على الغرب، عن طريق عنايته بأسطوله وما كان يجنى منه من اتفاقيات الحماية الكثيرة لسفن الدول الأوربية فى البحر المتوسط. وكانت الدولة تأخذ من ذلك إتاوات واسعة تفرضها على تلك الدول، وكان من بينها السويد، فطالبها يوسف بمائة ألف فرنك هدية وبدفع إتاوة سنوية قدرها ثمانية آلاف فرنك. وامتنع قنصلها فى طرابلس من أداء ما طلبه يوسف، فأمر بإغلاق قنصليته، واستولى أسطوله على بعض السفن السويدية فى البحر المتوسط، ووسّطت السويد نابليون عند يوسف، فوافق على أن تخفّض الهدية إلى ثمانين ألف فرنك، وتظل الإتاوة البحرية السنوية كما هى: ثمانية آلاف فرنك، وأعاد يوسف إلى السويد سفنها الأسيرة. ورأى فى سنة 1217 هـ/1802 م أن يفرض على السفن الأمريكية التى تمخر عباب البحر المتوسط إتاوة سنوية على شاكلة ما يفرض على السفن الأوربية، وأبت تلك السفن أن تدفع شيئا، فصادرها، وحاصر الأسطول الأمريكى طرابلس عشرين يوما، وهزمه الأسطول الطرابلسى، فانسحب إلى مالطة-ووسّط الأمريكيون القنصل الإنجليزى ووالى الجزائر العثمانى، وقبل يوسف وساطتهما، وردّ إلى الأمريكيين سفنهم.

وواضح أن طرابلس احتلّت لعهد يوسف القرمانلى مكانة كبيرة فى العلاقات الدولية لم تحظ بها فى أى عهد سابق، لا بما كانت تفرضه من إتاوات سنوية على سفن الدول الأوربية فحسب، بل أيضا بكثرة الوفود الأوربية التى كانت تقدم على طرابلس للتفاوض والتصالح أو للتهديد والوعيد أو لدفع الإتاوات المفروضة. وكل ذلك كان بشارة العصر الحديث فى ليبيا واستشعار طرابلس لشخصيتها العربية بقوة، غير أن المسيحيين الأوربيين كانوا لهذه النهضة بالمرصاد، فتجمعوا فى مؤتمر اكس لاشابيل سنة 1233 هـ/1818 م وقرروا تفويض الدول الأوربية منع الإتاوات البحرية لمدن الشمال الإفريقى: طرابلس وغيرها وما يتصل بتلك الإتاوات من جهاد رجال البحرية الإفريقية فى البحر المتوسط، وسموه قرصنة. وأخذت طرابلس تشهد مظاهرات واستعراضات لأساطيل إنجلترا ودول البحر المتوسط، وأخذت تلك الأساطيل ترغم يوسف القرمانلى على تحرير الأسرى المسيحيين والكف عن الغارات البحرية، ففقدت طرابلس موردا كبيرا من المال كانت تعتمد عليه فى إدارة البلاد ونهضتها، وأخذ يوسف القرمانلى يشعر بالضيق، ويزداد ضيقه سنة بعد أخرى لتراكم الديون على الدولة، مما دفعه فى النهاية إلى أن يتنازل لابنه على القرمانلى عن الحكم سنة 1248 هـ/1832 م. ولم تكد تستدير ثلاثة أعوام حتى استردت الدولة العثمانية طرابلس وليبيا، إذ أرسلت إليهما حاكما جديدا استسلم له على القرمانلى، وبذلك انتهى عهد الأسرة القرمانلية فى طرابلس وليبيا، وتعاقب عليهما ولاة عثمانيون طوال القرن التاسع عشر، وأخذ كثيرون منهم يستجيبون لمقتضيات العصر الحديث من التطور بطرابلس وليبيا وبأسلوب الحكم.

ص: 43

وظلت صور التعليم القديم فى الكتاتيب والزوايا وحلقات المساجد قائمة، وعنى العثمانيون بإنشاء مدارس تركية فى مدن طرابلس والخمس وبنغازى ودرنة، وكان يراد بها إلى تخريج موظفى الدولة، وألم الطلاب فيها ببعض العلوم العصرية مما يصلهم بالحياة العصرية بعض الاتصال، وأخذت إيطاليا تنشئ مدارس لها فى طرابلس والخمس تصل من يتعلمون بها باللغة والثقافة الإيطاليتين إعدادا خبيثا لما كانت تنتويه من احتلال ليبيا. وكان القرن التاسع عشر فى ليبيا يحمل كل ذلك وأهم منه الزوايا السنوسية التى بدأ إنشاءها محمد بن على السنوسى الجزائرى الأصل والمولد والأسرة وكان قد طوف بالبلاد المغربية وتغلغل فى الصحراء الجنوبية لتلك البلاد حتى السودان، وشاهد زوايا المتصوفة المنبثة فى تلك الأنحاء، وأدّى فريضة الحج سنة 1241 هـ/1825 م وظل بمكة خمسة عشر عاما عرف فى أثنائها الدعوة الوهابية وما تدعو إليه من الرجوع إلى مصادر الإسلام الأولى من القرآن الكريم والحديث النبوى، فرأى أن يدعو نفس الدعوة، وأن يتخذ لدعوته نظام الزوايا المعروف فى البلاد المغربية، ولكن أى بلاد المغرب يختاره لزواياه. إن الطريقة الشاذلية تعم المغرب الأقصى وتونس وتعم الجزائر طريقة أبى مدين، وتزاحم الطريقتين فى تلك البلدان طرق أخرى بينما ليبيا-وخاصة برقة فيها-لا تشيع بها طريقة صوفية معينة، وكان قد زار أنحاءها البدوية ورأى أهلها غارقين فى دياجير الجهالة بمبادئ الإسلام وتعاليمه وهم لذلك فى حاجة إلى داع ودعوة تهديهم إلى سبيل الرشاد. ونزل برقة، وأقام لنفسه الزاوية البيضاء فى الجبل الأخضر بها، ورأى الناس يستجيبون لدعوته، فعاد إلى مكة وكان قد ترك بها أهله، ثم رجع إلى برقة ونقل مركز دعوته من الزاوية البيضاء إلى واحة جغبوب، وأخذت الدعوة السنوسية تنتشر فى عهده وعهد ابنه محمد المهدى، حتى أصبح لها نحو مائة زاوية فى بوادى برقة وحضرها فى بنغازى ودرنة. وبذلك عمت اليقظة الإسلامية العربية التى كانت أضواؤها أخذت تتفلّت إلى طرابلس وإقليمها فى عهد يوسف القرمانلى إذ أشاعتها الدعوة السنوسية فى بوادى برقة وحضرها. ولعل فى ذلك كله ما يوضح كيف كان القرن التاسع عشر مبدأ تاريخ ليبيا الحديث وكل ما يتصل به من أدب وغير أدب.

ص: 44