الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعراء والكتّاب وبلاغتهم التى تفوق بلاغة سحبان المشهور بحسن بيانه فى أوائل العصر الأموى، وينوّه بما كان بها من محاسن حضاريّة وصناعات بديعة قام عليها أهل حذق وافتنان وإتقان. ويأسى لهذا المصير المحزن الذى أصاب مدينة تونس قائلا:
فشتّت ذاك الأنس من بعد جمعه
…
كما انتثرت يوما قلائد عقيان
فأعظم برزء خصّ خير مدينة
…
وخير أناس بين عجم وعربان
لعمرى لقد كادت عليها قلوبنا
…
تضرّم من خطب عليها بنيران
وما الدّهر إلا هكذا فاصطبر له
…
رزيّة مال أو تفرّق خلاّن
وهو يقول إن كل هذا الأنس الذى كانت تحظى به مدينة تونس وكل هذا الجاه والمجد تفرّق وتشتّت كما تتشتت وتنتثر قلائد أو عقود ذهبية بديعة، وما أعظمه من رزء فادح نزل على خير مدينة وخير أناس بين الأعاجم والعرب، وإن قلوبنا لتضطرم عليها نيرانا ملتهبة. ويعود إلى نفسه فيقول إنه ليس أمامنا إلا الصبر حتى تنجلى عن مدينتنا تلك الغمرة. وهى حقيقة الدهر، فهو دائما يرزأ المدن كما يرزأ الناس إما فى مال وإما فى فراق إخوان وخلان.
4 - شعراء الوعظ والتصوف
(أ) شعراء الوعظ
القرآن الكريم دائما يعظ ويدعو الإنسان إلى التفكير المتصل فى ملكوت السموات والأرض ليعلم أن له خالقا أحكم صنعه، ودائما ينبه إلى أعمال وأقوال من العبادات التى تطهر نفسه كما ينبه إلى أنه حرّم الفواحش ما كبر منها وما صغر وأنه ينبغى أن يسلك طريق الفضيلة والتحلى بالخلق الحسن حتى ينال رضا ربه نابذا كل الرذائل ومراقبا ربه فى كل ما يأتى من قول أو فعل. ويبدئ القرآن ويعيد فى عقيدة المعاد وأن الناس سيبعثون جميعا يوم القيامة وكلّ يحاسب على أعماله ويجزى عليها فإما إلى نعيم الله ورضوانه وإما إلى جحيمه وعذابه. وشرع الله الخطابة الواعظة فى صلاة يوم الجمعة كل أسبوع وصلاة العيدين، وواعظ الأمة الأول الرسول صلى الله عليه وسلم وتلاه الخلفاء الراشدون يعظون الناس، وبالمثل خطباء الأمة فى مشارق العالم الإسلام ومغاربه، وتكاثر الوعاظ-مع مر الزمن-يعظون الناس فى المساجد، وللإقليم التونسى مثل غيره من الأقاليم الإسلامية نشاط واسع فى هذا الجانب، ويكتظ كتاب رياض النفوس للمالكى بأسماء وعاظ كثيرين كانوا يعيشون معيشه تقشف وزهد، رافضين متاع الدنيا
طالبين ما عند الله من ثواب الآخرة. وساعد على انتشار هذه الروح الدينية هناك كثرة المحارس أو الرباطات التى أقيمت على طول الساحل التونسى للعبادة والنسك وحراسة البلاد من القراصنة وأعداء الله الروم وغيرهم. ولم يكن هناك فقيه كبير إلا ويقيم بها بعض أشهر سنويا للدفاع عن الوطن حين يباغته عدوّ أو قراصنة، واشتهر سحنون إمام المذهب المالكى فى المغرب جميعه بأنه كان يرابط وقتا فى السنة بالمنستير قرب مدينة سوسة، وكان واعظا وزاهدا كبيرا وكثير من تلاميذه كانوا وعاظا زهادا واشتهر منهم شاعران فقيهان واعظان، هما أبو العباس بن زرزر وأحمد الصواف، أما ابن زرزر فأكثر من الشعر فى توحيد الله والرد على المارقين والملحدين، وأما أحمد الصواف فله شعر كثير فى المواعظ وسنخصه بترجمة. ويلقانا بعده ابن الرائس الفضل بن نصر المتوفى سنة 344 هـ/955 م وهو من أفذاذ الشعراء والعلماء، وله يعظ من قصيدة (1):
ماذا تريك حوادث الأزمان
…
وصروفها وطوارق الحدثان (2)
والجاريات السّبع فى الفلك الذى
…
يجرى بتقدير العظيم الشان
من خفض أعلام ورفع معاشر
…
وزوال سلطان إلى سلطان
أمّا الزمان فواعظ لك صرفه
…
لو كنت متّعظا بصرف زمان
وهو يقول: ها هى حوادث الأزمان ونوائبها وحوادث الليل والنهار وما تجرى به الكواكب السيارة فى الفلك بتقدير الله وما يتصل بذلك من الهبوط بأناس والارتفاع بآخرين وزوال سلطان إلى سلطان، كل ذلك هو الزمان، وحرى بك أن تتعظ بصرفه وبما يجرى به من محن وخطوب. ولا ريب فى أن حلقات الوعظ الكثيرة التى كانت منبثة فى القيروان وغيرها منذ القرن الثالث بل قبله هى التى أعدت لكثرة الوعظ على ألسنة الشعراء. ويقول عبد الله بن رشيق المتوفى سنة 419/ 1029 م (3):
خير أعمالك الرّضا
…
بالمقادير والقضا
بينما المرء ناطق
…
قيل قد كان فانقضى
وهو يدعو إلى الرضا بالقضاء فلن يستطيع أحد أن يبدل حكما له، وإذن لا بد أن يقبل كل ما ينزله به، فذلك هو عين العقل والصواب. ويخوّف عبد الله بن رشيق من الموت إذ ما يلبث أن ينزل بالإنسان، فيقال: قد كان حيا وانقضى أجله وانتهى. ويقول على بن أبى الرجال رئيس
(1) المجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 88.
(2)
صروف جمع صرف: نوائب الحدثان: الليل والنهار.
(3)
الأنموذج ص 192.
ديوان الإنشاء للدولة الصنهاجية المتوفى سنة 426 للهجرة (1):
أمن الزمان زمانة العقل
…
فاخش الإله وحل عن الجهل (2)
واعلم بأنك فى الحساب غدا
…
تجزى بما قدّمت من فعل
وهو يقول إن من يأمن الزمان لا يعدّ صحيح العقل، بل لكأنما عقله به آفة، وأى زمان إننا نحيى فيه حياة قصيرة أو طويلة ثم نلقى الله فحرى بكل شخص أن يخشاه وأن يتخلص مما على عقله من غشاوة الجهل فإنه معروض على ربه فى الحساب غدا ويجزى بما قدمت يداه من عمل طيب أو سيئ. ويقول على بن حبيب التنوخى المتوفى سنة 440 هـ/1049 م واعظا (3):
للمرء فى أيامه واعظ
…
لو فكّر المغرور فى رمسه (4)
كم من قرير العين فى غبطة
…
أعراه صرف الدهر من لبسه
ففارق الأحباب عن كرهه
…
واستبدل الوحشة من أنسه
يا ربّ غفرانك يرجو الذى
…
أسرف فى الدنيا على نفسه
وهو يعظ المغرور بأنه لو فكر فى رمسه أو قبره وأنه مدفون به غدا لطأطأ من غروره، وتذكّركم من شخص كان مسرورا فى نعمة وحياة رغدة طيبة جرّده حادث الدهر من ذلك كله، ففارق الأحباب مكرها مرغما وأصبح فى حفرة مظلمة لا أنيس ولا رفيق. ويتجه الشاعر إلى ربه معترفا بما أسرف على نفسه من الذنوب راجيا منه الغفران. ويقول عبد الله التجانى الذى ترجمنا له بين شعراء المديح من قصيدة وعظية طويلة (5):
بادر إلى التقوى بدار مسارع
…
وانهض إلى الطاعات نهض سباق
واغنم من الأيام مهلة ساعة
…
قبل التفاف السّاق منك بساق
يا أيّها الإنسان إنك كادح
…
كدحا وأنت لما كدحت ملاقى
والمرء مجزىّ بما هو فاعل
…
وجزاؤه جار على استحقاق
وهو ينصح من يخاطبه بالمبادرة إلى التقوى وعبادة الله بدار مسارع عجل، وبالنهوض إلى
(1) المجمل ص 129.
(2)
زمانة: مرض. حل: تحول.
(3)
الأنموذج ص 281 والحلل السندسية 2/ 334 والمجمل ص 134.
(4)
رمس: قبر.
(5)
الحلل السندسية 2/ 516 والمجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 213.