الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعلّ ما نرجو تجود به
…
كفّ الزمان ويسعد الجدّ
وهو يعجب فهذه ديار المحبوبة: العذيب ونجد، وهو لا يزال يبكى، وآن له أن يكف عن بكائه، فتلك أعلام ربع محبوبته تبدو، فحق له أن يسرح دموع العين ويشدو بذكر الماضى من عهد الأحبة، بل إنه ليدعو المحب إلى لثم مواطئ أقدامهم إن عاقه عنهم البعد ولم يستطع سريعا لقاءهم، ويأمل أن تجود له كف الزمان بأمنيته ويساعده الحظ فى نيلها. ويقول متغزلا:
خلّيانى يا صاحبىّ ونجدا
…
هجتما بالملام شوقا ووجدا
فلنجد بين الجوانح ودّ
…
مستجدّ ما دام ربعا لسعدى
لا تقولوا مرام سعدى بعيد
…
ربّ سعد أتى فقرّب بعدا
أهل ودّى ما حلت عن حفظ عهدى
…
وهواكم ما غيّر النّأى عهدا (1)
وهو يطلب إلى صاحبيه أن يدعاه ونجدا ويكفّا عن لومهما فإنه كالريح تزيد نار وده المستكنة بين جوانحه اشتعالا بتعلقه بسعدى، ولا تقولا إن ربع سعدى بعيد، فرب سعد حدث فقرّب الربع والديار، ويلتفت إلى سعدى قائلا لها إنه لا يزال على العهد ويقسم لها بحبها ما غير العباد له عهدا ولا حبا. ويلومه عذول فى تعلقه بمحبوبته تعلقا مسرفا، فيقول له:
ردّ لى قلبى لتعذله
…
فهو فى كفّيه أجمعه
لفظه درّ يساقطه
…
ونطاق السّمع يجمعه
فقلبه ليس معه ليعذله، بل هو مع صاحبته، وإنه ليتراءى له جمال لفظها وهى تنثره دررا ونطاق سمعه يجمعها دررا وراء درر. ولعل فى ذلك كله ما يصور افتنانه فى غزله ورقته.
محمد (2) ماضور
من أسرة فاضلة من الأسر الأندلسية التى نزلت الإقليم التونسى فى القرن الحادى عشر الهجرى واستقرت ببلدة سليمان، منشئة فيها كثيرا من البساتين وحقول الحبوب المتنوعة، وولد بتلك البلدة محمد لأبيه
محمد ماضور
أحد علمائها الأفاضل سنة 1150 هـ/1737 م وفيها منشؤه ومرباه على أبيه وعلمائها حتى إذا أصبح شابا تحول إلى تونس وجامعتها الزيتونة، فنهل من حلقات علمائها، وأعجبهم فيه ذكاؤه، فأسندوا إليه-حين استكمل دراسته-الدرس للطلاب بتلك الجامعة، وعاد إلى بلدته «سليمان» إماما وخطيبا بجامعها، حتى إذا توفى أبوه حلّ محله فى
(1) حلت: تغيرت. النأى: البعد.
(2)
انظر فى ترجمة محمد ماضور مجمل تاريخ الأدب التونسى ص 261 والأدب التونسى فى العهد الحسينى للهادى الغزى ص 104.
منصب القضاء ببلدته، وظل يليه إلى وفاته سنة 1226 هـ/1811 م.
وكانت موهبة محمد ماضور الشعرية قد تفتحت مبكرة، فعرف بين الشعراء والأدباء برقة أشعاره، وقد خلف ديوانا لا يزال مخطوطا، ومعظمه غزل ينبئ عن حس مرهف، من مثل قوله:
إلى كم تجور ولا تنصف
…
وتهجر تيها ولا تعطف
وحتى متى الهجر لا ينقضى
…
وإخلاف وعدك لا يخلف
وقد عيل صبرى وشقّ الهوى
…
علىّ وبى ريحه تعصف
وأسر الهوى لجّ بى للتّوى
…
وقلبى بنيرانه يرجف (1)
ولبّ سها واصطبار وهى
…
وشوق دهى القلب لا يصرف
وهو يقول إن صاحبته تظلمه ولا تنصفه فدائما تهجره ودائما تخلف وعدها له، حتى نفد صبره، وشوقه يتقد فى فؤاده وإنه لأسير الهوى ويكاد يتلفه، بينما قلبه يتلظى بنيرانه، وقد سها لبّه ووهى منه اصطباره، وشوقه لا يريم. ويقول:
يا ظبية أشعلت فى القلب نيرانا
…
وخلّفتنى مع الأشواق حيرانا
صبرى ودمعى لما حملت من شغفى
…
هذا تلاشى وهذا صار غدرانا
يا شمس حسن تبدّت فى ملاحتها
…
هلا قرنت بذاك الحسن إحسانا
ما إن ذكرتك إلا صرت من طرب
…
من طيب ذكراك ولهانا ونشوانا
فصاحبته أشعلت فى قلبه نيرانا لا تنطفئ أبدا، وقد تلاشى صبره وذرف الدمع مدرارا حتى ليستحيل غدرانا، ويستعطفها بحسنها الفاتن أن تقرن به إحسانا إليه ومودة، ويعترف بأنه أصبح من طيب ذكراها موّلها منتشيا. ويقول:
شوقى يزيد على طول المدى حرقا
…
يا ظبية الإنس رفقا بالذى عشقا
لله ذاك المحيّا نور بهجته
…
يغشى سنا القمر السارى إذا اتسقا
يهواك لبّى وقلبى مع جوانحه
…
كذاك سمعى وطرفى كلما رمقا
وهو يقول لصاحبته إن قلبه يزداد مع الزمن حرقا ولوعات مضنية، ويتوسل إليها أن ترفق بعاشقها، ويتولاه العجب لجمال وجهها ويتخيل كأنما القمر يستمد سناه وضوءه فى ليلة اكتماله من نوره البهيج. ويقول لها إن كل ما فيه يهواها، يهواها لبه وقلبه وجوانحه وسمعه وبصره.
(1) التوى: الهلاك.