الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يعجب من أن الموت أدرك محمدا الرشيد وسلاحه وحرسه من حوله لحمايته، ويتساءل هل تغافل الحمام أو الموت البواب أو سبقت له يد عند الحراس، ويقول إن الزمان لودرى بمقامه ما ساقه قهرا إلى القبور، وإن عرا الإسلام الوثقى لتكاد تنقض بعده لولا قيّض لها مقيم الدين بالعدل والقسطاس، علىّ أخوه، وما أجدر الملك الرفيع عماده به لخلقه الكريم.
(ب) رثاء المدن والدول
هذا الضرب من الرثاء قديم فى الشعر العربى منذ الجاهلية على نحو ما هو معروف عن الأسود بن يعفر ورثائه لدولة المناذرة فى الحيرة ولما قضى العباسيون على الدولة الأموية بكاها أبو العباس الأعمى المكى. وحين حاصر طاهر بن الحسين قائد المأمون بغداد فى حرب الأمين ورماها بالمجانيق وكثر فيها الحرق والهدم بكاها غير شاعر عباسى بكاء مرّا ونتقدم مع الزمن إلى سنة 257 ويهاجم البصرة الزنج ويحرقون مسجدها الجامع ويحيلونها أنقاضا، وبكاها الشعراء وفى مقدمتهم ابن الرومى الذى تفجع لها وتوجع مستصرخا لها الخليفة وجيوشه والأمة، ولبّاه الموفق أخو الخليفة، وظل ينازل الزنج نزالا عنيفا حتى قضى نهائيا على ثورتهم سنة 270.
ويدور الزمن دورات، وإذا أعراب بنى سليم وهلال يزحفون إلى القيروان سنة 449 هـ/1058 م وينازلهم صاحبها المعز بن باديس الصنهاجى، ويلحقون به هزيمة شديدة، ويضطر إلى ترك القيروان لهم وينحاز إلى المهدية عند ابنه حاكمها تميم، ويدخلون القيروان فيحيلونها أنقاضا، ويقضون على حضارتها، ويفرّ منها كثير من علمائها ونابهى شعرائها، وممن غادرها ابن رشيق، ونراه يصف تلك النكبة فى قصيدة طويلة، ومن قوله الحزين فيها (1):
المسلمون مقسّمون تنالهم
…
أيدى العصاة بذلّة وهوان
يستصرخون فلا يغاث صريخهم
…
حتى إذا سئموا من الإرنان (2)
خرجوا حفاة عائذين بربّهم
…
من خوفهم ومصائب الملوان (3)
هربوا بكلّ وليدة وفطيمة
…
وبكل أرملة وكل حصان (4)
فتفرّقوا أيدى سبا وتشتّتوا
…
بعد اجتماعهم على الأوطان (5)
وهو يقول إن المسلمين تقسموا فرقا بينما أيدى العصاة للرحمن تنالهم بغير قليل من الذل والهوان، وها هم أهل القيروان يستصرخون فلا يغاث صريخهم حتى إذا بحّت أصواتهم من
(1) المجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 145
(2)
الإرنان: الصياح والصراخ.
(3)
الملوان: الليل والنهار
(4)
حصان: سيدة عفيفة
(5)
يقال: تفرقوا أيدى سبأ إذا تشتتوا فى أرجاء الأرض
الصراخ ولا مغيث ولا مستجيب خرجوا على وجوههم يعدون حفاة عائذين بربهم من القتل والأسر وما يأتى به الملوان أو الليل والنهار من مصائب ونكبات، ويقول إنهم فروا من الأعراب بكل مولودة ومفطومة وبكل أرملة وكل عفيفة رجاء أن يحموهن من السبى والهوان، وتفرقوا وتشتتوا فى البلاد وتشتت معهم العلماء والشعراء. وكان يعاصره ابن شرف، وله بدوره فى القيروان حينئذ بكاء وتفجع مرير، وسنخصه بكلمة. وممن ندبها وتذكر إخوانه بها وقد رحل عنها إلى الأندلس على الحصرى، وفيها يقول (1):
ألا سقى الله أرض القيروان حيا
…
كأنّه عبراتى المستهلاّت
فإنها لدة الجنّات تربتها
…
مسكيّة وحصاها جوهريّات
إلا تكن فى رباها روضة أنف
…
فإنما أوجه الأحباب روضات (2)
لا يشمتنّ بها الأعداء أن رزئت
…
إن الكسوف له فى الشمس أوقات (3)
هل مطمع أن تردّ القيروان لنا
…
وصبرة والمعلّى فالحنيّات
وهو يدعو للقيروان بالسقيا الوافرة كدموعه الغزيرة التى لا تزال كلما ذكرها استهلت فإنها رفيقة الجنّات، تربتها مسك وحصاها جواهر لامعة، وإلا يكن فى رباها الآن بعد أن خربها بنو سليم وهلال روضة جديدة بديعة فأوجه الأحباب بها روضات فاتنة، ويذكر ما أصاب القيروان من خراب فيقول: لا يشمت بها الأعداء لأن رزئت ونكبت فإن الشمس الساطعة يلم بها الكسوف أحيانا، فهو رزء إلى أجل، وتعود بعده القيروان إلى حضارتها وازدهارها المعهود. ويتمنى أن تعود سريعا إلى أهلها هى وصبرة وغيرهما من المواضع والمدن.
ومرّ بنا أن عبد المؤمن بن على أمير الموحدين استولى على مدينة قابس من يد مدافع بن رشيد الهلالى بعد موقعة هزم فيها مدافع وفر إلى أعراب طرابلس ثم لحق بعبد المؤمن فى مدينة فاس فأكرمه وأسكنه بها، وكان ممن فرّ بعد الموقعة أبو ساكن عامر بن محمد من عشيرة مدافع وأبعد فى فراره حتى دمشق وهناك بكى قابس وأيام حكم عشيرته لها. ومن قوله (4):
يا حار طرفى غير هاجع
…
والدّمع من عينىّ هامع (5)
إنّي من الشّمّ الألى
…
شادوا العلا أبناء جامع
ولقد ملكنا قابسا
…
بالمشرفيّات القواطع
(1) الذخيرة 4/ 277
(2)
أنف: مزدهرة جديدة
(3)
رزئت: نزل بها رزء: مصيبة
(4)
الخريدة 1/ 139 وما بعدها والحلل السندسية 2/ 357 وما بعدها.
(5)
هامع: سائل