الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألم تر أنّ الدهر يقرى أهيله
…
هموما وأن العيش صار منكّدا (1)
فما حلّ قوم فيه إلا بفجعة
…
وأنت لأخرى فيه منتظر غدا
وكم قد رأينا من عزيز مشرّف
…
يبيت مقرا فى القباب ممهّدا
أتته المنايا وهو فى حين غفلة
…
فأضحى ذليلا فى التّراب موسّدا
وفيم تعلق الناس بالدنيا؟ إن الدهر لا يزال فيها يقرى الناس-ويطعمهم-هموما هما من بعد همّ، وقد صار العيش فيها نكدا كله، وهل أحد فيها إلا أصابته فجعة أو مصيبة موجعة من موت صديق أو قريب، وإن الكأس التى ذاقوها ليذوقها كل شخص بدوره، وكم قد رأينا من عزيز له شرف لا يدانيه شرف يترك ذلك كله حين يوافيه القدر إلى قبر ممهد بين القبور، وإنه ليموت على حين غفلة من أهله وأصفيائه، ويدفن فى التراب ويتوسّده ويصبح فيه أسيرا ذليلا لا شرف ولا طنافس، ولكن تراب بجانبه تراب. وقال مبتهلا إلى ربه فى ختام قصيدة له طويلة:
أجرنى من عذابك واعف عنّى
…
وكن لى منك يا أملى مجيرا
فإنى قد كبرت ورقّ عظمى
…
وجئت إلى فنائك مستجيرا
فهو لا يخاف الموت ولا يرهبه، ولذلك لا يعد المشيب نذيرا له بل بشيرا، إذ سيلقى ربه، وعاش حتى توفى فى السابعة والثمانين من عمره.
(ب) شعراء التصوف
مر بنا فى الفصل الأول كيف أخذت تنشط حركة الزهاد والنساك فى القيروان وتونس وغيرهما من بلدان الثغور على الساحل التونسى منذ أواخر القرن الثانى للهجرة، إذ بنى بجوار هذه الثغور رباطات-وتسمى هناك محارس-للمجاهدين فى سبيل الله ضد القراصنة وكانت أشبه بحصون كبيرة إذ كان بعضها يبلغ نحو ثلاثين غرفة ومعها مسجد وحمامات وأحواض مياه، وكثيرا ما كان يلحق بها إسطبل للخيل حتى يتمرن العبّاد فيها والناسكون على الفروسية ولقاء العدو، وطبيعى أن كان بها بعض الأسلحة. وأعطت هذه المحارس أو الرباطات الفرصة لكى تتكون طبقات من النساك الذين وهبوا نفوسهم للنسك ولجهاد أعداء الله، وكان الفقهاء-حتى كبارهم من أمثال سحنون إمام المذهب المالكى فى الفقه-ينزلونها فترات ويلقون بها محاضرات ودروسا من شأنها أن تزيد النساك نسكا وأن تدلع الحماسة فى قلوبهم لحماية الإقليم التونسى.
(1) يقرى: يطعم.
ويهمنا الآن جانب النسك والعبادة، وقد أخذ كثيرون فى تلك المحارس يعيشون للنسك الخالص وحاكاهم فى ذلك بعض سكان القيروان وغيرها من المدن. وكان التصوف قد أخذ يشيع فى المشرق وانبثق عنه ضرب فلسفى آمن بالحلول على نحو ما هو معروف عن الحلاج المتوفى سنة 309 للهجرة، وظلت القيروان ومحارس الساحل التونسى بعيدة عن هذا التصوف الفلسفى، غير أنه مع الزمن أخذ يظهر فيها من استغرقوا فى الزهد والنسك، حتى ليمكن أن نسميهم متصوفة، غير أنهم متصوفة سنيون، وهو تصوف فردى فلا طريقة صوفية للمتصوف ولا مبادئ خاصة يتخذها لطريقته الصوفية مثل أبى عقال المار ذكره غلبون بن الحسن بن غلبون من أسرة الدولة الأغلبية من أبناء مدينة رقّادة بالقرب من القيروان، وكان عابدا ناسكا، وهاجر إلى مكة واختارها دار مقام له إلى أن توفى، وله أشعار زاهدة كثيرة عليها مسحة من التصوف أنشد منها المالكى فى رياض النفوس مقطوعات متعددة (1).
ومن متصوفة هذا الدور محرز بن خلف المتوفى سنة 413 وأبو الفضل بن النحوى المتوفى بعده بقرن. وسنخص كلا منهما بكلمة. ومعنى ذلك أن القيروان ظلت لا تعرف التصوف الفلسفى ولا الطرق الصوفية حتى منتصف القرن السادس الهجرى إلا ما كانت تقرؤه فى الكتابات المشرقية، وتنتشر موجة التصوف الفلسفى غربى الاقليم التونسى بمدينة بجاية إذ ينزلها أبو مدين شعيب المتوفى بتلمسان سنة 594 هـ/1198 م وكان يشوب تصوفه شئ من النزعة الفلسفية، وتبعه كثيرون فى الجزائر والمغرب وزار تونس، وتبعه فيها غير تلميذ مثل أبى سعيد خلف بن يحيى التميمى المولود سنة 551 والمتوفى سنة 628 هـ/1231 م. ويبدو أن عقيدته الصوفية لم ترسخ فى القيروان، وزار تونس-بعده-محيى الدين بن عربى المتصوف الأندلسى المتوفى سنة 638 وأقام بها مدة التف فيها حوله بعض الأتباع، وأهم منه ومن أبى مدين تأثيرا فى الإقليم التونسى أبو الحسن الشاذلى المولود سنة 593 هـ/1197 م والناشئ فيه بشاذلة إحدى بلدانه واتجه إلى التصوف مبكرا، ورحل إلى المشرق وتعرف فيه على أحد معتنقى الطريقة الرفاعية، وهى إحدى الطرق الصوفية السنية التى ظهرت بالمشرق فى القرن السادس الهجرى، وعاد إلى المغرب واتجه غربا إلى فاس ولقى فيها عبد السلام بن مشيش أحد أتباع طريقة أبى مدين، فلزمه مدة، ثم تركه إلى شاذلة وعاش بها فترة، وكان يتركها، أحيانا إلى تونس وينشر فيها دعوته، وتبعه فيها أصحاب كثيرون وكان يهاجم الخانقاهات والتسول بقوة، وتعرف على تلميذه أبى العباس المرسى وأعجب كل منهما بصاحبه. ويبدو أنه رأى أن يتسع بدعوته إلى طريقته، فصمم على مغادرة تونس إلى الاسكندرية وصحب معه
(1) رياض النفوس للمالكى 1/ 437 - 442