الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتخلّلون مقاطع الأقصوصة بطرق حوافر الخيل للأرض ونبح الكلاب وزئير الأسد، للدلالة على تطور الأحداث فى القصة أو فى الرحلة الغرامية فرارا من الأهلين لعدم رضا الأب عن زواج المتحابين، وكأنهم يتمثلون فيها قصص الغرام النجدية التى كان يحرّم فيها الأب النجدى الزواج بفتاته أو ابنته على من يتغزل بها من شباب القبيلة كما هو معروف فى قصة ليلى العامرية وعاشقها ابن عمها قيس المجنون بها غراما وهياما.
(د) مكانة المرأة
(1)
مرّ بنا فى حديثنا عن الملبس فى القطر التونسى أن النساء فى تونس والمهدية كن يبالغن فى العناية بزينتهن وعطرهن وهندامهن، ولا نريد أن نعرض لذلك وما يماثله مما يتصل بمظهرهن، إنما نريد أن نقف عند مدى إحساسهن بكرامتهن، ويصور ذلك بوضوح ما يروى من أخبارهن، فمن ذلك ما تذكره الروايات عن أبى جعفر المنصور المؤسس الحقيقى للدولة العباسية فإن هشام بن عبد الملك (105 - 124 هـ) كان قد أقام عيونا على أسرة إبراهيم بن محمد حفيد عبد الله بن العباس وإخوته لما كان يبلغه من نشاطه ويعرفه فيه من الحزم وبعد النظر أو لعله كان يتوقع من أبناء الأسرة أن يفكر أحدهم فى الثورة على خلافتهم الأموية، ولم يوعز إلى عيونه بتعقب إبراهيم بن محمد وحده بل أيضا بتعقب أخويه السفاح وأبى جعفر المنصور ويبدو أن المنصور رأى أن يبتعد-لفترة-عن أنظار هؤلاء العيون، واختار القيروان لنزول بعض أقربائه فيها وتصادف أن رأى فى مقامه لديه فتاة تسمى «أروى» أعجب بها، فطلب يدها فاشترطت عليه أن لا يتخذ معها سرارى أو جوارى، وإن تسرّى عليها كانت عصمتها بيدها، وانفصلت عنه، كما تجرى بذلك عادة القيروانيات من قديم، وقبل أبو جعفر شرطها، وعاد بها إلى أهله. وتطورت الظروف، وأصبح خليفة، وأنجب منها المهدى الخليفة بعده وأخاه جعفرا والد زبيدة حفيدة أروى وزوجة ابن عمها هارون الرشيد الخليفة بعد أبيه، وورثت عن جدتها حصافتها. وقد برّ المنصور بوعده لأروى، فلم يتزوج عليها إلى أن توفيت سنة 146 للهجرة، وكان قد أقطعها ضيعة، فوقفتها-كما يقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب- على ذريتها من الأرامل اللائى يموت عنهن أزواجهن، وكذلك على العوانس اللائى لم يتزوجن، حفظا لكرامتهن وصيانة لهن، وهى مأثرة وبر رفيع بفلذات الكبد من البنات سجّلته أروى فى تاريخ المرأة التونسية، كما سجلت شعورها بالكرامة فى صورة نبيلة.
(1) انظر فى الموقف الأول القسم الأول من كتاب ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وفى الموقف الثانى قطعة من تاريخ إفريقية والمغرب للرقيق القيروانى ص 120 وما بعدها وفى الموقف الثالث ولاية خفاجة بن سفيان فى صقلية.
وموقف كريم ثان لنساء القيروان عامة حين استنفر عبد الواحد بن يزيد الهوارى وعكاشة بن محصن الصفرية فى الجزائر للهجوم على القيروان، وكان الصفرية قد اشتهروا بسفك الدماء وهتك الحريم وسبيهن، وكان عبد الواحد قد اقترب من القيروان فى ثلاثمائة ألف، وأخذ حنظلة بن صفوان والى القيروان يستعد للقائه، وما إن أخذ يعدّ صفوف جيشه لهذا اللقاء حتى فوجئ بنساء القيروان جئن للتحريض على الجهاد والاشتراك فى الحرب، يقول الرقيق القيروانى:«خرج نساء القيروان فعقدن الألوية، وأخذن معهن السلاح، وعزمن على القتال واستبسلن للموت مع الرجال، وحلفن لأزواجهن: لئن انهزم أحد منكم إلينا مولّيا عن العدو لنقتلنّه» وحين سمع الناس هذا الوعيد والتحريض الشديد من النساء وطنوا أنفسهم على الاستشهاد، فالموت أولى بهم من عار سباء زوجاتهم، وانتهاكهنّ وبيعهن فى الأسواق بيع الإماء. والتحم القتال وتداعى الأقران والأبطال، وانتصر حنظلة والجيش ونساء القيروان، وقتل عبد الواحد وقتل من جموعه مائة وثمانون ألفا، وهى مفخرة باقية للمرأة التونسية لاستشعارها-إلى أقصى حد-كرامتها وحميتها للوطن استشعارا يسجله لها التاريخ فى الأزمنة الإسلامية الماضية.
وموقف كريم ثالث للمرأة التونسية لا فى القطر التونسى بل فى صقلية، فإن واليها خفاجة بن سفيان كان قد شدد الحصار على أهل طرميس سنة 248 هـ/863 م وكانوا ينازلون جيشه نزالا ضاريا ورأوا أن يقفوا الحرب وطلبوا من خفاجة وفدا للمفاوضة، فأرسل إليهم وفدا على رأسه زوجته لمفاوضتهم، وهى أول سيدة عربية تتولى السفارة بين قومها وأعدائهم، واستقبلوها بحفاوة، ونزلوا على إرادتها فيما وضعته لهم من شروط الصلح، وسلموها مفاتيح المدينة، وبذلك نجحت سفارتها نجاحا عظيما، إذ حقنت دماء المسلمين وسلمتهم مفاتيح مدينة بأكملها ودخلوها صلحا، وابن هذه السيدة البطل محمد بن خفاجة هو فاتح مالطة سنة 255 هـ/868 م إذ أعد لفتحها أسطولا قضى به على حاميتها الرومية، وظلت مالطة تابعة لصقلية إلى أن استولى عليها النورمان بعد نحو مائتين وثلاثين عاما. ومعنى ذلك كله أن للمرأة التونسية تاريخا مجيدا فى العصور الإسلامية يصور حصافتها وكياستها وشعورها بكرامتها إلى أقصى حد.