الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أين المفرّ، فلما قضى السيف منهم أوطاره، وشفى الدين من دمائهم أواره (1): جمعوا منهم عددا ينيف بعد الأربعمائة على الأربعين، وجاءوا بهم فى الأصفاد مقرّنين، وامتلأت بغنائمهم-والحمد لله-أيدى المسلمين، وانقلبوا فرحين بما آتاهم الله مستبشرين». وإنما ذكرنا هذه القطعة الطويلة فى ختام الرسالة لندل على براعة كاتبها وأنه لم يكن يقلّ عن كتّاب المشرق بيانا وبلاغة. وفى ذلك ما يدل على أن الكتابة الديوانية فى العهد الحفصى رقيت رقيا بعيدا وأن كتّابها لم يكونوا يقلّون عن نظرائهم فى المشرق فصاحة لفظ ورصانة مع اصطفاء الكلام والملاءمة بين الكلمة والكلمة والسجعة والسجعة بحيث يجد القارئ لرسائلهم لذة ومتعة مع ما يجد فيها من الحقائق التاريخية كهذه الغارة على جزيرة غودش، غير أن الزمن لم يحتفظ بها جميعا، فضاعت فيما ضاع من نصوص أدبية تونسية.
3 - الرسائل الشخصية
إذا كان جمهور الرسائل الديوانية القيروانية والتونسية سقط من يد الزمن فإنه احتفظ بكثير من الرسائل الشخصية، ومن أوائل ما يلقانا منها رسالة استعطاف لداود القيروانى المتوفى حوالى سنة 210 هـ/825 م وكان قد تقلد ديوان الرسائل لمحمد بن مقاتل العكّىّ فلما عزل وتولى على القيروان وإفريقية مكانه إبراهيم بن الأغلب سنة 184 هـ/800 م اختفى داود أياما وكتب-من مخبئه يستعطف ابن الأغلب-رسالة يقول فيها (2):«ذنبى عظيم، وخناقى ضيق، وحجتى ضعيفة، وعفو الأمير وطوله (3) أعظم من ذلك كله، فإن تداركنى الأمير-أعزّه الله- بما أؤمّل فذلك الذى يشبهه وينسب إليه وأرجوه منه، وإن يعاقب فبالذنب الذى اجترمته (4) وهو أحقّ بانتشالى من زلّتى، وإقالتى (5) عن عثرتى. . والأمير أولى فىّ، وانظر منى لنفسى، وأعلى بما سألته ورغبت إليه فيه عينا ويدا، والله ولىّ توفيقه فيما عزم عليه من ذلك. أتمّ الله على الأمير نعمته» فعفا عنه الأمير إبراهيم بن الأغلب وقرّبه منه، واستكتبه، وعهد إليه فى مهماته واتخذه مستشارا فى أموره، وكان نعم الناصح له الأمين. واشتهر ابنه إبراهيم بإتقان الكتابة وعيّن مثل أبيه فى الدواوين الأغلبية. وإذا مضينا إلى عهد إبراهيم الأغلبى الثانى (261 - 289) وجدناه يسخط على كاتبه الخاص البريدى محمد بن أحمد بن حيّون المتوفى سنة 276 هـ/889 م ويزج
(1) أواره: ناره.
(2)
المجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 45.
(3)
طوله: فضله.
(4)
اجترمته: اقترفته.
(5)
إقالتى: الصفح.
به فى غياهب السجون، فيرسل إليه رسالة طويلة مستعطفا، وفيها يقول (1):
ويبدو أن ذنب البريدى كان كبيرا فلم يلن له قلب إبراهيم الثانى الأغلبى ولا صفح عنه، بل أمر بقتله وسفك دمه. وتكثر الرسائل الشخصية فى عصر الدولة الصنهاجية، وسنخص إبراهيم الحصرى صاحب زهر الآداب بكلمة عنه وعن رسائله. ونلتقى بابن شرف القيروانى المترجم له بين أصحاب المراثى للمدن والدول، وكما كان شاعرا مبدعا كان ناثرا مبدعا، وقد رحل إلى الأندلس بعد ما نزل بالقيروان من طوفان الأعراب الهلاليين، كما أسلفنا، وترجم له ابن بسام فى ذخيرته ترجمة ضافية، وذكر له فصلا من رسالة خاطب بها المظفر بن الأفطس أمير بطليوس، وفيها يقول (6):
«كتبت وشوقى إلى شرف لقياه، وشبم (7) سقياه، شوق القارظين (8) إلى سكون وسكنى، والقيسين إلى ليلى ولبنى. . والله ببلوغ الأمل خير كفيل، والشيخ يهدمه الشتاء وقد رأيت طوفان قرطبة يقيم دهرا، وإنما أقام طوفان نوح شهرا» . ويذكر له ابن بسام فصولا نثرية يبدو أنه حبّرها للكتّاب كى ينتفعوا بها فى رسائلهم المختلفة فى مديح أمير أو وزير أو قائد أو قاض أو كاتب أو فقيه زاهد، من ذلك فصل يصلح أن يكتب به إلى حاكم أو وزير، وفيه يقول (9):
«يقدّم الحزم، ويثنّى بالعزم، يشاور ذوى الألباب على أن رأيه لباب، يثب وثوب اللّيث،
(1) أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب (طبع الدار البيضاء) القسم الثالث ص 30 وقارن بابن عذارى 1/ 115 ومجمل تاريخ الأدب التونسى ص 65.
(2)
أمت: أنتسب.
(3)
بسوقه: ارتفاعه.
(4)
خيطانه: فروعه.
(5)
أضف: أسبغ.
(6)
الذخيرة 4/ 193.
(7)
شبم: بارد.
(8)
القارظان: جاهليان خرجا فى طلب القرظ (شجر) ولم يعودا.
(9)
الذخيرة 4/ 184.
ويتدفّق دفوق الغيث، ويراوح بين العجل والرّيث، نومه غرار (1) واضطرار، وحاجاته سرار (2) ثم اقتدار، لا تثبّطه الظّلل ولا الظّلال، ولا تطّبيه (3) الكلل ولا يثنيه الكلال (التعب). رأيه قبسه (مصباحه) وعزمه فرسه، وبصيرته بصره، وصدره ورده وصدره (4)».
وبهذه المقدرة الأدبية البديعة تتوالى هذه الفصول النثرية فى المديح للحكام والوزراء ورجال الدولة من قواد وقضاة وكتّاب، ويورد له ابن بسام فصولا أخرى فى الذم لا تقل عن الفصول السابقة فى روعتها الأدبية، وفى أول فصولها يقول (5).
والفصل يموج كسابقه بالسجع المختار والألفاظ المنتخبة والطباقات والجناسات وناهيك بما يحمل الفصل فى سجعه من روعة، مما يزين وقعه فى الأذن والنفس، إذ ما تزال الإرنانات متصلة فى الكلام، وما يزال جرسها يمتع الأسماع والأفئدة، مع ما يبهر من الألفاظ الثلاثية التى تطير عن الأفواه فى خفة. ويلقانا بعد ابن شرف علىّ الحصرى الذى مرت ترجمته بين شعراء الغزل، وقد ترجم له ابن بسام فى ذخيرته، وأورد له فصولا من بعض رسائل، استهلها بالفصل التالى له من رسالة (9).
وفى سجعه نفس العذوبة التى مرت فى سجع ابن شرف، وفيه الطباقات وكثير من الجناسات، ومع كثرتها لا يشوبها أى تكلف، وكأنه يستمدها من نبع فيّاض لا ينضب، وكانت قد نشبت بينه وبين ابن الطراوة النحوى الأندلسى المشهور المتوفى سنة 528 هـ/1133 م خصومة
(1) غرار: قليل.
(2)
سرار: كتمان.
(3)
لا تثبطه الظلل ولا الظلال أى حياة الدعة، ومثله لا يطّبيه أى لا تستميله الكلل/الأستار/أى أنه لا يستنيم لحياة الدعة والخمول بل يقتحم المخاطر والمهالك، ويجد فى هذا الاقتحام متاعه.
(4)
صدره ورده وصدره كأنه النبع الذى يرده ويصدر عنه دون التماس رأى من أحد.
(5)
الذخيرة 4/ 188.
(6)
القليب: البئر.
(7)
سها: نجم صغير أى أنه لا يميز.
(8)
نهى: عقل.
(9)
الذخيرة 4/ 247.
ومخاطبات نال كل منهما فيها من صاحبه، ويذكر ابن بسام له فصلا من إحدى مخاطباته ورسائله إلى ابن الطراوة، وفيه يقول (1):
«ما حياتى بين الحيّات، وثباتى فى الجميع أو الثبات (2) وقد حانت وفاة الوفاء، وخانت صفات الصفاء، وأردانى (3) الزمان بأردانه (4) وأعيانى بتقلب أعيانه. الجاهل هو الحاظى (5) والعالم مبخوس الأحاظى (6). . ومما أضحكنى ملء فىّ، وأطاشنى وليس الطّيش فىّ، هذا المتنحوىّ (7) المتنّخوىّ (8) نظمت قصيدة سميتها سهم الشهم، وضمّنتها مسائل لا تخفى على أولى الفهم، فما بلغته حتى دمغته (9) وألقاها كأنها حية لدغته. أيها المموّه بجهله، والمدعى العلم وليس من أهله، سكرت فصحوك لا يجديك. . وكأنى بمن ضمّك قد ضامك (ظلمك)، وبمن لمّك قد لامك.
وزعم هذا الأهوج الأعوج أنه لم يعرف رسمى، ولا سمع باسمى، كأنما ولد بالأمس، أو بعث من الرّمس (القبر)، أو عمى عن الشمس».
وكأنما بلغت القيروان فى القرن الخامس عند ابن شرف وعلى الحصرى كل ما كانت تحلم به من روعة وإبداع فى الكتابة الأدبية وأسجاعها القصيرة وألفاظها المنتخبة الرشيقة، ونمضى إلى عصر الدولة الحفصية، ويرسل أبو الفضل التجّانى المتوفى سنة 718 رسالة إخوانية يتودد فيها إلى ابن عمه عبد الله التّجانى صاحب الرحلة المشهورة فى أثناء رحلته بالقسم الجنوبى من الإقليم التونسى آملا فى لقاء قريب به، وفيها يقول (10):
«هذا الزمن الذى أوقع ريبا واشتعل الرأس به شيبا، سرعان ما تتقهقر القواطع منه مقصرة، وتمحو ليله آية النهار مبصرة، وتلقى حبلاه من سقط الفرقة مضغة، ويرجع راجع الشباب صبغة الله (ومن أحسن من الله صبغة) وإذ كان يعيده حامل كلام، ويردّه واصل سلام، فما ظنّك به حين يلتقى المقيم والآيب، وتقبل الركائب، وتراح من جذب البرى (11)، ويراح (12) إلى جنّة القرب ونار القرى (13) وحينئذ تتصل الأفراح، وأنشد:
من صدّ عن نيرانها
…
فأنا ابن قيس لا براح (14)»
والقطعة مسجوعة وتحمل كثيرا من الصور وبها طباقات وجناسات واقتباس من الذكر
(1) الذخيرة 4/ 249.
(2)
الثبات: الجماعات.
(3)
أردانى: أهلكنى.
(4)
أردانه: أكمامه.
(5)
الحاظى: المحظوظ.
(6)
الأحاظى: الحظوظ.
(7)
المتنحوى: من النحو.
(8)
المتنخوى: المتعاظم.
(9)
دمغته: آلمت دماغه.
(10)
مجمل تاريخ الأدب التونسى ص 211.
(11)
تراح: تستريح. البرى جمع برة وهى حلقة من نحاس ونحوه توضع فى إحدى فتحتى أنف البعير لجذبه بزمام منها لتذليله.
(12)
يراح: يرجع.
(13)
القرى: الطعام يقدم إلى الضيف.
(14)
براح: فراق.
الحكيم واستشهاد ببيت سعد بن مالك فى حرب بكر وتغلب معرّضا فيه بالحارث بن عباد حين اعتزل هذه الحرب، وهى تصوّر براعة كاتبها الأدبية، وكان يتقلد رياسة ديوان الإنشاء أيام الخليفة الحفصى أبى يحيى زكريا المشهور باللحيانى وابنه محمد الملقّب بأبى ضربة. ومن كتاب الرسائل الشخصية فى هذا العصر ابن خلدون، وسنخصه بكلمة. وتتكاثر الرسائل فى العصر العثمانى، من ذلك رسالة تعزية لعلى الغراب الصفاقسى يعزى صديقا له فى أمه ومن قوله فيها (1):
والتكلف واضح فى هذه الرسالة، وعلى الغراب يكثر فى كتاباته من صور التصنع المختلفة، وسنعود إلى بيان ذلك فى الحديث عن مقاماته، ولمحمد ماضور المترجم له بين شعراء الغزل رسائل شخصية متعددة، من ذلك رسالة فى تهنئة صديق بالإبلال من مرض، وفيها يقول (4):
ولغه ماضور سهلة وليس فيها لفظ غريب ولا تكلف، وهى مسجوعة، مثلها فى ذلك مثل الرسائل الشخصية فى عصرها وقبل عصرها، إذ لم يستجب الكتاب إلى دعوة ابن خلدون بتخليص الرسائل من السجع، وكأنها كانت صرخة فى فلاة، والرسالة مكتظة بالجناسات زينة الكتابات الأدبية هى وأخواتها من المحسنات البديعية. وله من رسالة يعزّى صديقا فى رزء أصابه (5):
«كتابى هذا عن نفس مستطارة بلوعتها، وكبد مذابة بروعتها، وعن قلب شعاره برحاء (شدة) الجوى تفجعا لما فجعك، واشتراكا فى عظيم المصاب معك، وأسفا على من فقدناه فقدان
(1) انظر ديوان على الغراب الصفاقسى ص 393.
(2)
لوحتك: خلقتك ووجودك.
(3)
الرزء: المصيبة.
(4)
مجمل تاريخ الأدب التونسى ص 263.
(5)
نفس المصدر ص 264.