المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانىالمجتمع الصقلى والثقافة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌الفصل الثانىالمجتمع الصقلى والثقافة

‌الفصل الثّانى

المجتمع الصقلى والثقافة

1 -

المجتمع الصقلى (1) فى العهد العربى

ظل المسلمون فى صقلية-طوال حكمهم بها-لا يزيدون عن نصف سكانها وكانت مجمعا لعناصر شتى مسيحيين من سكانها الأصليين الصيقول ومن النورمان والإغريق والصقالبة ومن بقايا الفينيقيين والقرطاجيين مع قلة من اليهود وكانت لهم حارة فى بلرم وقلة من الزنوج ونزل أكثر البربر. . نواحى مازر وجرجنت. وكان فى كل بلد من يملكون الإقطاعات الكبيرة ومن يملكون القطع الصغيرة، وكان الولاة يكتنزون لأنفسهم كثيرا من الذهب والفضة، ويقال إن واليها ثقة الدولة حين ارتحل إلى مصر كان معه 670 ألف دينار سوى آلاف الخيل والبغال، ويبالغ ابن حوقل فيقول إن أهلها فقراء بينما نجد الإصطخرى يقول:«فى صقلية من الخصب والزروع والمواشى والرقيق ما يفضل سائر الموانى المتاخمة للبحر» ونفس ابن حوقل يعدّد الأسواق فى بلرم ويبلغ بها نحو الثلاثين إذ كان بها سوق الزياتين والدقاقين والصيارفة والحدادين والصياقلة وبائعى القمح والطرازين والسماكين والأبزاريين وباعة البقل وأصحاب الفاكهة وباعة الريحان والجزارين والخبازين والعطارين والأساكفة والدباغين والنجارين والغضائريين والخشابين، وكان بها للقصابين نحو مائتى حانوت لبيع اللحم ويجاورهم القطانون والحلاجون والحذّاءون». وفى ذلك ما يدل على انتعاش الحركة التجارية فى بلرم وأن سكانها لم يكن يعمهم الفقر كما يقول ابن حوقل، وبالمثل بقية المدن فى صقلية.

(1) انظر فى المجتمع الصقلى فى العهد العربى صورة الأرض لابن حوقل ومسالك الممالك للإصطخرى ونزهة المشتاق والنويرى والمكتبة الصقلية وإنباه الرواة فى ترجمة ابن البر 2/ 146 ورياض النفوس للمالكى وسفرنامه لناصر خسرو والعرب فى صقلية للدكتور إحسان عباس: الفصل الثانى من الكتاب الأول، وكتاب ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية، الفصل الخاص فى الجزء الثالث بتاريخ صقلية الإسلامية.

ص: 349

وكانت الجزيرة موزعة قبل فتح المسلمين لها إلى ولايتين كبيرتين: ولاية بلرم وولاية سرقوسة، ووزعها المسلمون بعد الفتح إلى ثلاث ولايات كبيرة: شرقية وجنوبية غربية ثم غربية وتضم الشمال. وجعل المسلمون لكل ولاية واليا يدير أعمالها ومعه عدد من العمال يساعدونه فى تصريف هذه الأعمال، وكان كل وال يسمى قائدا، ربما لكثرة ما كان ينهض به من الحروب ضد الحصون فى إقليمه. وكان فى كل ناحية وكل بلد قاض ومعه كاتب لتقييد الأحكام.

وكان قاضى بلرم يفصل فى القضايا المهمة، ولذلك كان يسمى المفتى. وكان السكان المسيحيون فى الجزيرة يمثلون ما يقرب من نصف سكانها وعاملهم الولاة المسلمون ونوابهم بمنتهى العدل والتسامح طبقا لتعاليم الإسلام فكان الثرى يدفع سنويا للدولة 48 دينارا والفرد فى الطبقة الوسطى يدفع 24 دينارا، بينما يدفع من يكسب عيشه بعرق جبينه 12 دينارا فحسب. ولم تكن تؤخذ ضريبة من الرهبان والقسس والنساء والعجزة والأطفال، فهم جميعا معفون من الضرائب إعفاء تاما. وكانت الضريبة السالفة تسمى خراجا وهى فى حقيقتها ضريبة دفاع. وحافظ المسلمون فى صقلية-كما حافظوا فى كل ديارهم-على مؤسسات المسيحيين الدينية من كنائس وغير كنائس، كما حافظوا لهم على قوانينهم الدينية والمدنية وعلى محاكمهم الخاصة، وأتاحوا لهم الحرية التامة فى أداء شعائرهم الدينية.

وطبيعى أن تكون بصقلية مجموعة من الدواوين للإشراف على نظام الحكم وتدبير شئونه، فكان بها ديوان المحاسبة الذى يقوم بأعمال وزارة المالية فى عصرنا، فيه خزانة الدولة، وفيه موظفون يراجعون ما يجمعه المحتسبون فى المدن والأعمال المختلفة من الضرائب. ويقول ابن حوقل إن الضرائب فيها كانت تضم:«خمسها ومستغلاتها ومال اللطف والجوالى المرسومة على الجماجم ومال البحر والهدية الواجبة فى كل سنة على أهالى قلوريّة وقبالة الصيود وجميع المرافق» . ولم يسمّ ابن حوقل. الدواوين التى كانت تشرف على جمع هذه الضرائب الكثيرة، ومن الممكن بالمقابلة على النصوص الصقلية أن نعرف بعضها على الأقل فكان عندهم ديوان الخمس المشرف على ما يجمع من غنائم الحرب، فإن للدولة-كما هو معروف-خمس ما يجمع من الغنائم كما تقرر ذلك سورة الأنفال، وكان عندهم ديوان الممتلكات العقارية المستغلة.

وديوان اللطف وهو ديوان الهدايا التى كانت ترسل سنويا للخليفة الفاطمى فى المهدية والقاهرة، وديوان الجوالى وهو ديوان الجزية التى كانت تؤخذ على الرءوس أو على الجماجم كما يقول ابن حوقل. وكانت تفرض ضريبة على الوارد من البحر، وإما كان لها ديوان خاص وإما كانت تضم إلى ديوان المستغلات، وقبالة الصيود أى ضمانها بمبلغ معين ولعلها كانت تضم أيضا إلى ديوان المستغلات، ولعله هو المسمى فى بعض النصوص باسم ديوان التحقيق. وكلمة: جميع المرافق عند ابن حوقل تدل على أنهم كانوا يأخذون ضريبة على كل المنتجات وخاصة الصناعية إذ كان للصناعة ديوان خاص وقد يسمى ديوان الطراز. وكان من أهم الدواوين عندهم ديوان الإنشاء

ص: 350

ويتولاه أبلغ الكتاب مثل ابن الطوبى فى عهد ثقة الدولة وأبنائه. ويبدو أنه كانت فى بلرم طبقة من الشيوخ وبعض الأعيان يرجع إليها الوالى للمشورة فى بعض القضايا العامة أو بعض الأحكام، وكانت تبرز حين يؤخذ الرأى فى والى صقلية الجديد، وكثيرا ما كان يؤخذ برأيها فيه كما كان يؤخذ برأيها فى ضبط أموال الدولة.

وكانت الزراعة فى صقلية تغلّ محصولا كبيرا من القمح الذى أدخله فيها القرطاجيون وكان يغطى أجزاء كبيرة فيها بردائه الذهبى كل عام، وكانوا قد أدخلوا فيها غرس شجر الزيتون كما أدخل الإغريق غرس الكروم، وعنيها يفضل عنب اليونان، ونقل العرب إليها كثيرا من الزروع مثل القصب والأرز والقطن والبصل وكثيرا من الأشجار مثل النخيل والليمون واللوز والفستق وكثيرا من الفواكه مثل التين والبرتقال والتوت وكثيرا من الخضروات ومن الرياحين.

وفى سبيل خدمة الزراعة والحصول على إنتاج وافر حفروا القنوات والترع التى ما تزال موجودة بها إلى اليوم، واستعملوا طواحين الماء والخزانات لتوزيع المياه على الزرع والبساتين كما استعملوا النواعير والمواسير المعقوفة التى توجه مجارى المياه كما يشاءون. وبذلك أحال العرب صقلية إلى مزرعة كبيرة، تتخللها الحدائق والبساتين البديعة. وكان بها مراع واسعة يربّى بها الماعز والأغنام والمواشى، وكانت بها خيول مشهورة فى عهد البيزنطيين، وأدخل فيها العرب خيولهم، وتفوقت على الخيول البيزنطية.

وكانت فى صقلية بعض صناعات قبل نزول المسلمين بها، ولكن صناعاتها ازدهرت فى أيامهم ازدهارا واسعا بما ألقته الأرض إليهم من مناجمها فى حجورهم من الذهب والفضة والنحاس والكبريت سوى منتوجات الثروة المعدنية من الشّبّ والقطران ومنتوجات البحر المتوسط حولها من التنّ والمرجان ومختلف الأسماك. وأدخل المسلمون إليها صناعة الحرير وتطريز المنسوجات وتزيين السجاجيد بالنقوش البديعة وزركشة الثياب والجلود المصبوغة وإتقان صناعة الحلىّ. واشتهر ما كان ينتجه المسلمون من الكتّان فى الجزيرة شهرة واسعة، ويشيد بكتانها ابن حوقل جودة ورخصا، ويقول إن نسيجه مما يقطع قطعين وكان يباع بمصر من خمسين رباعيا إلى ستين، ويقول ناصر خسرو: يجلب من صقلية كتان رقيق وثياب منقوشة يساوى الثوب منها فى مصر عشرة دنانير مغربية، وفى خطط المقريزى أنه وجد لعزّة بنت المعز فى خزائنها ثلاثون ألف شقة صقلية. وكان قطع الأخشاب فى غابات جبل إتنا والغابات الشمالية يعود بغير قليل من الربح، وكانت صناعة السفن رائجة، وكان يجلب لها الخشب من جفلود والحديد من بلهرا. وكانت بالجزيرة بقاع يكثر فيها البربير، وهو البردى، وكانت مصر من قديم تصنع منه الورق للكتابة عليه، ونقل العرب عنها هذه الصناعة وكان الورق المتخذ منه لكتابة المنشورات والوثائق يسمى باسم الكاغد، ونقلت الدولة الأغلبية صناعته عن مصر إلى إفريقية

ص: 351

التونسية وأدخلتها إلى صقلية، فكان يصنع لها فيها الكاغد أو الطوامير لكتاباتها الرسمية، وما فضل عن حاجتها يفتله صنّاع حبالا للمراكب ولغيرها. واجتازت صناعة الطوامير من مضيق مسّينى إلى سالرنو Salerno بإيطاليا وتغلغلت-فى عهد النورمان-إلى الشمال ومدينة نابولى، واجتازتها إلى أوربا الوسطى وألمانيا وهو فضل كبير لمسلمى صقلية على الحضارة الإنسانية، فلولاهم ما عرفت ألمانيا الورق ولا صناعته، ولا أتيح فيما بعد-لعالمها الفذ «جوتنبرج» -اختراع الطباعة.

ولا ريب فى أن صناعة صقلية الإسلامية المزدهرة وازدهار إنتاجها الزراعى أهّلها لأن تزدهر بها التجارة، وقد مرت بنا كثرة الأسواق فى بلرم حتى لتبلغ نحو ثلاثين سوقا، وكان بسوق القصابين أو الجزارين وحدهم-كما مرّ بنا-نحو مائتى محل أو دكان. وأتاح ذلك لصقلية ثراء واسعا، أما ما يقوله ابن حوقل من فقر أهلها فكان داعية للفاطميين ووجد عامّة الناس هناك تنفر من العقيدة الفاطمية وتتعلق بمذاهب أهل السنّة فحمل عليهم، ولم يحمل عليهم من ناحية ما وصمهم به من الفقر المادى فحسب فقد حمل عليهم أيضا من ناحية الفقر الخلقى، فوصفهم بالخبث واللؤم وقلة الذكاء ونقص المروءة وشدة الجهل، وهو متّهم فى كل ما وصفهم به من الناحية الخلقية وأيضا من الناحية الدينية فقد رماهم بضعف دينهم لأنهم-فى رأينا-لا يدينون بالمذهب الفاطمى الإسماعيلى، بينما يصفهم غيره بنظافة الثياب وحسن الصور إلى مروءات ظاهرة وعشرة حسنة. والحق أن ابن حوقل فى ذلك كله مغرض، ومن يقرأ وصف مدنها عند الإدريسى يراه يشيد بقصورها وبساتينها وأسواقها مبهورا بما فيها من حركة تجارية واسعة لا فى بلرم وحدها بل فى كل المدن التى زارها وخاصة مسينى وقطانية وسرقوسة ونوطس وجرجنت ومازر وأطرابنش، وإذا كان الإدريسى زارها فى العصر النورمانى فإننا نجد أمارى ينقل فى المكتبة الصقلية عن الراهب ثيودوسيوس-وكان قد أسر فى سرقوسة بالقرن التاسع الميلادى سنة 265 هـ/878 م زمن الأغالبة ونقل منها إلى بلرم-أنه تحدث بإعجاب عما شاهده من القصور فى المدينتين كما تحدث عن أسواق بلرم وكثرة من فيها من جميع الأجناس الأوربية والإفريقية والآسيوية، ويقول نوبل دى فرجى فى كتابه «العالم» إن تجارة صقلية بلغت أيام المسلمين ازدهارا عظيما لم تدركه فى تاريخها لا قبلهم ولا بعدهم. وعلى الرغم من عوادى الأيام على قصور المسلمين ومساجدهم ومبانيهم فيها لا تزال فى بقاياها وأروقتها الباقية ما يشهد بأن شعبا عظيما سكن تلك الجزيرة وشاد فيها روائع من القصور والأبنية الفخمة برخامها وفسيفسائها ونقوشها البديعة، مما بهر فون شاك وتجرد له سنوات طوالا يصفه فى كتابه: الفن العربى فى إسبانيا وصقلية. ومن القصور المشيدة التى خلفها المسلمون ببلرم قصر العزيز الذى بناه الأمراء الكلبيون وقصر القبة وقصر المنصورية وقصر الفوارة شرقىّ بلرم، وسنذكر طرفا مما نظمه فيها بعض الشعراء فى غير هذا الموضع.

ص: 352

وطبيعى أن يكون للزهد والتصوف مسارب فى الحياة بصقلية الإسلامية، وكان القضاة والفقهاء فى طليعة من يمثلون الزهد والتقشف والانصراف عن متاع الحياة طلبا لما عند الله من ثواب الآخرة، ونلتقى فى أول نزول المسلمين فى صقلية بقاضيها ابن أبى محرز، وكانت تضرب بعدله ونزاهته وتقواه الأمثال، وكان قد عاد إلى القيروان قبيل وفاته، فأوصى عمر أخاه أن يكتم خبر موته حين ينزل به القضاء، خوفا من أن يكفّنه ويدفنه الأمير الأغلبى وينفق ثمن ذلك عليه من بيت مال المسلمين، فيلقى الله وعليه من مال المسلمين شئ، وأنفذ أخوه وصيته، وتعجب الناس من ورعه حتى فى موته. ويذكر صاحب رياض النفوس عن القاضى أبى عمرو ميمون بن عمر المتوفى سنة 316 هـ/929 م أنه ولى قضاء صقلية، فاجتاز بمدينة سوسة، فقال:

يا أهل سوسة انظروا هذا كسائى وهذه فروتى وهذا خرج فيه كتبى وهذه الجارية السوداء تخدمنى ومعها جبّة وكساء، فبهذا رحلت عنكم، فانظروا بأى شئ أرجع. فلما وصل إلى بلرم قالوا له: هذه دار القضاء (وكانت واسعة) تنزل فيها، فتركها ونزل فى دويرة (صغيرة) لطيفة، وكانت الجارية السوداء تغزل وتبيع غزلها وتنفق عليه من فضل ذلك. ومرض ولم يخرج ثلاثة أيام فدخلوا عليه لعيادته فوجدوا عند رأسه وسادتين محشوّتين تبنا وتحته حصيرة من البردى. وعاد إلى بلده عن طريق سوسة فاستقبله بعض أهلها، فقال: يا أهل سوسة كما غادرناكم نعود إليكم: هذه جبّتى وكسائى وخرجى فيه كتبى، وهذه السوداء تخدمنى.

والقاضيان: ميمون وابن أبى محرز مثلان رائعان لمن كان يزهد من أهل صقلية وقضاتها وفقهائها فى متاع الحياة مكتفيا بأقل القليل من عيشته راضيا بحياة التقشف بل واجدا فيها متاعه فليس له مأرب سواها، وممن يمثل ذلك من أهل صقلية ما رواه المالكى فى رياض النفوس عن أبى الحسن الصقلى الحريرى من أنه قضى عمره-أو شطرا كبيرا منه-صامتا لا ينطق إلا بذكر الله تعالى أو بما يعنيه، فإذا أقيمت الصلاة تأوّه وتواجد وقال:«وا ذهاب عمرى فى خسارة» . وقد ظل الزهد فى صقلية الإسلامية فرديا، ولم يتحول إلى حركة واسعة بحيث تنشأ عنه حركة صوفية، وحقا قد يوصف بعض الصقليين بأنه صوفى دون أن يعنى الوصف بذلك الحقيقة الصوفية إنما يعنى العبادة، وربما كان الشخص الوحيد الذى يمكن أن يسلك هناك فى عداد الصوفية هو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله البكرى الذى حجّ وسمع العلماء بمكة سنة 350 هـ/961 م ويوصف بأنه «إمام الحقيقة وشيخ أهل الطريقة» وله مؤلفات مختلفة تدل على أنه كان ينزع نزعة صوفية، منها:«الأنوار فى علم الأسرار ومقامات الأبرار وصفة الأولياء ومراتب أحوال الصفاء والشرح والبيان لما أشكل من كلام سهل التسترى» .

وبدار الكتب المصرية منه مخطوطة فى ستة أجزاء وعبد الرحمن فيه فقيه يتمسك بمذهب أهل السنة مستشعرا دائما القرآن الكريم والسنة النبوية، والكتاب إلى أن يكون زهدا وتقشفا فى الحياة أقرب منه إلى أن يكون تصوفا بالمعنى الدقيق. وظل التصوف بعد البكرى فى صقلية

ص: 353

لا ينفك عن الفقه والحديث ومذهب أهل السنة غير متخذ منهجا عمليا من التصوف، على نحو ما يلقانا عند الفقيه الحافظ السمنطارى، فقد صنف فى الرقائق وأخبار الصالحين كتابا كبيرا، كان فى عشرة مجلدات، سماه:«دليل القاصدين» كما ذكر ذلك ياقوت عند ذكره بلدته «سمنطار» . وبذلك لم يكن-فى رأينا-للتصوف حياة فى صقلية الإسلامية إلا هذه الحياة السنية الملتزمة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتى تدفع الفقهاء إلى التأليف النظرى فى التصوف بمعناه العام أكثر مما تدفع إلى التطبيق العملى.

2 -

المجتمع (1) الصقلى فى العهد النورمانى

من قديم كان يقال إذا كانت روما فتحت أثينا حربيا فإن أثينا فتحتها حضاريا بأدبها وفلسفتها وروعة فنونها، وهو ما نستطيع أن نقوله عن النورمان وصقلية الإسلامية فإن النورمان فتحوا صقلية الإسلامية حربيا، وفتحتهم صقلية الإسلامية حضاريّا، إذ كانوا شعبا متبربرا ليس له حضارة ولا عهد له بأى حضارة، فلما نزلوا صقلية بهرتهم الحضارة الإسلامية فيها، واجتمعت أسباب كثيرة لكى يحنوا رءوسهم أمام من بها من المسلمين، فقد كانوا قلة ضئيلة بالنسبة إلى سكانها، وكانوا لا يعرفون شيئا من نظمها الإدارية ومن تراتيب أهلها فى الزراعة والصناعة وأسباب العمران، فاضطروا إلى استبقائهم لينتفعوا بهم فى شئون الصناعة والزراعة وتشييد القصور والمبانى الباذخة. ومع ذلك فإن الملك روجّار الأول الفاتح لم يحسن معاملتهم بتأثير الكنيسة كما أسلفنا فإذا هو يحيل كثيرين منهم فى المدن والقلاع والحصون المفتوحة عنوة إلى عبيد مسترقّين، وإذا هو يطبّق عليهم نظام الإقطاع مسرفا فى تطبيقه، وإذا هو لا يترك لأحد منهم لا أرضا متسعة فحسب، بل أيضا لا حمّاما-كما يقول ابن الأثير كما مرّ-ولا دكّانا ولا طاحونا ولا فرنا، وأسكن معهم فى الحقول الروم والفرنج-كما يقول ابن الأثير-حتى يتعلموا منهم طرق الفلاحة والقيام على الزروع والغروس كما حدث فى قطانية وغيرها من المدن ومن الحصون والقلاع التى بلغت ثلاثمائة وعشرين عدّا. ويبدو أنه أخذ يثوب إلى رشده، فخفف من هذه المعاملة الصارمة للمسلمين وخاصة فى بلرم وفيمن اتخذه منهم جندا فى

(1) راجع ابن الأثير فى الجزءين العاشر والحادى عشر، وتاريخ ابن خلدون وأمارى فى المكتبة الصقلية وتاريخ مسلمى صقلية وفريمان فى كتابه السالف: تاريخ صقلية ورحلة ابن جبير ونزهة المشتاق للإدريسى والعرب فى صقلية للدكتور إحسان عباس والمسلمون فى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا للأستاذ أحمد توفيق المدنى.

ص: 354

جيشه وأسطوله، ومع ذلك فقد فرض عليهم-كما فرض على مسلمى الجزيرة عامة-أن يدفعوا جزية، ولم يتنبّه إلى أن المسلمين لم يكونوا يفرضونها ضريبة عامة على الرءوس من حيث هى ضريبة، وإنما كانوا يفرضونها على غير المحاربين ضريبة دفاع عنهم، ولذلك لم يكونوا يفرضونها على القساوسة والرهبان والعجزة والنساء والأطفال، فهى ليست عندهم ضريبة اضطهاد، إنما هى ضريبة دفاع لجيش المسلمين الذى يحمى النصارى ويحارب دونهم، نصيبا مما يحتاج إليه فى حربه من المؤن وعدّة السلاح، أما هو فجعلها ضريبة اضطهاد عامة، مع استخدامهم فى الجيش والأسطول والدفاع عن الجزيرة. وكان ابنه الملك روجّار الثانى قد نشأ نشأة صقلية عربية، فإن اللغة النورمانية لم يكن بها علم ولا فلسفة ولا فكر ولا أدب، فاضطر أبوه إلى تعليمه العربية اللغة المتحضرة، وتنفّس فى الحضارة الإسلامية التى كانت مسيطرة على الجزيرة بروحها وتقاليدها، وأخذت هذه الحضارة تؤثر فى حياة النورمان الغالبين كما أخذوا يفيدون من نظمها وتراتيبها الإدارية، وبالمثل من شئون الزراعة والصناعة والجيش، وفيه يقول ابن الأثير:«سلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب (ما يركبه) والحجاب والسّلاحية والجاندارية وغير ذلك، وخالف عادات الفرنج فى ذلك كله فإنهم لا يعرفون شيئا منه، واتخذ الملك روجّار الثانى ديوان المظالم الذى كان شائعا عند الحكومات الإسلامية الصقلية فنقله عنهم كما نقل عنها ديوان التحقيق وديوان الجزية وديوان الصناعة، ومنه يتفرع ديوان الطراز الخاص بالمنسوجات المطرزة بالذهب وغيرها، وأيضا ديوان المستغلات من تجارة الموانى الصادرة والواردة وصيد البحر. وكان فى بلاطه. نفر من علماء العرب ومفكريهم وأرباب الأدب والصناعة، وكان هناك ديوان عام ينظر فى أمور الدولة اشترك فيه بعض العرب. وخلفه ابنه الملك غليوم الأول، وكان قد تعلم العربية وحذقها مثل أبيه، ويقال إنه كان يعتمد فى كثير من المهمات على مسلمى صقلية، وإنه فتح فى وجوههم مناصب الدولة يتولونها وقرب منه بعض العلماء المسلمين وبعض رجال الأدب والفكر. وقد دفع هو وأبوه النورمان إلى اقتباس الفنون والعلوم والعناصر الأساسية للحضارة الإسلامية، فتحضروا بعد أن كانوا قوما متبدّين ونقلوا حضارتهم إلى إيطاليا فكانت بذلك من أسباب انبعاث النهضة الإيطالية بها فى القرن الخامس عشر قبل غيرها من الأمم الغربية، وهو تأثير عميق لصقلية الإسلامية فى النهضة الأوربية الوسيطة، وينقل الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب عن دى سلان وصف البلاط النورمانى فى عهد غليوم الأول وأبيه روجار الثانى إذ يقول: «إن كل شئ فى البلاط النورمانى أصبح يذكّر بالعادات والتقاليد الشرقية من حجّاب وغلمان وعبيد إلى خصيان (سود وبيض) وقيان وعازفين، ومن حريم إلى مراسم وتشريفات» . ولم تكن اللغة العربية لغة التخاطب فحسب، بل كانت أيضا لغة الثقافة، وكانت المراسيم تصدر عن الديوان الملكى باللغة العربية ثم تنقل إلى اللاتينية أو اليونانية، كما كانت النقود منقوشة بالخط الكوفى» ومرّ ابن جبير بالجزيرة بعد عودته من الحج فى أيام غليوم

ص: 355

الأول حوالى سنة 580 هـ/1184 م فنوّه بأنه يتخذ من فتيان مسلمين مجابيب حجّابه ووزراءه وعيون دولته وعمالته فى الجزيرة، ويقول إنه كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم فى أحواله والمهم من أشغاله وله جملة من العبيد السود المسلمين وعليهم قائد منهم. ويقول إن أهل دولته من المسلمين يلح عليهم رونق ملكه، لا تساعهم فى الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة، وما منهم إلا من له الحاشية والعبيد والأتباع، ويقول عن غليوم الأول:«ليس فى ملوك النصارى أترف فى الملك ولا أنعم ولا أرفه منه، وهو يتشبه بملوك المسلمين فى الانغماس فى نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار زينته، ويذكر ابن جبير حين مرّ ببلده أنه كان فى نحو الثلاثين سنة من عمره وأنه يتقن العربية قراءة وكتابة، والعلامة التى يضعها على رأس مناشيره ورسائله: «الحمد لله حق حمده» وكانت علامة أبيه روجّار الثانى: «الحمد لله شكرا لأنعمه» . ومما يدل على مدى انغماس النورمان فى الحضارة الإسلامية التى كانت منبثّة فى الجزيرة أن زىّ النساء النصرانيات فى بلرم كان نفس زى النساء المسلمات، ويقول ابن جبير إنهن فصيحات الألسن بالعربية الشريفة طبعا (اللغة الأولى فى الجزيرة حينذاك) وإنه رآهن فى عيد الفطر قد خرجن فيه ولبسن ثياب الحرير المذهب والتحفن اللحف (الملاءات وما يشبهها) الرائقة وانتقبن بالنّقب الملونة (أى أنهن كن محجبات تماما مثل المسلمات) وانتعلن الأخفاف المذهبة، وبرزن لكنائسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلى والتخضب والتعطر».

ومن دلائل الانغماس الواضح فى الحضارة الإسلامية لعهد غليوم الأول ما يذكره ابن جبير من أن جواريه وحظاياه فى قصره كنّ مسلمات جميعهن، وأن الجارية النصرانية من الفرنجيات إذا وقعت فى قصره أصبحت مسلمة بفضل من فيه من الجوارى المسلمات. ولم يكن غليوم ولا أبوه يتعرضان-فيما يظن-لأداء شعائر من فى بلاطهما وبلدتهما أو عاصمتهما بلرم من المسلمين، وربما كان تسامح غليوم فى هذا الجانب أقوى وأوسع من تسامح أبيه فقد كان من فى بلاطه من الفتيان يصوم الأشهر تطوعا وطلبا للأجر والثواب، وكان إذا دخل وقت الصلاة يخرجون من مجلسه فرادى فيؤدونها، وهو لا يتعرض لهم أى تعرض. ويقول ابن جبير إن بلرم كانت غاصة بالمسلمين ولهم فيها أرباض أو ضواح ينفردون فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم، ويقول إن لهم مساجد يعمرونها ويقيمون الصلاة فيها بأذان مسموع، وإن لهم قاضيا يتقاضون أمامه، ويذكر أن المساجد كثيرة، وكان يحفّظ فى أكثرها القرآن. على أنه يعود فيذكر أن صلاة الجمعة كانت محرّمة على سكان بلرم-كما مرّ بنا-بسبب الخطبة الدينية التى تسبقها إذ كانت محظورة عليهم.

وحرى بنا أن نتوقف لنعود إلى المقالة الشائعة بين المؤرخين، من أن النورمان عاملوا مسلمى

ص: 356

صقلية معاملة حسنة وأنهم سمحوا لهم بحرية العقيدة مستدلين على ذلك بما يقول ابن جبير وغيره عن بلاط روجار الثانى وغليوم الأول من أنه كان بلاطا عربيا إسلاميا فى نظر أمراء المسيحية، وهو إنما كان كذلك بحكم تبدّى النورمان وشعور هذين الملكين بحاجتهما وحاجة شعبهما إلى تشرب الحضارة الإسلامية العربية، ولذلك أحسنا معاملة المسلمين وسمحا لهم-على الأقل فى بلرم-بإقامة شعائرهم الدينية والأذان والصلاة فى المساجد، وبالمثل سمحا بذلك لمن شعرا بحاجتهما إليه فى بلاطهما وحياتهما من الفتيان ومن الجوارى والحظايا. أما بعد ذلك فكانت المسألة تتوقف على كثرة المسلمين فى البقاع والمدن، فقد اتجه ابن جبير بعد زيارته لبلرم إلى زيارة مدينة طرابنش، ولا حظ أن جميع سكان الطريق بين المدينتين مسلمون يفلحون الأرض فى ضياع ومحارث ومزارع متصلة، واقترب من مدينة ثرمة فى الشمال، وكان الإعياء قد أخذ منه فبات بقصر قريب منها داخله مساكن وعلالى مشرفة، وهو كامل مرافق السكنى، وفى أعلاه مسجد من أحسن مساجد الدنيا بهاء، وبات فيه أحسن مبيت وأطيبه وسمع أذان الفجر-وكان قد طال عهده بسماعه كما يقول-وأكرمه القائمون عليه وصلّى به الفريضة والتراويح إذ كان فى رمضان، وأكبر الظن أنه كان محرسا للمدينة وبنى على شاكلة المحارس فى الساحل التونسى، وانتهى إلى طرابنش ورأى ما للمسلمين والنصارى فيها من مساجد وكنائس، ورأى المسلمين يصلون يوم العيد بالطبول والبوقات وعجب من ذلك.

وقبل أن نستمع إلى ابن جبير فيما ذكره بتلك البلدة من الفتنة فى الدين الحنيف نتوقف قليلا عند سياسة الملك، روجار الثانى، فقد ظل معتمدا لإجراءات الإقطاع التى فرضها أبوه روجار الأول فى البلاد والحصون التى فتحت عنوة، ولما هاجم أسطوله الساحل التونسى واستولى على مدينة بونة (عنابة) ترك أميره فيليب جماعة من العلماء والنسّاك يخرجون منها إلى القرى المجاورة بأهليهم وأموالهم، فلما عاد قبض عليه لرفقه وحسن صنيعه بجماعة من المسلمين وجعل الأساقفة والقسس والرهبان يحاكمونه فحكموا عليه حكما ظالما بحرقه، كما نص على ذلك التجانى فى رحلته. فلم يكن روجار الثانى يؤمن بحرية العقيدة كما يحلو لمؤرخى الغرب- وتابعهم مؤرخو العرب-القول بذلك. ونفس غليوم الأول الذى أشاد ابن جبير بمعاملته لمن فى بلاطه من المسلمين ومن فى قصره من الجوارى والحظايا المسلمات حدثت مذبحة للمسلمين ببلرم فى أيامه، إذ أمر وزيره مايون بنزع السلاح من أيدى المسلمين سنة 556/ 1160 م فثار المسلمون ضد هذا الأمر، وانتهز المسيحيون الفرصة فسفكوا دماء كثيرين منهم فى شوارع بلرم وفى الدواوين والحوانيت والفنادق كما سفكوا دماء جماعة ممن كانوا فى القصر، وقتل فى هذه الواقعة الشاعر القفصى يحيى بن التيفاشى كما قتل-فى ظن أمارى-الإدريسى الجغرافى، وهو ما يؤكد أن استخدام غليوم الأول للمسلمين فى القصر إنما كان ضرورة حضارية، اضطرته إليها الحضارة الإسلامية التى قهرته وقهرت شعبه. ومرت بنا-منذ قليل-أخبار عن ابن جبير

ص: 357

تدل على أن حرية المسلمين فى إقامة شعائرهم الدينية لم تكن مكفولة تماما على نحو ما أوضح ذلك على لسان عبد المسيح فى مسّينى وفقيه مدينة طرابنش وزعيم المسلمين بها ابن حجر والمسلم الصقلى الذى اختار أن يحرم من ابنته وأهداها زوجة إلى أحد الحجاج مع ابن جبير حتى لا تذوق ما يدوقه مع إخوتها من العذاب الأليم.

ويتضاعف الظلم الغاشم مع استيلاء أباطرة الألمان على صقلية-كما مرّ بنا فى الفصل الأول-ويفر من صقلية آلاف من المسلمين إلى إفريقية التونسية، ولا يبقى بها إلا من عجزوا عن الفرار والرحيل ويصبحون بها مستعبدين يفلحون الأرض ويرعون الأغنام للسادة الفرنجة ولا يكفل لهم شئ من الحرية الدينية، واستغاثوا بأبى زكريا مؤسس دولة الموحدين فعقد معاهدة مع فردريك الثانى الإمبراطور الألمانى، وتعهد له فردريك فيها بضمان تلك الحرية، ولم يطبّق هذا التعهد، وازداد العسف والظلم الغاشم، واستغاث المسلمون هناك بالمستنصر ابن أبى زكريا، فعقد معاهدة مع فردريك على إجلاء المسلمين نهائيا من صقلية، وحلّوا بتونس فى سواحلها ورحّبت بهم المدن الساحلية وعاشوا فى أمان، ويقال إن فردريك أجلى من بقى بجزيرة مالطة من المسلمين إلى أمالفى Amalfi جنوبى إيطاليا، وبمر الزمن تنصرت ذراريهم.

3 -

الثقافة (1) فى العهد العربى

دائما تتحرك الثقافة الإسلامية مع الجيوش العربية الفاتحة، فبمجرد أن يفتح جيش عربى بلدا يقيم فيه مسجدا تخطب فيه خطبة الجمعة وتؤدّى الصلوات الخمس، ويدخل أهل البلد المفتوح فى الإسلام أو كثيرون منهم، وتنشأ كتاتيب لتحفيظ الداخلين فى الإسلام شيئا من سور القرآن وتعليمهم وتعليم ناشئتهم مبادئ الكتابة العربية وشيئا من الشعر العربى لتستقيم العربية فى ألسنتهم. وكان هؤلاء المسلمون الجدد والجند العربى يتحلّقون حول الشيوخ فى المساجد يأخذون عنهم تعاليم الإسلام، وكان من هؤلاء الشيوخ من يعرض الأسدية لأسد بن

(1) انظر فى الثقافة بالعهد العربى البيان المغرب لابن عذارى ومعجم الأدباء ومعجم البلدان فى سمنطار لياقوت وتثقيف اللسان لابن مكى وتاريخ الحكماء للقفطى وصورة الأرض لابن حوقل وطبقات الأطباء لابن جلجل وطبقات الأمم لصاعد والخريدة للعماد الأصبهانى: الجزء الأول وإنباه الرواة للقفطى وبغية الوعاة للسيوطى وطبقات القراء لابن الجزرى والديباج المذهب لابن فرحون والصلة لابن بشكوال والحلة السيراء لابن الأبار والقسم الثالث من كتاب ورقات عن الحضارة العربية فى إفريقية التونسية والعرب فى صقلية للدكتور إحسان عباس.

ص: 358

الفرات قائد الحملة الذى قضى نحبه فى حصاره لسرقوسة وهى تصور مذهب مالك من إملاءات أستاذه عبد الرحمن بن القاسم بمصر، حتى إذا شاعت مدوّنة سحنون-وهى أيضا من إملاءات ابن القاسم-فى القيروان والبلاد المغربية أخذ الشيوخ فى صقلية يلقنونها الناس والطلاب هناك.

ومع أن المسلمين فى صقلية ظلوا أشبه بمعسكر حربى لا يزالون ينتظرون النداء للحرب صباح مساء، ولا يزالون يشهرون سيوفهم مع أول صارخ، ومع أن الصرخات كانت لا تنى ترتفع، ومع أنهم ظلوا يفتحون الحصون طوال عهدهم بها ولا يكادون ينتهون من حرب حتى يبدءوا حربا جديدة، مع ذلك كله استقروا بالمدن التى فتحوها، وكوّنوا لأنفسهم فيها ولايات إسلامية، ونقلوا إليها الحضارة العربية وكل ما اتصل بها من عمران وبناء منازل وقصور فخمه، ونهضوا بالزراعة والصناعة والتجارة، كما نهضوا بالثقافة فى مختلف فروعها وعلومها وفنونها. ولم يكتف الشباب المسلم الصقلى بما كان يحصّله من ذلك على علماء سرقوسة وجرجنت ومازر وبلرم وغيرها من المدن فقد كانوا يرحلون إلى القيروان للتزود من حلقات علمائها، وكان كثيرون من علماء القيروان وشيوخها يعبرون البحر لتزويد الطلاب هناك بما أحرزوا من العلوم وصاغوا من المؤلفات. وكأنما كانت صقلية-طوال العهد الإسلامى-بلدا تونسيا، فكل ما فى القيروان من كتب ومصنفات وعلوم وآداب يرحل مع التونسيين المهاجرين إليها ومع أبنائها فى حقائبهم حين عودتهم إلى بلدانهم. وليست المسألة إذن أن كتابا نعثر على اسمه فى النصوص الصقلية مثل كتاب الملخص للقابسى الذى لخص فيه ما اتصل إسناده من أحاديث كتاب الموطأ لمالك، حتى إذا وجدناه هو أو غيره من الكتب سجلنا به وبها ما نقل إلى صقلية من المصنفات العلمية، والمسألة كانت أوسع من ذلك إذ لم يؤلف فى القيروان كتاب مهم إلا حمل إلى صقلية، وقد يحمله نفس مؤلفه على نحو ما هو معروف عن كتاب العمدة فى صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيروانى، فقد ارتحل إليها بعد الهجرة الهلالية إلى موطنه، وحمل إليها معه هذا الكتاب النفيس الذى يعدّ أروع ما وضعت المغرب والأندلس فى النقد الأدبى والبلاغة ومحسناتها من كتب، ولا ريب فى أنه كان له أثر بعيد فى نهضة صقلية الأدبية.

وعلى نحو ما تبادل العلماء والأدباء فى صقلية الرحلة مع علماء وأدباء القيروان كذلك تبادلوها مع علماء وأدباء المشرق والأندلس، بل كان بعض الشباب الأندلسى يقصد إلى صقلية للاستماع إلى هذا العالم أو ذاك ممن بلغت شهرتهم العلمية الأندلس، وكثيرا ما كان يقصد بعض علماء صقلية الأندلس فيجد شهرته سبقته إليها. وكانت رحلة الطلاب الصقليين إلى مصر والمشرق كثيرة، ونزلها غير عالم وأديب من المشرق من مثل أبى محمد إسماعيل بن محمد النيسابورى، وأخذ عنه-كما يقول ابن ظافر فى كتابه بدائع البداية-غير واحد كتاب

ص: 359

اليتيمة للثعالبى، ومثل على بن حمزة اللغوى فقد ذكر ياقوت فى ترجمته أنه كان راوية لديوان المتنبى وأنه رحل إلى بلرم فى صقلية وظل فيها يروى للطلاب ديوان المتنبى ويشرحه إلى أن توفى سنة 375 هـ/986 م ويبدو أن دواوين أخرى كثيرة دخلت إلى صقلية، فابن مكى يذكر فى الباب الأربعين من كتابه «تثقيف اللسان ما كان يحطى فيه المغنون من أشعار كثير وذى الرمة وجرير وابن الرومى والشريف الرضى. ويقول القفطى بكتابه تاريخ الحكماء فى ترجمة أبى سليمان المنطقى عن كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدى: إنه خاض كل بحر وغاص كلّ لجّة، وما أحسن ما رأيته على ظهر نسخة منه بخطّ بعض أهل جزيرة صقلّية، وهو قوله:

«ابتدأ أبو حيان كتابه الإمتاع صوفيا وتوسطه محدّثا وختمه سائلا ملحفا» . وفى ذلك ما يدل على أن كتب الفكر العميق المشرقية-مثل كتب أبى حيان-كانت تحت أعين الصقليين.

وما ذكرناه أو أشرنا إليه من ذلك إنما هو رموز لما نقل إلى صقلية من نفائس الكتب الأدبية والفكرية، ولا بد أن كانت نفائس الكتب التونسية والمشرقية فى التفسير والحديث النبوى والفقه تنقل بدورها إليها.

ومن المؤكد أن الحركة العلمية كانت نشيطة بها، ويدل على ذلك-من بعض الوجوه- ما يقوله ابن حوقل فى كتابه صورة الأرض من أنه كان بها ما يزيد على مائتى مسجد، ويقول أيضا-ونقل ذلك عنه ياقوت فى معجم البلدان-إن فى بلرم ما لا يقل عن ثلاثمائة معلم، ولا بد أن كانت لهم حلقات كثيرة فى المساجد يحاضرون بها الناس فى مختلف فروع الثقافة الإسلامية. ومن طريف ما يذكره ابن حوقل أنه رأى بها كتّابا به خمسة من المعلمين لهم من بينهم رئيس هو مدير الكتّاب أو مدير هذه المدرسة، ويقول إن صبيان الكتاتيب كثيرون وإنهم يبلغون أحيانا ثمانين طالبا فى الحلقة الواحدة أو الفصل الواحد، وهى بذلك ليست كتاتيب- كما يقول-إنما هى مدارس، وقد أهّلت لنشاط علمى واسع فى بلرم، وعلى شاكلتها كانت المدن الأخرى فى صقلية.

وحرىّ بنا أن نستعرض النشاط فى العلوم المختلفة بصقلية الإسلامية، ونبدأ بعلوم الأوائل، وكانت-فى رأينا-نشيطة بصقلية، إذ كان ما يقرب من نصف سكانها من الإغريق والرومان وكان لهم تراث قديم بلغتيهما الإغريقية واللاتينية، وحذق كثيرون منهم العربية وحذق بعض العرب لغتيهما بحكم الامتزاج والاختلاط والتعامل اليومى بين السكان، ودفع ذلك إلى التبادل عن طريق الترجمة بين التراث الإغريقى اللاتينى والتراث العربى، ومن أهم من عنوا بذلك الرهبان الصقليون، فكانوا ينقلون عن العربية بعض نفائس تراثها كما كانوا ينقلون إليها بعض نفائس التراث الإغريقى اللاتينى ويدل على ذلك-من بعض الوجوه-ما ذكره الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب فى الجزء الأول من كتابه ورقات عن الحضارة العربية

ص: 360

بإفريقية التونسية من أن الأمير الأغلبى إبراهيم بن أحمد (271 - 289 هـ) مؤسس بيت الحكمة فى عاصمته رقّادة تخيّر بعض المصنّفات اللاتينية فى العلوم الرياضية التى اطلع عليها، وكلّف بترجمتها بعض الرهبان الصقليين المتكلمين باللغة العربية وألحق بهم بعض علماء اللغة من الإفريقيين، وعهد إليهم بمهمة تنقيح عباراتهم وسبكها فى قالب عربى صحيح» ويستظهر أن يكونوا قد نقلوا إلى العربية كتاب بلينوس (Plinius) فى علم النبات، ويذكر ابن جلجل فى كتابه طبقات الأطباء أنه هاجر إلى قرطبة فى عهد عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ) من صقلية طبيب يدعى أبا عبد الله كان يتكلم اليونانية ويعرف أسماء العقاقير والأدوية، فضمّه الناصر إلى علماء قرطبة وأطبائها ليكون عونا لهم فى ترجمة كتاب ديوسقوريدس المؤلف بالإغريقية عن الأدوية والنباتات. وقد مضت صقلية تعنى بعلوم الأوائل من طب وغير طب فى الترجمة. وكما كان التراث اللاتينى الإغريقى العلمى يترجم إلى العربية كان التراث العربى العلمى يترجم بدوره إلى اللاتينية. وكان الأطباء قد أخذوا يتكاثرون فى القيروان منذ أيام الأغالبة، فتكاثروا بصقلية مجاراة لأختها القيروان واطرد ذلك فى القرون التالية، ومما يدل عليه الفصل الذى عقده ابن مكى فى كتابه:«تثقيف اللسان» لبيان أغلاط الأطباء فى صقلية، واشتهرت فى القرن الرابع الهجرى بأنها بيئة فلسفية، مما جعل سعيد بن فرحون التجيبى الملقب بلقب الحمار السرقسطى يلجأ إليها حين أصابته محنة أيام المنصور بن أبى عامر فى أواخر هذا القرن كما يقول صاعد فى كتابه طبقات الأمم وظل بها إلى وفاته، وكان يحسن الفلسفة والموسيقى جميعا وله فى علوم الفلسفة رسالة بديعة سماها شجرة الحكمة. وبجانب فلاسفة أو متفلسفة صقلية كان هناك مهندسون ورياضيون من مثل العالم الرياضى عبد العزيز المعافرى وله ترجمة فى الخريدة، وتؤكد القصور الباذخة فى بلرم التى تغنّى بها شعراء صقلية واصفين فخامتها وزخارفها وحدائقها النضرة وفواراتها البديعة مهارة مهندسيها البارعين، وبهرت قصور بلرم وغيرها من مدن صقلية فون شاك بفسيفسائها ورخامها وأبهائها وغرفها ونقوشها، وظل يدرسها سنوات طوالا كما مر بنا فى غير هذا الموضع وسجل ما بهره من مشاهدها فى كتابه الفن العربى فى إسبانيا وصقلية.

وتنشط صقلية الإسلامية فى الدراسات اللغوية والنحوية، وتمدها فى تلك الدراسات روافد من الخارج، فقد نزلها موسى بن أصبغ المرادى القرطبى الذى رحل فى طلب التعمق فى اللغة إلى المشرق، ودخل العراق وتتلمذ لعلمائه اللغويين وخاصة ابن دريد صاحب معجم الجمهرة، ولم يعد إلى وطنه وإنما عاد إلى صقلية واتخذها موطنا له كما يقول السيوطى فى البغية، وتلاه صاعد اللغوى الأندلسى المشهور بكثرة تلاميذه الأندلسيين رحل إليها فى أوائل الفتنة التى نشبت بقرطبة سنة 403 هـ/1012 م ورجع إلى الأندلس ولم يلبث أن عاد إلى صقلية وتوفى بها سنة 410 هـ/1019 م كما ذكر القفطى فى إنباه الرواة. ومن علمائها فى اللغة والنحو على بن

ص: 361

حبيب اللغوى الصقلى أحد رجال اللغة المعدودين والعلماء بها المبرزين، ومنهم طاهر بن محمد الرقبانى الصقلى اللغوى، ويقول القفطى عنه: لم يكن فى زمانه أعلم منه بلغة العرب وكلامها، ونثرها ونظامها، وقصدته العلماء من كل مكان فلقوا منه بحرا خضرما (واسعا) وعلى شاكلته ابنه على بن طاهر الرقبانى، وكان حافظا للغة وأيام العرب، جامعا لأدوات الأدب. وما نلبث فى القرن الخامس أن نلتقى قبل الغزو النورمانى بعلم كبير من أعلام اللغة والنحو تكونت له بها مدرسة لغوية كبيرة هو محمد بن على بن الحسين بن البرّ التميمى، ولد بصقلية فى أواخر القرن الرابع الهجرى، حتى إذا أخذ ما لدى شيوخها من اللغة والنحو رحل عنها إلى المشرق للتزود منهما، وألقى عصاه بالقاهرة، وتتلمذ فيها ليوسف النجيرمى المتوفى سنة 423 هـ/1031 م وهو أهم من روى عنه المصريون كتب اللغة ودواوين الشعراء، يقول ابن خلكان:«أكثر ما تروى الكتب القديمة فى اللغة والأشعار العربية وأيام العرب فى الديار المصرية من طريقه» وكان ما يزال يراجع الروايات المختلفة للكتاب أو للديوان ويقابل بينها حتى يخرجه فى أوثق صورة ممكنة، وبجانب الدواوين التى أخذها عن النجيرمى وفى مقدمتها ديوان ذى الرمة أخذ فى القاهرة عن صالح بن رشدين ديوان المتنبى الذى سمعه مباشرة من المتنبى وشرحه له، وأخذ أيضا فى القاهرة عن ابن بابشاذ مقدمته المشهورة فى النحو، وعاد إلى موطنه، واتخذ مدينة مازر مقاما له، وأكرمه صاحبها ابن متكود وقرّبه منه، وتحوّل إلى مدينة بلرم سنة 450 واتسعت شهرته وجاءه الطلاب من كل فج صقليين وغير صقليين، ومن الصقليين على بن جعفر السعدى المعروف بابن القطاع وسنعود إلى الحديث عنه فى أيام النورمان، ومن تلاميذه غير الصقليين عبد الله بن إبراهيم الصيرفى ومنه سمع ديوان المتنبى سنة 459، ومنهم عبد المنعم بن منّ الله القروى المعروف بابن الكماد وقد ألممنا به فى كتابنا عن الأندلس وردّه المفحم على رسالة ابن غرسية، وحرى بنا أن نذكر أن من تلاميذه الصقليين عمر بن خلف المشهور باسم ابن مكى الصقلى مصنف كتاب تثقيف اللسان الذى سجل فيه الأغلاط التى سمعها من أفواه العلماء وغيرهم ونراه يقول فى مقدمته إنه عرضه على أستاذه ابن البرّ «الإمام الأوحد والعلم الفرد، فأثبت ما عرفه وارتضاه، ومحا ما أنكره وأباه» . وقد وزّع ابن مكى كتابه على خمسين بابا تحدث فيها عن التصحيف والتبديل والزيادة والنقص فى الأسماء وكذلك الزيادة والنقص فى الأفعال وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث إلى غير ذلك من صور الغلط على ألسنة الخاصة والعامة، وأضاف إلى ذلك فصولا طريفة عن أخطاء القرّاء والمحدّثين والفقهاء والأطباء. والكتاب يدل على أنه كان فى صقلية حينئذ حركة لغوية خصبة بثّها ابن البر فى تلاميذه كى يخلّصوا الألسنة من أغلاطها وخاصة ألسنة العلماء. وما توافى سنة 460 هـ/1067 م حتى يبارح ابن البر صقلية إلى الأندلس، ويبارحها تلميذه ابن مكى إلى تونس، ويقول العماد الأصبهانى عنه فى ترجمته بالخريدة: «ولى قضاء تونس وهو فقيه محدث خطيب لغوى، وفضله بالألسنة فى جميع الأمكنة

ص: 362

مأثور مروى، وله خطب لا تقصّر عن خطب ابن نباتة». وابن نباتة أكبر خطيب أنتجه المشرق، وكان خطيب سيف الدولة فى حربه لبيزنطة. ولعل فى هذه الشهادة لخطيب من صقلية ما يمحو محوا ما زعمه ابن حوقل عن خطيب شاهده ببلرم يوم جمعة يجزم الأسماء مع الوصل ويجرّ الأفعال من أول خطبته إلى آخرها، وليس فى المستمعين له من مسلمى بلرم من يعترض عليه، مع أنه ظل يخطبهم نحو عامين! وذكرنا-فيما أسلفنا-أنه كان مغرضا فى كل ما وصف به صقلية لأنها كانت ترفض المذهب الشيعى الإسماعيلى مذهب الدولة الفاطمية، فاتهاماته لها ولخطبائها اتهامات زائفة، وسنراها تنتج فى مجال الدراسات الدينية والأدب شعرا ونثرا ما يؤكد بطلان اتهاماته.

ويدل ما قدمنا على أنه وصلت الشباب الصقلى مجموعة اليتيمة للثعالبى وديوان ذى الرمة وغيره من شعراء الجاهلية والإسلام، كما وصلتهم دواوين عباسية مختلفة لأبى تمام وابن الرومى والمتبنى وأضرابهم، ولا بد أن وصلهم كتاب البيان والتبيين للجاحظ وما به من خطب ومجموعة زهر الآداب للحصرى، وما من شك فى أن أكثر مجاميع الأدب المؤلفة فى المشرق وصلتهم ومرّ بنا أن ابن البرّ كان يروى بين ما يروى من الكتب والدواوين كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، وكل ذلك كان له تأثيره فى نشوء ذوق أدبى عام فى صقلية بين الشباب والشيوخ، ولا بد أن اطلعوا على بعض الكتابات البلاغية والنقدية فى المشرق بدليل استخدام شعرائهم وكتّابهم لمحسنات البديع، وبدليل ما فى أشعارهم من عذوبة وسلاسة، وكان حظ الشباب فى صقلية عظيما إذ نزل ابن رشيق فى أواخر أيامه بمازر واتخذها مقاما له إلى وفاته سنة 456 هـ/1063 م وظل هناك سنوات يدرس للطلاب كتابه العمدة فى صناعة الشعر ونقده ويعد من أروع كتب الأسلاف فى النقد وفى بيان المحسنات البلاغية إن لم يكن أروعها كما يقول ابن خلدون، وقرأه عليه ابن متكود والى مازر بشهادة نسخة من الكتاب وقعت للقفطى كما يقول فى ترجمته بكتابه إنباه الرواة وأخذ الطلاب فى صقلية بمازر وغير مازر يتدارسونه فى حياته وبعد وفاته. ومعنى ذلك أن صقلية أتيح لها من المختارات الشعرية والنثرية ما أتاح لأدبائها ملكات أدبية خصبة كما أتيح لها من كتب البلاغة والنقد، وفى مقدمتها كتاب العمدة ما أتاح لأدبائها جمال الصياغة ودقة الذوق الأدبى ورهافته.

وإذا تركنا الدراسات النقدية واللغوية فى صقلية الإسلامية إلى الدراسات الدينية وجدنا من كبار قرائها فى القرن الرابع الهجرى محمد بن خراسان كما فى طبقات القراء لابن الجزرى، طلب العلم بمصر وفيها درس القراءات والحديث النبوى وتتلمذ لأبى جعفر النحاس وكتب عنه مصنفاته وقرأها عليه وكان بينها كتابه إعراب القرآن، وظل مقرئا متصدرا بصقلية إلى أن توفى سنة 386 هـ/996 م وقد بلغ ستا وتسعين، وممن روى القراءة عنه يوسف بن حبيب وغيلان بن

ص: 363

تميم. وطبيعى أن تزدهر قراءة القرآن فى صقلية مثلها فى ذلك مثل جميع البلاد الإسلامية، وكانت مثل تونس والبلاد المغربية-تقرأ بقراءة ورش المصرى عن نافع وعادة يوصف المقرئ بأنه مفسر للقرآن مما يدل على أن المقرئين للذكر الحكيم فى صقلية كانوا كثيرا ما يعنون بتفسيره حتى تفهم الناشئة ما تحفظه منه، ونجد حمل محمد بن خراسان المار آنفا لكتاب إعراب القرآن للنحاس يحدث فى صقلية نشاطا فى هذا الموضوع فإذا أبو طاهر إسماعيل بن خلف الصقلى المتوفى سنة 455 هـ/1063 م يؤلف كتابا فى إعراب القرآن كان فى تسع مجلدات، وسنترجم- فيما بعد-لابن ظفر الصقلى وله فى التفسير ثلاثة كتب.

وعلى نحو ما كان إقراء الذكر الحكيم وإعرابه وتفسيره ناشطا فى صقلية كانت-بالمثل- رواية الحديث النبوى، إذ كان حفّاظه النابهون كثيرين من مثل أبى بكر الحصائرى، ومن أهم حفاظها عتيق السمنطارى وقد نوه به ياقوت فى الحديث عن بلدته «سمنطار» فى كتابه «معجم البلدان» وكان قد لزم حلقات الشيوخ فى بلرم حتى أخذ ما عندهم، وارتحل إلى لقاء الشيوخ ونزل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتسع فى رحلته فأخذ عن شيوخ اليمن وفارس وخراسان والشام ومصر، وكان يلقى فى تلك البلدان بجانب شيوخ الحديث وحفاظه العبّاد والنساك ويكتب ما يسمعه من الفئتين، وصنف كل ما جمعه عنهم، كما صنّف فى الفقه تأليفا كان فى غاية الترتيب والبيان. وكان يدرس لتلاميذه فى صقلية الحديث النبوى وكتاب الموطأ فى الفقه المالكى، وتوفى سنة 464 هـ/1071 م حين احتل روجّار الأول ملك النورمان بلرم.

وأكثر فقهاء المالكية بصقلية كانوا محدّثين لأن الموطأ لمالك كتاب فقه وحديث وكان نشاط الفقه بصقلية واسعا جدا، وهيّأ لذلك أن كان قضاة صقلية-منذ أول الأمر-يحاضرون الناس فى الفقه المالكى عمدتهم فى القضاء يتقدمهم فى ذلك سالم بن سليمان الكندى الذى ولى القضاء فى صقلية سنة 281 هـ/894 م وقد عمل بكل جهده على نشر مذهب مالك فى صقلية كما فى كتاب رياض النفوس. ونزلها تلميذ من كبار تلامذة الإمام ابن أبى زيد فقيه القيروان المتوفى سنة 386 هـ/996 م هو البراذعي خلف بن أبى القاسم وكان زملاؤه من فقهاء القيروان يزورون عنه، فلم تحصل له بها رياسة، فرحل إلى صقلية، وقصد أميرها فى بلرم، فحصلت له عنده مكانة طيبة، وعنده ألف كتابه التهذيب فى اختصار مدونة سحنون فى الفقه المالكى يقول ابن فرحون وعليه معول الناس فى صقلية والمغرب والأندلس، وطارت شهرته فى العالم الإسلامى وكتبت له شروح مختلفة، وألف بصقلية أيضا كتابا فى التمهيد لمسائل المدونة وكتاب الشرح والتتمات لمسائل المدونة، وله أيضا اختصار الواضحة من كتب الفقه المالكى يقول ابن فرحون: وعليه اعتماد طلبة العلم للمذاكرة وكان ابن أبى زيد قد جمع ما فى الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال فى كتابه النوادر فنقل البراذعي معظمه فى كتابه على المدونة. ويبدو أنه توفى بصقلية فى أوائل القرن الخامس الهجرى.

ص: 364

ومن فقهاء صقلية بعده محمد بن يونس التميمى من مدينة مازر المتوفى سنة 451 وقد لقب بالإمام الأكبر لتبحره فى الفقه المالكى وجاءه الناس للفتوى، وله مؤلف جيد فى مسائل كتاب الموطأ للإمام مالك، وله إضافات مفيدة وتعليقات علمية جيدة على مدونة سحنون. وكان يعاصره عبد الحق بن محمد القرشى الصقلى، لزم حلقات الشيوخ فى بلده حتى ارتوى منها، ورحل للحج ولقاء الشيوخ والفقهاء الكبار والتقى بأبى ذر الهروى شيخ المالكية فى هراة وبالقاضى عبد الوهاب المالكى شيخهم فى العراق كما التقى فى حجة ثانية بإمام الحرمين الجوينى وسأله عن مسائل أجابه عنها وسجل ذلك فى أحد كتبه، وكان يدرس لطلابه فى بلرم مدوّنة سحنون التى جمعت أصول المذهب المالكى، يقول ابن فرحون أيضا عنه:«كان مليح التأليف، ومن مؤلفاته كتابه «النكت والفروق لمسائل المدونة» ويقول ابن فرحون أيضا إنه «عاد إليه بالتغيير والتبديل ورجع عن كثير من اختياراته وتعليلاته» وله كتاب فى الفقه المالكى كبير باسم «تهذيب الطالب» وله استدراك على تهذيب المدونة للبراذعى وله كتاب فى بسط ألفاظ المدونة، وكأن أعماله الفقهية انحصرت فى خدمة مدونة سحنون. وحاز شهرة كبيرة فى حياته وكان كثير الارتحال، فدرس عليه فى القيروان-كما فى الصلة لابن بشكوال-ابن الخياط ومحمد بن نعمة الأسدى، ودرس عليه فى صقلية من الأندلسيين أبو بكر بن الحصار، وهاجر إلى الأندلس من تلامذته الصقليين-ثابت الفقيه الصقلى، وتوفى بالاسكندرية سنة 466 هـ/1073 م ويبدو أنه رحل عن بلرم بمجرد استيلاء روجار الأول ملك النورمان عليها سنة 464 هـ/1071 م.

4 -

الثقافة (1) فى العهد النورمانى

دخل النورمان صقلية والحركة العلمية بها مزدهرة، وهالهم ما رأوا فيها من حضارة ومدنية إسلاميتين، وشعروا بوضوح أنهم فى حاجة، بل فى أشد الحاجة إلى أن يجلسوا من سكانها العرب مجلس التلامذة من أساتذتهم فى الزراعة والصناعة والتجارة وفى الثقافة والعلوم والفنون المختلفة، ودفع روجّار الأول ابنه روجار الثانى إلى تعلم العربية وإلى الإكباب على علومها وفنونها، وبالمثل دفع روجار الثانى ابنه غليوم الأول إلى التزود من هذه العلوم والفنون ما وسعه

(1) انظر فى الثقافة بالعهد النورمانى نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق للإدريسى ورحلة ابن جبير، وخطط المقريزى، والخريدة للعماد الأصبهاني، وإنباه الرواة للقفطى، وطبقات القراء لابن الجزرى، وابن خلكان، ومقدمة ابن خلدون، والقسم الثالث من ورقات عن الحضارة فى إفريقيا التونسية، والعلم عند العرب لألدومييلى ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، والعرب فى صقلية للدكتور إحسان عباس.

ص: 365

التزود وحث بدوره ابنه غليوم الثانى على استيعابها ما أمكنه، ويحدثنا الإدريسي فى فواتح كتابه «نزهة المشتاق» عن مدى ما أحرز روجار الثانى من هذه الفنون والعلوم قائلا:«أما معرفته بالعلوم الرياضيات والعمليات فلا تدرك بعدّ، ولا تحصر بحدّ، لكونه قد أخذ بكل فنّ منها بالحظ الأوفر، وضرب فيه بالقدح المعلّى» ويقول ابن جبير-كما مرّ بنا-عن غليوم الثانى: «له الأطباء المنجمون، وهو كثير الاعتناء بهم شديد الحرص عليهم حتى إنه متى ذكر له طبيب أو منجم اجتاز ببلده أمر بإمساكه، وأدرّ له أرزاق معيشته، حتى يسلّيه عن وطنه.

وأحسّ روجار الأول-منذ أول الأمر-بالحاجة إلى ترجمة الكنوز العلمية النفيسة من العربية إلى اللاتينية، حتى يحوز النورمان لأنفسهم هذه الثروات العلمية، ولم يلبث أن أتاح له ذلك نصرانى يسمى قسطنطين الإفريقى ولد بمدينة قرطاجة التونسية سنة 400 هـ/1009 م وثقف العربية وأتقنها، واختلف فى القيروان إلى أصحاب علوم الأوائل فى الطب والرياضة والفلك، ورحل إلى القاهرة وفيها استكمل معرفته بالعلوم المذكورة، وعاد إلى بلده: قرطاجة وتركها إلى صقلية فى عهد روجار الأول وعرف منه حاجته إلى ترجمة كل ما كتبه العرب عن الطب، فرجع إلى القيروان، وجمع منها أنفس ما كتبه أطباؤها العظام، وعاد إلى روجار الأول يبشره بأنه اصطفى له أفضل وأنفس ما لأطباء القيروان والعرب عامة من كتب طبية وغير طبية، فأسّس له دير جبل كاسينو بالقرب من مدينة سالرنو فى جنوبى إيطاليا فتولى رياسته وأخذ يغرى رهبانه بتعلم العربية حتى إذا تعلموها أغراهم بترجمة مصنفاتها الرياضية والفلكية والطبية إلى اللاتينية، ودرس ما ترجموه فى كلية سالرنو ومنها نقل إلى الجامعات الأوربية، ومما يدل على ذلك أبلغ الدلالة فى المجال الطبى أن نجد فردريك الثانى ملك صقلية وإمبراطور ألمانيا يسنّ لائحة خاصة لمزاولة العمل الطبى فى مملكته يفرض فيها على كل طبيب يعمل بها أن يحصل على إجازة الطب من كلية سالرنو، وكان ذلك قبيل عصر النهضة الأوربية، فكان له تأثير بالغ فيها. ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب فى القسم الأول من كتابه:«ورقات عن الحضارة العربية فى إفريقية التونسية» : «جدير بالملاحظة أن جلّ ما ترجمه قسطنطين من الكتب العربية إلى اللاتينية أو حاول تقليده والوضع على غراره إنما كان مستمدا من مصنفات أطباء قيروانيين مثل إسحاق بن عمران وأحمد بن الجزار، كما أنه اعتمد فى الفلك وعلم الهيئة على كتاب البارع فى الفلك والنجوم لعلى بن أبى الرجال القيروانى» . وكل ذلك كان يصب فى صقلية أخت القيروان، ويبدو أنها اشتهرت فى الفلك والهندسة بعلماء ومهندسين أفذاذ، يدل على ذلك-من بعض الوجوه-أننا نجد الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله (386 هـ/996 م -411 هـ/1020 م) حين ينشئ مرصده فى القاهرة يرسل إلى صقلية، فى طلب حذّاقها فى الهندسة والتنجيم، ويوافيه أبو محمد عبد الكريم المهندس الصقلى، ويتوقف العماد الأصبهانى فى القسم الخاص بصقلية ليقول عن هذا الشاعر أو ذاك إنه رياضى أو منجم فلكى أو مهندس

ص: 366

مثل عبد العزيز المعافرى وكان من علماء الرياضيات ومثل ابن القرنى وكان منجما حاسبا، ومثل محمد بن عيسى الفقيه وكان مهندسا منجما وشاعرا بارعا.

ومعروف أن روجار الثانى ملك صقلية النورمانى استدعى الشريف الإدريسى إلى «بلرم» عاصمته، وطلب إليه أن يؤلف له كتابا فى الجغرافيا، فألّف له كتابه الرائع:«نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق» وهو أكمل كتاب جغرافى ألفه العرب، وظل عند الأوربيين أهم مرجع فى علم الجغرافيا إلى القرن السادس عشر، وقد أتم الإدريسى تأليفه سنة 545 هـ/1150 م وترجمت قطع كبيرة منه إلى مختلف لغات العالم. وطلب منه روجّار الثانى خريطة للعالم فنقشها على كرة من الفضة تزن ثمانمائة أوقية، ورسم عليها جميع الأقاليم التى كانت معروفة لعصره، وهما عملان باهران من أعمال العبقرية العربية. وكان حريا بالإدريسى أن يقدمهما إلى حاكم عربى فى عصره لا لحاكم نورمانى نهب هو وأبوه صقلية العربية وقد وجه إلى المهدية بالإقليم التونسى اسطولا مكونا من ثلاثمائة سفينة سنة 543 هـ/1148 م واستولى عليها وظل بها اثنى عشر عاما حتى خلصها عبد المؤمن سلطان الموحدين. وظل الإدريسى فى بلرم أيام غليوم الأول وله ألف كتابا سماه «روض الأنس ونزهة النفس، وقد وضع فيه الإدريسى-كما يقول الدومبيلى- خرائط أصغر سعة ومقياسا، وخرائطه جميعا تقوم على تحديد درجات الطول والعرض، ويقال إنه توفى سنة 562 هـ/1166 م والمظنون أنه قتل فى ثورة للنورمان حينئذ على العرب فى بلرم.

ويلقانا فى العهد النورمانى غير عالم لغوى ونحوى، ومن نحاتها ولغوييها الذين ظلوا بها ولم يبرحوها على بن بشرى اللغوى الصقلى ويقول القفطى:«كان فى النظم والنثر سابقا لا يجارى، وفى اللغة والإعراب لا يبارى» ومنهم عمر بن حسن النحوى الصقلى يقول القفطى: «شيخ فى اللغة والنحو طويل الباع فيهما، أخذا ورويا عنه تصدر للإفاده ببلرم» ومنهم محمد بن زيد الطّرطائى الصقلى «آخذ من كل العلوم بالحظ الوافى، متقدم فى علم الأوزان والقوافى» . وممن بارحوا صقلية-فى العهد النورمانى من كبار اللغويين والنحاة على بن عبد الرحمن الصقلى العروضى، يقول عنه القفطى:«نزيل الإسكندرية عالم بعلمى النحو والعروض قيم بهما. بليغ فيهما، مشارك فى جميع الأنواع الأدبية، متصدر لإفادة الطلاب» . ومنهم ابن القطاع على بن جعفر التميمى المولود سنة 433 هـ/1041 م تلميذ ابن البر، وكان مثل أستاذه عالما لغويا كبيرا، وما زال بصقلية يدرس ويؤلف لطلابه حتى إذا كانت سنة 500 هـ/1106 م انتقل إلى مصر فاحتفى به أهلها، وتصدر للتدريس والافادة إلى أن توفى سنة 515 هـ/1121 م ومن تصانيفه كتاب تهذيب أفعال ابن القوطية فى اللغة وهو خير من كتاب ابن القوطية وكتاب أبنية الأسماء يقول ابن خلكان جمع فيه فأوعى. وكان كتاب الصحاح للجوهرى بمصر-كما يقول القفطى-لا يروى إلا عن طريقه عن ابن البر، وكان له كتاب نفيس فى

ص: 367

شعراء صقلية سماه: «الدرة الخطيرة فى المختار من شعراء الجزيرة» وفى دار الكتب المصرية مختصر له، ونقل عنه العماد الأصبهانى فى الخريدة: قسم صقلية طائفة كبيرة من شعرائها البارعين. ومن هؤلاء النازحين عن صقلية فى العهد النورمانى على بن ابراهيم النحوى الصقلى المعروف بابن المعلم، كان مجيدا للغة والنحو وتصدر للإفادة فيهما، بارح صقلية واستوطن مصر إلى أن توفى بها سنة 532 هـ/1137 م. ومنهم عثمان بن على السّرقوسى الصقلى النحوى، كان عالما نحويا مقرئا للقرآن الكريم، وله حاشية على كتاب الإيضاح لأبى على الفارسى، وكانت له فى جامع الفسطاط حلقة للإقراء وانتفع به الناس ونقلوا كلامه وكتبوا تصانيفه، وله مختصر كتاب العمدة لابن رشيق زاد به أبوابا أخل بها مؤلفه وهى واقعة موقعا جيدا من التصنيف.

وحقا كان النشاط العلمى لهؤلاء النحاة واللغويين الصقليين خارج جزيرتهم، ولكنى ذكرتهم لأدل على مدى ما حدث بالحركة العلمية فى صقلية من خمود وقف ما كان ينتظر لها من ازدهار عظيم بسبب استيلاء النورمان عليها.

وإذا انتقلنا إلى الحركة الدينية وبدأنا بالقراءات القرآنية وجدنا لصقلية إماما كبيرا من أئمتها هو عبد الرحمن بن عتيق المقرئ المعروف بابن الفحام المولود بسرقوسة سنة 422 هـ/1030 م وقد رحل من صقلية إلى مصر سنة 438 هـ/1046 م فى طلب القراءة القرآنية على أئمتها المصريين وظل يأخذها عنهم حتى سنة 454 هـ/1062 م ومن شيوخه فيها ابن نفيس تلميذ عبد المنعم بن غلبون شيخ القراءات بمصر، وتتلمذ لابن بابشاذ وأملى عليه شرح مقدمته المشهورة فى النحو، وعاد إلى بلده، ولم يلبث أن نزلها النورمان فبارحها إلى الإسكندرية واتخذها موطنا له، وكان من أعلم القراء بالقراءات ووجوهها، ولم يلبث أن أصبح شيخ القراء بالاسكندرية علما ودراية، وألف فيها كتابه «التجريد فى بغية المريد» وبها توفى سنة 516 هـ/1122 م.

وكان كثير من القرّاء لا يزالون يلقون على طلاب صقلية دروسا فى التفسير، ويلقانا فى منتصف القرن السادس الهجرى مفسر صقلى كبير هو ابن ظفر ويهاجر منها إلى الشام وسنترجم له فى حديثنا عن النثر الصقلى، وتظل رواية الحديث النبوى ناشطة فى العهد النورمانى، ويلقانا فيه إمام من أئمته، هو الحافظ محمد بن على بن عمر التميمى المعروف باسم المازرى نسبة إلى مسقط رأسه فى مدينة مازر بصقلية، وقد لزم حلقات شيوخها حتى اكتمل مرباه العلمى، وهاجر منها إلى الإقليم التونسى، وتولى القضاء فى القيروان ثم فى المهدية، وبها ألقى عصاه إلى أن توفى سنة 536 هـ/1141 م عن ثلاث وثمانين سنة ودفن برباط المنستير وفيه يقول ابن خلكان هو أحد الأعلام المشار إليهم فى حفظ الحديث، ويقول المقرى فى أزهار الرياض ناعتا له: «الإمام المجتهد أبو عبد الله المازرى عمدة النظار، ومحور الأمصار، المشهور

ص: 368

فى الآفاق والأقطار حتى عدّ فى المذهب المالكى إماما». وله فى الحديث النبوى شرح جيد على صحيح مسلم سمّاه كتاب «المعلم بفوائد مسلم» وفيه يقول ابن خلدون فى المقدمة: «أما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به. . وأملى الإمام المازرى من كبار فقهاء المالكية عليه شرحا سماه المعلم بفوائد مسلم اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه. وكان العلماء فى عصره يتسابقون إلى أخذ الإجازة عنه برواية هذا الشرح وبقية كتبه، ومنهم القاضى عياض الإمام المشهور وقد بنى على شرحه لصحيح مسلم شرحا سماه «إكمال المعلم بفوائد مسلم» .

وللمازرى بجانب هذا الشرح مصنفات فى الفقه المالكى وعلم الأصول، من ذلك شرحه لكتاب التلقين للقاضى المالكى عبد الوهاب ويقال إنه ليس للمالكية كتاب مثل شرح كتاب هذا القاضى وشرح البرهان فى الأصول لإمام الحرمين الجوينى. وهو بحق يعد خاتمة الفقهاء والمحدثين بصقلية.

ص: 369