الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يروع بحسن اتساقه، فإذا أنت تركت ذلك إلى ما يشتمل عليه هذا الخبر من تربية وجدته يصور إلى أبعد حد الفطنة التى ينبغى أن يتحلى بها الناشئة إزاء إخوتهم ورفقائهم بحيث لا يبدر منهم لهم ما قد يؤذيهم، والخبر بحق يجسّد آداب الأخوّة كما يجسّد التربية الرشيدة للأم وما أروع قول الأم: لقد كنا ننهى الصبى-إذا بلغ العشر وحضر من يستحيى منه-أن لا يبتسم». وهى صحيفة تربوية بديعية فى آداب الأخوة خاصة وآداب السلوك عامة.
سلوان المطاع فى عدوان الأتباع
كتاب نفيس فى التربية السياسية ترجمة المستشرقون إلى الإنجليزية والإيطالية، وقد استهله ابن ظفر بشكر القائد الصقلى محمد بن أبى القاسم القرشى الذى صنعه له سنة 545 ويقول فى خطبته أو مقدمته إنه عمد فيه إلى أمثلة استأثر خواص الملوك ببضاعتها، ومنعتهم الغيرة عليها من إذاعتها، فتوسع فى التعبير بألفاظه عنها والتفنن بقوى فطنته فيها، وكسا جسومها حلل الآداب الملوكية، وقلّد عواتقها بسيوف المكايد الحربية. فالكتاب إذن ليس رواية عن كتب غيره السابقة، بل هو من تأليفه وصنعه نثرا وشعرا وحكما وأمثالا وقصصا، وهو فيه يكثر من ضرب الأمثال تارة على ألسنة بعض الحيوانات مثل كليلة ودمنة، وتارة على ألسنة شيوخ حكماء ووزراء دهاة من الفرس والعرب، وقد يتوسع بذكر قصص عن ملوك اليونان وبالمثل عن ملوك الفرس. وقد يستطرد من قصة إلى قصة أو من مثل إلى مثل على طريقة كتاب كليلة ودمنة. وإذا كان كتاب أنباء نجباء الأبناء فى السلوك الاجتماعى والخلقى وآدابهما فإن هذا الكتاب فى آداب السياسة وما ينبغى أن يكون عليه الحاكم من الرفق بالرعية والعدل والإنصاف وما ينبغى أن يتخلّى عنه من البغى والطغيان والعسف والظلم. والكتاب موزع على خمس سلوانات: السلوانة الأولى فى التفويض، والثانية فى التأسى، والثالثة فى الصبر، والرابعة فى الرضا، والخامسة فى الزهد. وعادة يبدأ السلوانه بآى من القرآن الكريم وبأحاديث نبوية، ويعلق عليها تعليقات طريفة، ثم يفضى إلى غرضه فى الكتاب من ضرب الأمثلة والقصص الحيوانية والإنسانية تبصرة وعظة للحكام، حتى يتبعوا الصراط السوىّ فى تدبير حكمهم وشئونه مع سياسة الرعية سياسة حكيمة محكمة.
وابن ظفر يذكر فى مستهل سلوانة التفويض لأحكام الله قوله تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.} ثم يذكر قصة مؤمن آل فرعون التى وردت فى الذكر الحكيم وكيف أن الله تقدس اسمه وقاه سيئات ما مكروا، ويذكر بعض أسجاع وأبيات حكمية، فمن النثر قوله:
معارضة العليل طبيبه، توجب تعذيبه. . . إنما الكيّس (العاقل) الماهر، من استسلم فى قبضة القاهر-إذا التبست الموارد بالمصادر، ففوّض إلى الواحد القادر.
ومن الشعر قوله:
يا ربّ مغتبط ومغ
…
بوط برأى فيه هلكه
علم العواقب دونه
…
ستر وليس يرام هتكه
ومعارض الأقدار بال
…
آراء سيّئ الحال ضنكه
ويذكر مأزقين لخليفتين: أموى وعباسى، هما الوليد بن يزيد بن عبد الملك، والمأمون وكيف أن لقاءهما بشخصين محنكين بصّراهما بما ينبغى أن يتخذا من سياسة إزاء باغيين عليهما، أما شيخ الوليد فقد عرض عليه مأزقا مماثلا لجده عبد الملك بن مروان وكيف أن شيخا كبير السن لقيه وهداه إلى ما ينبغى اتخاذه من السياسة والتدبير حتى ينتصر على عدوه الباغى، وضرب له مثلا أو قصة عن ثعلبين وحية وكيف أن الباغى تدور عليه الدوائر، وأما شيخ المأمون فضرب له مثلا من بغى فيروز الملك الفارسى على ملك الهياطلة الذى كان قد أسره فى بعض الحروب ورد إليه حريته بعد أن عاهده على أن لا يغزو بلده ولا يقصدها بسوء، ودارت الأيام بعد رجوعه إلى دار ملكه فصمم على غزو ملك الهياطلة وبلاده، وفى طريقة بغى أحد فرسانه على مسكين فقتله، وتصدّى له أخوه يريد مصارعته، وخوّفه الناس منه، فقال لهم: دعونى وإياه فإنه على فرس الغرور وأنا على فرس البصيرة، وهو لابس درع الشك وأنا لابس درع الثقة، وهو مقاتل بسيف البغى وأنا مقاتل بسيف الحق، وانتصر الحق على البغى وقتل أخو المسكين الفارس أو الإسوار العظيم من أساورة فيروز. ويقول الشيخ للمأمون إن فيروز لم يتعظ من هذا الحادث ومضى حتى وطئ كثيرا من أرض ملك الهياطلة، والتقيا ودارت الدوائر على فيروز وجنده ثمرة بغيه وعدوانه. ولقيت مقالة الشيخ قبولا لدى المأمون على إرسال الجيوش للباغى عليه، وكان أخاه الأمين الذى نكث عهد أبيه أن يكون المأمون ولى عهده والخليفة بعده، فنكث العهد ونشبت بينهما الحرب ضارية وانتصر جيش المأمون وقتل الأمين الذى لم يرع لأبيه عهده ولا خاف تبعة نكثه.
وخلال هذه الأمثال أو القصص التى ضربها الشيخان للمأمون والوليد تتعاقب حكم كثيرة طريفة لتوعية الحكام بآداب الحكم وما ينبغى أن يأخذوا به أنفسهم من السياسة الحكيمة للرعية ومع الأعداء. من ذلك قول ابن ظفر: «الرأى سيف العقل-كل رأى لم تتمخض به الفكرة ليلة كاملة فهو مولود لغير تمام-من دلائل الوفاء بر الآباء والأمهات وصلة ذوى القرابات-الباغى باحث عن مدية حتفه بظلفه ومتردّ فى مهاوى تدميره بمساوئ تدبيره- الهوى طاغية فمن ملكه أهلكه-الهوى كالنار إذا تحكم اتقادها عسر إخمادها، وكالسيل إذا اتصل مده تعسّر صده» .
ودائما تلقانا مثل هذه الحكم فى الكتاب، وننتقل معه إلى سلوانة التأسى، وقد أدارها على قصة طويلة لسابور الملك ووزيره وحيله واستطرد فى أثنائها لقصتى فتى وفتاة وفرس وخنزير وينثر فى تضاعيفها كثيرا من الحكم السياسية والاجتماعية مثل قوله: من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الزهد اجتنى العزة، ومن غرس الإحسان اجتنى المحبة، ومن غرس الحلم اجتنى الحكمة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة، ومن غرس المداراة اجتنى السلامة، ومن غرس الكبر اجتنى المقت، ومن غرس الحرص اجتنى الذل، ومن غرس الطمع اجتنى الخزى، ومن غرس الحسد اجتنى الكمد. ويقول: تتميز الملوك على السوقة بفضيلة الذات لا بفضيلة الآلات، وفضيلة ذات الملك تتميز بخمس خصال: رحمة تشمل الرعية، وتغطية تحوطهم، وصولة تذبّ عنهم، وفطنة يكيد بها الأعداء، وحزم ينتهز به الفرص. ويقول فى سلوانة الصبر التالية:
صبر الملوك ثلاثة قوى: قوة الحلم وثمرتها العفو، وقوة الكلاءة (الرعاية) والحفظ وثمرتها عمارة المملكة، وقوة الشجاعة وثمرتها فى الملوك الثبات وفى حماة المملكة الإقدام فى المعارك، ولا يراد من الملك الإقدام فى المكافحة، فإن ذلك من الملك تهور وطيش وتغرير، وإنما شجاعته ثباته حتى يكون قطبا للمحاربين ومعقلا للمنهزمين، وهذا ما دام بحضرته من يثق بذبّه عنه، ودفاعه دونه، وحمايته له. ومما قاله فى هذه السلوانة: صلاح الملك: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منها بغير عنف، والتودد بالعدل، وأمن السبل، وإنصاف المظلوم.
وتلى ذلك سلوانة الرضا، ومن حكمه فيها الرياء سراب يخدع الفطن القاصرة، ولا يخفى عن البصائر الباصرة-أمران يسلبان الحر كمال الحرية: قبول البرّ، وإفشاء السر-كثرة النوم تجلب الدمار وتسلب الأعمار-من لزم الرقاد عدم المراد-كن من عينك على حذر، فرب جنوح حين (هلاك) جناه جموح عين-السآمة من أخلاق العامة-ما أحرى الملول بأن يحرم المأمول. ومن قوله فى سلوانة الزهدا الأخيرة:
يا متعبا كدّه الحر
…
ص فى الفضول وكاده
لو حزت ما حاز كسرى
…
وما حوى وأفاده
ما كنت إلا معنىّ
…
ومغرما بالزّياده
لم يصف فى الأرض عيش
…
إلا لأهل الزهاده
ودائما يضع مثل هذه الأبيات فى صدر كل سلوانة، مما يصور شاعرية خصبة لديه بجانب ما يسوق من حكم مسجوعة فى عبارات محكمة، وأيضا ما يسوق من أمثال وقصص فى أساليب متناسقة، تصور حسا دقيقا وذوقا مصفى وقدرة على الحوار الأدبى البارع.
ملحق
ابن قلاقس الإسكندرى (1) فى صقلّية
لعهد غليوم الثانى
مرّت بنا ترجمة ابن قلاقس الإسكندرى فى الحديث عن تاريخ الأدب العربى بمصر، وهناك ألممنا برحلته إلى صقلية فى إيجاز، وحرىّ بنا الآن أن نفصّل الحديث فيها بعض الشئ تتمة للكلام عن صقلية، وقد رحل إليها فى سنة 563 للهجرة، وهو فى نحو الثلاثين من عمره وظل بها نحو سنتين، وحار الدارسون له فى تبين أسباب تلك الرحلة ودوافعها، غير أن من يتعقب أشعاره وأخباره يعرف أنه كان على صلة وثيقة بالرشيد بن الزبير أحد أعلام الثقافة والأدب والشعر فى عصره حين ولى النظر بثغر الإسكندرية فى الدواوين السلطانية سنة 559 للهجرة وكان قد وضع يده فى يد صلاح الدين الأيوبى حين ولاه عمه أسد الدين شيركوه الإسكندرية فى أثناء حربه مع شاور وزير الفاطميين وأعوانه من الصليبيين سنة 562 وتطورت الظروف حينئذ وعاد صلاح الدين مع عمه شيركوه إلى الشام وتركا مصر. ولم يكن هم شاور بعد خروجهما من مصر فى تلك المرة إلا طلب من انضموا إلى صلاح الدين من رجال الدولة فى الإسكندرية وفى مقدمتهم الرشيد بن الزبير، وسارع الرشيد فاختبأ فى إحدى الدور بالمدينة فترة، وقبض عليه وقتل فى شهر المحرم سنة 563 ونرى ابن قلاقس يرسل إليه فى مخبئه قصائد يستهل إحداها بقوله:
تدانيت دارا والوصول شسوع
…
فخلّك ذو الودّ الوصول قطوع
وهو يقول له إن دار مخبئك قريبة، غير أن الوصول بعيد، وكأنه يخشى أن يزور الرشيد فيتنبه رجال شاوور إلى مخبئه، ويقول له: خلك الودود الوصول يرى كأنه لم يثبت على ودك وإخائك، ولعله يريد نفسه، وفى رأينا أن هذه الصلة بين ابن قلاقس والرشيد الذى كان فى مقدمة الثائرين على شاور وانحاز إلى صلاح الدين وما حدث من طلب شاور له، ومقتله هذه الصلة هى التى جعلت ابن قلاقس-فى رأينا-يفكر فى الرحيل عن الإسكندرية خشية أن يلقى نفس المصير على يد رجال شاور، إما لصداقته للرشيد وإما لأنه كان ممن التفّوا حول
(1) انظر فى رحلة ابن قلاقس إلى صقلية كتاب خريدة القصر: قسم شعراء مصر (طبع القاهرة) 1/ 146 وما بعدها وكتاب الزهر الباسم والعرف الناسم فى مديح الأجلّ أبى القاسم لابن قلاقس تحقيق الدكتور عبد العزيز المانع (نشر جامعة الملك سعود) والنصوص الصقلية من شعر ابن قلاقس الإسكندرى وآثاره النثرية للدكتور محمد زكريا عنانى (طبع دار المعارف) وترسل ابن قلاقس الإسكندرى تحقيق الدكتور عبد العزيز بن ناصر المانع (طبع الرياض) وكتاب العرب فى صقلية للدكتور إحسان عباس ص 287 وما بعدها.
صلاح الدين فى مقامه بالإسكندرية حينذاك. وأخذ يفكر إلى أين يرحل ورأى أن يرحل بعيدا عن مصر وديارها، وصمّم على الرحيل إلى صقلية، وكان قد سمع ممن يلمون بمجالس شيخه السلفى أحيانا من أهل صقلية فى ذهابهم إلى الحج أو فى عودتهم منه-بزعيم المسلمين بجزيرتهم أبى القاسم ابن الحجر بن حمود بن محمد القرشى وكرمه الفياض وفى كتابه الرائع: الزهر الباسم والعرف الباسم فى مديح الأجل أبى القاسم الذى وصف فيه رحلته إلى صقلية وسجل مدائحه فى أبى القاسم بن الحجر نراه يذكر أنه كان قد أرسل إليه مدحة سنة 561 فكان طبيعيا أن يفكر فى النزول بجزيرته فرارا من شاور ورجاله. ونزل فى غرّة شعبان من سنة 563 فى مدينة مسّينى فى الشمال الشرقى من صقلية، وأعجب بموقعها من البحر المتوسط وبمشاهدها الطبيعية ومبانيها الرائقة، مما جعله ينشد فى وصفها قوله:
بلد أعارته الحمامة طوقها
…
وكساه حلّة ريشه الطاوس
فكأنما الأزهار منه سلافة
…
وكأنّ ساحات الديار كئوس
ومكث بها فترة قليلة، واتجه غربا إلى العاصمة «بلرم» على الساحل الشمالى للجزيرة، وأحسن استقباله أبو القاسم بن الحجر بن حمود القرشى وظل حفيا به طوال مقامه بالجزيرة، وكان زعيم المسلمين فى الجزيرة، كما أسلفنا، ومن كبار رجالات الدولة لعهد الملك غليولم (غليوم) الثانى وأخذ ابن قلاقس يتعرف عن طريقه إلى بعض رجال الدولة النورمانية، وكأنما كان من واجب من ينزل صقلية من الشعراء المسلمين أن يمتدح مليكها النورمانى وبعض رجال دولته، ومر بنا أن عبد الرحمن بن رمضان المالطى استنفد أكثر شعره فى مديح روجّار وأن ابن بشرون المهدوى التونسى مدح روجار الثانى، وقد مدح ابن قلاقس غليولم (غليوم) الثانى بقصيدة ميمية روتها إحدى مخطوطات الديوان، وله يقول:
كذا فليكن عزم الملوك وقلما
…
ترى ملكا يأتى بمالك من عزم
وفى القصيدة مبالغات مفرطة فى مديح غليوم، وكان حريا بابن قلاقس أن يأنف من أن يسبغها على ملك مسيحى نهب هو وآباؤه الجزيرة من أهلها المسلمين، ولكن ربما دفعته إلى ذلك ضرورة لبقائه فى الجزيرة دون تعرض له أو للإذن برحيله، ولعل نفس الضرورة هى التى دفعته لمديح جرّدنا أحد رجال الدولة النورمانية ويصفه بأنه وزير، وربما كان قائما على شئون الأمن، وفيه يقول:
وجرّدنا المدائح فاستقرّت
…
على أوصاف جرّدنا (1) الوزير
فنظّمنا المفاخر كاللآلى
…
وحلّينا المعالى كالنّحور
(1) فى الزهر الياسم: يزجرد.
وأعجب ما جرى أنا أمنّا
…
ونحن بجانب اللّيث الهصور (1)
رأى منه المليك حلى أمين
…
برئ النّصح من سقم الضمير
فصدّره على الديوان سطرا
…
هو البسم الذى فوق السطور
ومدّ على الرعيّة ظلّ عدل
…
وقاهم لفح ألسنة الهجير
والقصيدة تطفح بالمبالغات المسرفة مثل قصيدة غليولم (غليوم) الثانى. وشخصية ثالثة من شخصيات الدولة النورمانية هى شخصية غارات بن جوش، ولم ينظم فيه قصيدة إنما كتب إليه رسالة شكر، يقول فيها إنه فارق حضرته:«ممتلئ اليد نعمة، والفم نغمة، والخاطر آمالا، والناظر أموالا، اصطناعا منها (أى الحضرة) وتفضلا أبى الله أن يصدر إلا عنها» .
وإذا رجعنا إلى راعيه أبى القاسم بن الحجر الذى قصد الجزيرة من أجله وجدناه يلقّب بالقائد، وكان من الأثرياء ذوى الإقطاعات الواسعة، ويذكر ابن جبير فى رحلته أنه رأى له ولأهل بيته قصورا أنيقة فى بلرم، وقد أضفى على ابن قلاقس من الإكرام والأموال مما جعله يلهج بالثناء عليه فى قصائد كثيرة بل ما جعله يؤلف فيه كتابه الزهر الباسم من أوصاف أبى القاسم» ويشيد فى مطلع الكتاب به إشادة رائعة، ثم يصف ركوبه البحر المتوسط نثرا مسجوعا بديعا وشعرا رائعا من مثل قوله:
الناس كثر ولكن لا يقدّر لى
…
إلا مرافقة الملاّح والحادى
أقلعت والبحر قد لانت شكائمه
…
جدّا وأقلع عن موج وإزباد
فعاد-لا عاد-ذا ريح مدمّرة
…
كأنها أخت تلك الرّيح فى عاد
ونحن فى منزل يسرى بساكنه
…
فاسمع حديث مقيم بيته غادى
لا يستقرّ لنا جنب بمضجعه
…
كأن حالاتنا حالات عبّاد
وهو يقول إن كثيرين من الناس مقيمون لا يبرحون ديارهم وأوطانهم، أما هو فقدّر له أن يرافق الملاحين فى لجج البحار وحداة الإبل فى فيافى الصحارى، ثم يقول إن السفينة أقلعت رافعة شراعها وقد سكن البحر وكفّ عن موجه وإزباده، وسارت السفينة فى عرض البحر المتوسط، وما هى إلا ساعات حتى هبّت ريح عاصفة أشد العصف، كأنها أخت ريح عاد الموصوفة فى الذكر الحكيم بأنها صرصر شديدة البرد عاتية ويتصور السفينة منزلا غير أنه منزل لا يستقر، وكأنه ساكن مقيم وبيته منطلق به، وهو ومن حوله لا يستقر لهم جنب فى مضاجعهم بهذا المنزل لكثرة تمايله، وكأنما هم عبّاد فهم بين راكع وساجد منكفئ على جبينه. وما زالت تلك
(1) الهصور: المفترس.
حال السفينة وسكانها والبحر المتوسط وجنونه حتى اقتربت السفينة من الجزيرة وثغر مسّينى فى أقصى الشمال الشرقى، وحينئذ كست البحر الرّخاء (الريح الليّنة) ثوب وقارها، وأمسكت الزّعزع (الريح العاصفة) عنه كأس عقارها (خمرها) وصحا بعد جنونه وسكره» كما يقول ابن قلاقس.
ومضى العماد فى الخريدة يقتبس من كتاب الزهر الباسم بعض المدائح التى نظمها ابن قلاقس فى أبى القاسم بن الحجر، ويتضح منها ومما تحدث به عن أبى القاسم فى الكتاب أنه لم يكن قائدا أو مساعدا من مساعدى الدولة فحسب، بل كان أيضا على رأس دواوين الدولة، ومعروف أن تلك الدولة كانت تتخذ العربية لغة رسمية لها أو على الأقل كانت مكانتها فى الدواوين لا تقل عن مكانة اللغة النورمانية، ونرى ابن قلاقس يشيد ببراعة أبى القاسم الكتابية حتى ليقول:«إن ألبس قلمه المداد عرى من الفصاحة قسّ إياد، وإن أنطق طرسه الرسائل، أخرس عن الخطابة سحبان وائل، يلزم لديه ابن العميد، سمت العبيد، ويغدو عليه عبد الحميد غير حميد، ويقول له الصاحب أنا عبد لا صاحب ونهاية الصابئ أنه بألفاظه صابئ» . وهو بذلك يرفع بلاغته الكتابية فوق بلاغة قس الإيادي خطيب الجاهلية وسحبان وائل خطيب العصر الأموى وعبد الحميد الكاتب المشهور فى الدولة الأموية وابن العميد والصاحب بن عباد الكاتبين الفذين للدولة البويهية والصابئ الكاتب البغدادى المعروف فى القرن الرابع، وكان من الصابئة ويستغل اسمه فى أنه إزاء بلاغة أبى القاسم يصبأ أو يكفر ببلاغته. ومن قوله فيه بأولى مدائحه، وفيها يصف البحر وركوبه وصفا بديعا:
أنت فى الفضل فى بنى الحجر السّا
…
دة مثل الياقوت فى الأحجار
وبيمناك طير يمن وسعد
…
أصفر الظّهر أسود المنقار
قلم دبّر الأقاليم فالكت
…
ب به من كتائب الأقدار
يا طراز الديوان والملك أصبح
…
ت طراز الديوان فى الأشعار
والبيت الأول بديع، فبنو الحجر السادة أحجار كريمة، وهو بينهم ياقوت متوهج، وبيمناه قلم كأنه طير يمن وسعد، جلده-أو كما يقول ظهره-أصفر ومنقاره أسود، وهى إشارة بديعة إلى أنه يغمس فى مداد أسود، ويقول: إن هذا القلم يدبّر أقاليم الجزيرة بما يكتب من رسائل ديوانية مختلفة، سياسية وغير سياسية يصرّف بها أمور سكان الجزيرة المسلمين، ويهنئه بأنه زخرف الديوان والملك النورمانى، وانضاف إليه أنه أصبح زخرف ديوانه وأشعاره. ويقول فى قصيدة أخرى:
قد أقسم الحمد لا يشير إلى
…
غير أبى القاسم بن حمّود
فى يده للنّوال معركة
…
أردى بها البخل صارم الجود (1)
وتلتقى كتبه الكتائب فى
…
جيش من الخطّ صائد الصّيد (2)
بكل لفظ كأنه نفس
…
غير مملّ بطول ترديد
صحّت معانيه فانقسمن إلى
…
فضل ابتكار وحسن توليد
وربما استضحك الخميس به
…
عن أهرت الماضغين صنديد (3)
فالحمد لا يعرف طريقا إلى أحد يستحقه سوى ابن حمود أو ابن الحجر الذى أقام للجود معركة تلمع فيها السيوف القاطعة للرقاب: رقاب البخل والشحّ البغيض، وإن رسائله لتخضع لها كتائب الجيوش المسلحة، وبعبارة أخرى تخضع لجيش من الخط والكتابة البليغة التى تستنزل العصاة العتاة، بكل لفظ يلذ اللسان والآذان بحسن جرسه وروعة معانيه المولدة والمبتكرة.
وليس ذلك كل ما يميز ابن حمود فإنه يتميز أيضا بالبأس والشجاعة حتى لكأنه أسد يمزق فرائسه بماضغيه أو أنيابه، أسد صنديد، شديد غاية الشدة. ولابن قلاقس مدائح وأشعار كثيرة بديعة فى ابن الحجر، من ذلك قوله:
إن ابن حموّد له راحة
…
تستجلب الحمد من المرزم (4)
فى كلّ يوم لوفود النّدى
…
ببابه مجتمع الموسم
للمال من راحته عندهم
…
أضعاف ما للماء من زمزم
ولو أعار الليل آراءه
…
ما احتاج ساريه إلى الأنجم
فضائل كادت لإفراطها
…
تنطق بالشكر فم الأبكم
وهو يقول إن راحة ابن حمود ما تزال تهطل بالجود، حتى لكأنما تريد أن تجلب لنفسها الحمد من نوء المطر وغيثه المدرار، ويبالغ فى مديحه فيقول كل يوم تجتمع الوفود ببابه وتأخذ من ماله أضعاف ما يأخذ الناس من ماء زمزم، ولو أنه أقرض الليل آراءه ما احتاج ساريه إلى نجوم تهديه فى جنح الظلام. فضائل ليس لها مثيل تكاد تنطق فم الأبكم بالشكر والامتنان. ونراه يقوم برحلة بحرية إلى سرقوسة فى شرقى صقلية، ويبدأ فيها بمدينة ثرمة فى الشمال شرقى بلرم، وغادرها سريعا لحرارتها الشديدة حتى لكأنه شرب فيها ماء المهل أو شراب الكفار فى جهنم أو كأنما طعم شجرة الزقوم طعام الكفار فى النار الحامية، واتجه شرقا إلى جفلود، وشاهد رياضها
(1) صارم: سيف.
(2)
الصيد جمع أصيد: السيد.
(3)
الخميس: الجيش. أهرت الماضغين: واسع الشدقين. صنديد: شجاع.
(4)
المرزم: نوء كثير المطر.
وما يحفّ بالعيون فيها من حور عين، غير أنه أسرع فى مغادرتها إسراع من يطلب بالدّين أو كمن يطلب فى صقلية بالدّين مشيرا بذلك إلى اضطهاد المسلمين فيها، ويقول إنه نزل ثنر مسّينى وظل فيها تسعين يوما عند جلف ثقيل الظل لا يخفّ أبدا حتى لو طار بجناحى جبريل، وركب السفينة أو المجنونة كما يسميها على ماء مجنون حتى ليظن أنه سيكون طعاما للحيتان، وينزل سرقوسة أخيرا ويجد فيها الملجأ الأمين. والقصيدة وصف بديع لرحلة بحرية فى صقلية، وقد أتبعها بوصفه لرحلة برية من سرقوسة إلى بلرم حيث راعيه الأمين أبو القاسم بن الحجر، ولا يتضح سبب رحلته إلى سرقوسة وعودته، وفى رأيى أنه كان يبحث فى الثغور التى مرّ بها عمن يحدثه عن مصر وأحوالها وهل لا يزال شاور وأعوانه متسلطين فيها على الحكم، وكان أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين قد عادا إلى مصر سنة 564 فى قدمتهما الثالثة، وسرعان ما قبض على شاور وقتل وتولى أسد الدين الوزارة لمدة شهرين وتوفى، وتولاها صلاح الدين.
وأكبر الظن أن كل ذلك علم به ابن قلاقس، فاطمأن وصمّم على العودة إلى وطنه بعد وداع راعيه أبى القاسم وأصدقائه فى بلرم من مثل هبة الله السديد الحصرى وله فيه مدائح بديعة ومثل الفقيه أبى الحسن على بن أبى الفتح بن خلف الأموى، ويقول عنه فى كتابه الزهر الباسم:«هو حدقة العلم الناظرة، وحديقة الأدب الناضرة» ويسوق ابن قلاقس فى الكتاب ما كان بينهما من مكاتبات شعرية قبيل رحيله، وله يقول مودعا:
تخذتك من صقلّية خليلا
…
فكنت الورد يقطف من قتاد
وشمتك بين أهليها صفيّا
…
فكنت الجمر يقبس من زناد
وابن قلاقس لا يريد أن يهجو صقلية وأهلها بأنهم شوك وابن خلف وحده هو الورد، ولا أنهم زناد صلد لا يخرج منه شرر وهو وحده الجمر، وكل ما فى الأمر أنه مدحه مودعا وبالغ فى مدحه. ولابن قلاقس أشعار متعددة فى وصف مجالس الشراب بصقلية ووصف المغنين بها والراقصات من مثل قوله:
ومغنّ تناولت يده العو
…
د فعادت بنا إلى الأفراح
بين ريح من المزامير أسرى
…
بين أجسامنا من الأرواح
وصباح قد عقدوا طرر اللّي
…
ل جمالا على الوجوه الصّباح
يبعث الرقص منهم حركات
…
سرقت بعضها طوال الرّماح
وهو يقول إن صوت المغنى وهو يضرب على العود صوت مفرح ونسيم أنغام المزامير من حولهم تسرى فى أجسامهم سريان الأرواح، وراقصات فاتنات تنهدل خصل الشعر على جباههنّ وهن يتثنين ويتحركن حركات رشيقة، وكأنما سرقت الرماح فى أيدى المحاربين بعض
حركاتهن ورشاقتهن. وقد رحل عن صقلية والصلة بين أبى القاسم والدولة صلة طيبة، وبتأثير من الوشايات صودرت أمواله بعد رحيل ابن قلاقس وإقطاعاته وأغرم ما يزيد على ثلاثين ألف دينار، وزار ابن جبير الجزيرة وقد عفى عنه وعاد إلى سابق العهد به، ولذلك يقول ابن جبير عنه حينئذ إنه زعيم أهل الجزيرة من المسلمين وسيدهم. وعاد ابن قلاقس إلى القاهرة سنة 365 قبل تولّى صلاح الدين وزارة العاضد الفاطمى فمدحه ومدح رئيس الدواوين، القاضى الفاضل، وكأنما ظن أن الأحوال فى مصر لا تزال غير مستقرة فرأى أن يزور اليمن، وربما كان الذى حبّبه فى زيارتها صديقه الرشيد بن الزبير الذى كان قد زارها وتقلّد أحكامها وقضاءها فترة كما يقول ياقوت، وفى أثناء عودة ابن قلاقس منها سنة 567 أسلم روحه إلى بارئها بثغر عيذاب على الساحل المصرى للبحر الأحمر وهو ابن خمس وثلاثين سنة.