الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدرسة كانت لها تقاليد متبعة، وفى صبح الأعشى رسالة ديوانية بليغة من العهد الحفصى.
وكثرت الرسائل الشخصية، وهى مسجوعة، وبها-فى الحقب المتأخرة-كثير من التكلف.
وتلقانا بعض مقامات، وهى لا تتناول حياة أديب متسول وخدعه الكثيرة لجذب السامعين، إنما هى موضوعات أدبية لبيان التفنن فى الكتابة الأدبية، وترجمت لثلاثة من الكتاب البارعين أبى اليسر الشيبانى رئيس ديوان الإنشاء فى عهد الأغالبة وإبراهيم الحصرى صاحب زهر الآداب، وابن خلدون الكاتب التونسى الفذ.
[جزيرة صقلية]
3
وتحدثت-فى القسم الثالث من هذا الجزء-عن جزيرة صقلية وجغرافيتها وتاريخها القديم إلى أن فتحها العرب أيام الأمير زيادة الله الأغلبى سنة 212 هـ/827 م وظلوا طويلا يفتحون مدنها وحصونها وينشرون العربية والدين الحنيف فى ربوعها. واستولوا على مالطة سنة 255 هـ/868 م ونشروا بها-مثل صقلية-الإسلام والعربية، ولا يزال أهلها-حتى اليوم- يتكلمون لكنة عربية تونسية دخلها-مع طول الزمن-كثير من التحريف-وغزوا قلوريّة فى جنوبى إيطاليا، وظل للدولة الأغلبية فيها شطر بل أشطار طوال مدة حكمهم. وولى على صقلية للدولة العبيدية ولاة أساءوا السيرة إلى أن وليها للخليفة العبيدى المنصور قائد من خيرة قواده هو الحسن بن على بن أبى الحسين الكلبى سنة 336 هـ/947 م فجعلها وراثية فى أبنائه، وساء حكمهم فى القرن الخامس الهجرى، وثارت صقلية عليهم، واستحالت إلى إمارات طوائف لكل بلدة أمير، واختارت بلرم قائدا من قواد الثورة هو ابن الثمنة، وكان شؤما على الجزيرة كلها فإنه تحارب مع أمير قصريانة وهزم، فاستغاث بالنورمان فى قلوريّة بجنوب إيطاليا، وأغاثه روجار الأول، وسرعان ما استولى على بلرم سنة 464 هـ/1072 م ويحاول الاستيلاء على بقية مدن صقلية وتم له ذلك فى سنة 484 هـ/1091 م ويدور العام فيستولى على مالطة سنة 485 هـ/1092 م. ورأى شعب صقلية العربى يفوق شعبه مدنية وحضارة واتقانا للزراعة ولكثير من الصناعات اليدوية فأخذ يصانعه للإفادة منه مع التنكيل به فى صور شتى، وحاول ابنه روجار الثانى وحفيده غليوم الأول التخفيف من هذا التنكيل الغاشم، ولكن ظل الاضطهاد قائما كما يصور ذلك ابن جبير فى رحلته حين زار صقلية أيام غليوم الأول، وازداد الاضطهاد ضراوة حين استولى على الجزيرة أباطرة الألمان منذ سنة 591 هـ/1194 م واستغاث أهلها بالمستنصر الحفصى سنة 647 هـ/1249 م فراسل فردريك الثانى واتفق معه على إجلائهم إلى إفريقية التونسية. وأجبر فردريك من بقى بمالطة من المسلمين على مبارحتها إلى مدينة أمالفى Amalfi جنوبى إيطاليا وكانت صقلية موزعة بعد الفتح العربى إلى ثلاث ولايات كبيرة، ولكل ولاية وال
يديرها ومعه مساعدون وكل منهم يسمى قائدا ولكل ولاية قاض أو قضاة، وعامل المسلمون المسيحيين معاملة سمحة إلى أبعد الحدود، وحافظوا لهم على كنائسهم وقوانينهم الدينية والمدنية ومحاكمهم الخاصة. وكان بكل ولاية مجموعة من الدواوين للإشراف على نظام الحكم، ومن أهمها ديوان المحاسبة القائم على جمع الضرائب. وكانت صقلية ملأى بالزروع وأشجار الزيتون والفاكهة وبالغنم والخيول، وكانت الصناعات مزدهرة بها وخاصة صناعة المنسوجات وصناعة الورق التى انتقلت إليها من القيروان ونقلتها إلى أوربا لتلهم-فيما بعد-جوتنبرج- اختراع الطباعة. ونلتقى فيها ببعض الزهاد مثل القاضيين ميمون وابن أبى محرز وببعض من ينزعون فى نسكهم منزع التصوف مثل أبى القاسم عبد الرحمن البكرى.
وقد فتح النورمان صقلية الإسلامية حربيا وفتحتهم حضاريا، مما جعل ملوكها يكبّون على تعلم العربية ليقرءوا ذخائرها العلمية، وتعلموا من المسلمين شئون الزراعة والصناعة ونظمهم الادارية والديوانية، واتخذوا العربية فى مراسيمهم الحكومية، ومع ذلك لم تكن إقامة المسلمين لشعائرهم الدينية مكفولة وساموهم غير قليل من الخسف والاضطهاد بشهادة ابن جبير لما شاهده فى الجزيرة. ودائما تنزل الثقافة الإسلامية البلدان المفتوحة مع الجيوش العربية، وهو ما حدث سريعا فى صقلية، وكان بعض أبنائها لا يكتفون بما يأخذون عن شيوخها، فكانوا يرحلون-استزادة فى العلم-إلى القيروان ومدّوا رحلتهم أحيانا إلى المشرق، ورحل إليهم بعض العلماء القيروانيين والمشارقة، ويقول ابن حوقل إنه كان فى بلرم وحدها مائتا مسجد وثلاثمائة معلم. وعنيت صقلية بعلوم الأوائل، وكان نصف سكانها مسيحيين وكانوا فئتين: فئة تتكلم اللاتينية وفئة تتكلم الإغريقية، وكان بين قساوستها من يستطيع الترجمة من اللاتينية والإغريقية إلى العربية مما جعل الأمير إبراهيم بن أحمد الأغلبى حين أسس بيت الحكمة فى عاصمته رقادة وعنى فيه بعلوم الأوائل يستعين ببعض الرهبان الصقليين فى ترجمة بعض المصنفات اللاتينية فى العلوم الرياضية إلى العربية، ونظل نسمع عن إتقان بعض أطبائها من العرب للغة الإغريقية وعن نزول بعض متفلسفة الأندلس بها، وتتردد فى الكتب أسماء لبعض من كانوا فيها من الأطباء والرياضيين والمهندسين والفلكيين.
وعنيت صقلية برواية الدواوين وأمهات الكتب الأدبية كما عنيت بالعلوم اللغوية واشتهر من لغوييها ابن البرّ الذى رحل إلى مصر وحمل منها كثيرا من دواوين الشعراء وأسس بها مدرسة لغوية خصبة، ومن أهم تلاميذه ابن مكى صاحب كتاب تثقيف اللسان، ونزلها ابن رشيق، وقاد فيها بكتابه العمدة فى صناعة الشعر ونقده حركة أدبية نقدية مثمرة. ونشطت بصقلية الدراسات الدينية ومن كبار قرائها فى القرن الرابع محمد بن خراسان، ومن كبار مفسريها ابن ظفر، ومن كبار محدثيها عتيق السمنطارى ومن فقهائها المهمين البراذعي
ومحمد بن يونس التميمى وعبد الحق بن محمد القرشى. وظلت الحياة العلمية مطردة النمو فى عهد النورمان، وكانوا يهتمون خاصة بعلوم الأوائل، ويتكاثر فى عهدهم من ينعت بأنه رياضى أو فلكى أو طبيب، واستدعى روجّار الثانى الجغرافى العربى الإدريسى ليصنف له كتابا فى الجغرافيا، فألّف له كتابين جغرافيين: كبيرا وصغيرا وضمنهما بعض الخرائط، ورسم له خريطة كبرى للعالم على كرة ضخمة من الفضة، وكان أولى للإدريسى أن يقدم هذه الأعمال الجغرافية البديعة لحاكم عربى فى عصره لا لحاكم نورمانى. وتظل العلوم اللغوية والإسلامية ناشطة فى العهد النورمانى، غير أن علماء أعلاما كبارا بارحوا صقلية فرارا من الظلم النورمانى مثل ابن القطاع الصقلى نزيل القاهرة وإليها حمل عن أستاذه ابن البر معجم الصحاح للجوهرى، ومثل ابن الفحام أحد أئمة القراءات نزيل الإسكندرية، ومثل ابن ظفر مفسر القرآن الكريم نزيل حماة بالشام ومثل الإمام الفقيه والحافظ الكبير المازرى نزيل القيروان والمهدية.
ويزدهر الشعر بصقلية فى عهد بنى أبى الحسين الكلبيين: ويسجل لها ابن القطاع مائة وسبعين شاعرا فى كتابه: «الدرة الخطيرة فى المختار من شعراء لجزيرة» ، غير أن الكتاب سقط من يد الزمن فلم يصلنا، ونقل عنه العماد فى الخريدة تراجم لسبعة وأربعين شاعرا، وأضاف إليهم البلنّوبى بن أبى البشر، كما أضاف إليهم اثنى عشر شاعرا من كتاب ابن بشرون المهدوى:«المختار من النظم والنثر لأفاضل أهل العصر» . ونظم شعراء صقلية فى مختلف أغراض الشعر العربى، وعرضت ذلك مفصلا مع الترجمة فى كل غرض لأهم شعرائه، وقد ترجمت فى المديح لابن الخياط وفى الغزل للبلّنوبى وفى الفخر لأبى الحسن الطوبى وفى الوصف لأبى عبد الله بن الطوبى وفى الرثاء لمحمد بن عيسى ولغيرهم فى الزهد والوعظ وفى التفجع والحنين واللوعة ولابن حمديس وأشعاره الرائعة.
وتحدثت عن النثر وكتّابه بصقلية، ويدل تنويه كتب التراجم بما لكتابها من مقامات ورسائل على أنها حظيت فيهما بأعمال قيمة، غير أن الزمن أضاعها، واحتفظ ابن بشرون فى ترجمته لشعرائها ببعض رسائلهم الشخصية وعرضتها مع التعليق عليها، وترجمت لكاتبين من كتابها المبدعين هما ابن الصباغ وابن ظفر. وأضفت ملحقا عن زيارة ابن قلاقس الإسكندرى لصقلية وأشعاره هناك.