المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

‌الفصل الخامس

طوائف من الشعراء

‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

كان كثير من سكان الإقليم التونسى يرحلون عن ديارهم إما طلبا للكسب وابتغاء الرزق وإما طلبا للعلم وابتغاء التعمق فيه وإما طلبا للجهاد فى صقلية أو فى الأندلس وابتغاء الاستشهاد فى سبيل الله، وممن غادر القيروان إلى مجاهد صاحب دانية فى شرقى الأندلس (405 - 436 هـ) للجهاد ضد نصارى الشمال، ابن الصفار السوسى، وحين دخل عليه مدحه بقصيدة يائية حكى فى فاتحتها حوار زوجته معه وقولها له: لمن تتركنى وتترك أطفالك يقول (1):

بكت وشكت واسترجعت وتوجّعت

فظلت لها مسترجعا متباكيا

وقالت أما تنهاك أن تذكر النّوى

نهى قد نهت عنك الصّبا والتصابيا

ومن لصغار من عيال تركتهم

كزغب القطا يبغون طعما وساقيا

ولن يجدوا للعيش بعدك لذّة

ولن يشربوا من بعدك الماء صافيا

فقلت لها إن الذى ليس غيره

إله كفاهم حافظا ومراعيا

وهو يصور ساعة الوداع لزوجته وصغاره وهى تبكى وتتوجع، وهو يبكى، وتقول له ألم ينهك عقلك الذى طالما نهاك عن الصبا والتصابى. وتستعطفه بصغار فى المهد كزغب القطا لم ينبت بعد ريشهم، ولن يطيب لهم عيش بدونه، غير أن نداء الجهاد كان أقوى من نداء الأطفال فقال لها إنّي تركتهم لربى الكافى الحافظ الراعى. وكان شباب القيروان وغيرها من مدن تونس لا يزال يعدّ حقائبه للارتحال إلى المشرق للنهل من أساتذته فى مصر والحجاز والشام والعراق ولم يكن آباؤهم يقفون حجر عثرة فى طريقهم بل كانوا يشجعونهم للنهوض بهذه الرحلات العلمية، رغم ما يشعرون به من فقدهم وما يطوى فى ذلك من شوق وحنين، ومن خير ما يصور ذلك قول على الناسخ يخاطب ابنه وقد سافر إلى مصر وهو صغير السن ابتغاء العلم (2):

(1) الأنموذج ص 266.

(2)

الأنموذج ص 262.

ص: 251

يا دهر مالك لا ترثى لمكتئب

ما بات منك خليّا قطّ من كرب

لم يكف صرفك صرفى عن ذوى ثقتى

حتى تعقّب بالتفريق فى عقبى (1)

ابن وكان أبا لى فى محبّته

أمسى بأرض الفلا فردا بغير أب

أمسيت فى وطنى فى مثل غربته

يا من لمغترب باك لمغترب

والله يا ولدى المجذوب من كبدى

للرّأى ذاك وإن أمسى به عطبى

فما الحياة إلى نفسى بمعجبة

إن لم تجز بى أعلى السبعة الشّهب

وهو يعتب على الدهر أنه لا يبيت يوما خاليا من إحدى كربه وأنه لم يكف نوائبه صرفه عن ثقاته حتى تعقبته فى ابنه البار به فحرمته منه وكأنما ألقت به فى فلاة دون أب يرعاه، ويشعر بفراق ابنه له كأنه أمسى غريبا فى وطنه، وكأن مغتربا يبكى بدموع غزار مغتربا، ويتماسك الأب، أمام فلذة كبده، فيقول له إن رأيك فى الرحلة هو الصواب وإن كان فيه عطبى وتلفى، ويضع نصب عينيه طموحه الهائل، فالحياة لا تعجبه ولا ترضيه إلا إذا تعدّت به أعلى الشهب السيارة الساطعة. ويعلق ابن رشيق على أبيات هذا الشاعر فيقول:«هذا كلام يظهر عليه التوجع والتفجع، وتشوبه رأفة الإشفاق، ورقة الاشتياق، حتى تدرّ عليه الجفون بحلب الشئون (الدموع). وليس يخفى على أحد ممن يعرف الكلام حسن هذا التخريج والتلطف فى الاعتذار عما فعل الغلام. وإن هذا الشعر ليهوّن رزيّة من أصابه مثل هذا المصاب فى ولده، حتى يسهل على الآباء فقد الأبناء ويجسّر الغلمان على مفارقة الأوطان» . وممن تلهفوا على وطنهم تلهفا شديدا زمن الدولة الصنهاجية ابن عبدون الوراق السوسى، وسنخصه بكلمة. ولعلى الحصرى الشاعر المبدع قطعة يتشوق فيها إلى القيروان وتونس حين إقامته بالأندلس، وهو فيها محزون حزنا شديدا وفيها يقول (2):

على العدوة القصوى وإن عفت الدار

سلام غريب لا يئوب فيزدار

وحقّ بكاء العين والقلب مسعد

لمن بات مثلى لا حبيب ولا جار

شفى الله داء القيروانين بعدنا

فقد مرضت للقيروانين أبصار

وكيف غناء الطّير فى غير أيكها

وقد بعدت منها فراخ وأوكار

ألا يا بروقا لحن من نحو صبرة

وليس لها إلا دموعى أمطار

عسى فيك من ماء الحنيّات شربة

ولو مثل ما يوعى من الماء منقار

وهو يحيى العدوة القصوى: القيروان وديارها ويصرّح بأنه يائس من العودة بعد أن أنزل بها

(1) صرفك: نوائبك وحدثانك.

(2)

الذخيرة 4/ 260.

ص: 252

أعراب سليم وهلال الدمار، وإنه ليبكى بكاء لا ينقطع للوطن وما صار إليه من الوحدة الموحشة فلا حبيب ولا جار، ويدعو للقيروانين: القيروان وتونس أو القيروان وصبرة المذكورة فى الأبيات وكانت بلدة كبيرة قريبة منها، يدعو لهما أن يزايلهما ما غشى الأبصار فيهما من مرض الهدم والتخريب. ويعجب أن تغنى الطير فى غير أيكها وقد بعدت عنها أوكارها وفراخها الصغار، إنه وأمثاله من شعراء العدوة القصوى لا يستطيعون الغناء إلا أن يكون بكاء وأنينا.

وتلوح له بروق من نحو صبرة وهى بروق خلب، ليس فيها أمطار إلا دموعه، ويتمنى جرعة ماء من حنيات تونس ولو قدر ما يحمل منقار طير من الماء حتى يشفى به أو صاب نفسه وفؤاده. ويقول الشاعر الحفصى ابن عريبة يتشوق إلى المهدية وأهله بها (1):

أقول لركب قافل عن معرّس

بجمّة تردى بالحمول مشاحجه (2)

لك الله أمتعنا عن البلد الذى

أكابره أسلافنا وأبالجه (3)

وعن وطن لولا العلا وطلابها

لعزّ على مثواى أنّى خارجه

وشاطئه أنّى تنوّع حسنه

وخضرمه أنّى تدفّع مائجه

سلام على المهديّتين ففيهما

أب بنت عنه قاصر الخطو هادجه (4)

وهو يقول لركب راجع من منزله آخر الليل بجمة جارة المهدية، وبغاله تضرب الأرض بحوافرها لثقل ما تحمله: لك الله أخبرنا وأمتعنا عن البلد الذى يتميز رجاله ببلج وجوههم وطلاقتها وبشرها، وحدثنا عن هذا الوطن الذى اضطررنا إلى تركه فى طلب العلا وعن شاطئه المتنوع الحسن وخضرمه أو بحره الذى تتدافع أمواجه. ويهدى المهدية وأختها (صبرة) سلامه، ففيهما أبوه الذى تركه واهن العظم قاصر الخطو يتهدج فى مشيه مرتعشا، وإنه ليمتلئ عليه برا وشفقة. ويقول حمودة بن عبد العزيز أحد رجالات الدولة الحسينية المتوفى سنة 1202 هـ/1788 م متشوقا فى الغربة إلى أهله بتونس (5):

مللت دهرى وملّتنى حوادثه

فبعدكم ليس لى فى العيش من أرب

لهفى على زمن لا بل على سكن

عهدتهم منتهى الآمال والطّلب

كم ليلة بعدهم قد بتّ أسهرها

أشابت الرأس منى وهى لم تشب

كأنّ أفلاكها من طول ما انقلبت

ألقت عصاها لما لاقت من التعب

(1) الحلل السندسية 2/ 505 ومجمل تاريخ الأدب التونسى ص 197.

(2)

تردى: تضرب الأرض بالحوافر. المشاحج: البغال

(3)

أبالجه جمع أبلج: الناضر وجهه بشرا.

(4)

الهادج: الماشى متثاقلا فى ضعف وارتعاش.

(5)

مجمل تاريخ الأدب التونسى ص 258.

ص: 253

وهو يقول إنه ملّ دهره وما تقلب فيه من أحداث السياسة حتى لم يعد له بعد أهله فى العيش من أرب. ويذكر أيام أن كان يقضى زمنه مع أهله وهم كل مناه من دنياه، وقد أصبح بعدهم يعيش مسهدا مفكرا فيما بلته به الليالى، ويتخيل كأن أفلاكها من طول ما سارت ألقت عصاها واستراحت لا تبرح ولا تريم لشدة ما عانت من التعب والمشقة. وحرى بى فى ختام حديثى عن الغربة وتشوق القيروانيين والتونسيين فيها إلى ديارهم أن أشير إلى أنهم كثيرا ما تشوقوا إلى الديار التى بارحوها إلى وطنهم، ومن أهم الأقطار التى كانت تملأ نفوسهم بها صبابة بما تمتعوا به فيها وبمناظرها الطبيعية الفاتنة مصر، وكان الكاتب الرقيق الذى مرت ترجمته كثيرا ما يكلفه حكام الدولة الصنهاجية بسفارات إليها، وله رائية يتشوق فيها إليها وإلى ساكنيها أشاد بها ياقوت فى ترجمته، وأهم منها قصيدة لأبى الفضل يوسف بن محمد المعروف باسم ابن النحوى، وكان قد حج، وفى رجوعه افتتن بمصر وبنيلها وطبيعتها فنظم تلك القصيدة يصور تشوقه إلى ديارها ومشاهدها الفاتنة وفيها يقول (1):

حدّثانى عن نيل مصر فإنى

منذ فارقته إلى الماء صادى

والرياض التى على جانبيه

واجعلاه من الأحاديث زادى

إن مصرا لها معان لعمرى

قد تأبّت على جميع البلاد

هذه الأرض إنما هى ناد

مصر من بينها سراج النادى

وهو منذ فارق مصر ونيلها الكوثر-كما يقول شوقى-ظامئ إلى جرعة ماء منها، وقد خلبته رياضها وورودها ورياحينها، ويقول إن مصر حظيت بمعان ومشاهد لم تحظ بها سائر البلاد، ويتصور المعمورة جميعها ناديا ومصر سراج النادى. وهى تحية كريمة لمصر من تونسى يوثّق العلاقة بين الشعبين من قديم.

وتكثر الشكوى على ألسنة القيروانيين والتونسيين، مثلهم فى ذلك مثل لداتهم من شعراء الأقاليم العربية، فهم يشكون مثلهم من الدهر وما يصيبهم من بلائه وأرزائه، ويشكون من الإخوان أنانيتهم وعدم وفائهم، ومن طريف شكواهم من الدهر وصروفه ونوائبه قول إبراهيم الحصرى صاحب «زهر الآداب» وغيره من التآليف الرائعة والتصانيف الفائقة كما يقول ابن (2) بسام:

تلاحظنى صروف الدّهر شزرا

كأنّ علىّ للأيام وترا

وفى عينى دموع ليس ترقا (3)

وفى قلبى صدوع ليس تبرا

(1) الخريدة (قسم شعراء المغرب-طبع تونس) 1/ 325.

(2)

الذخيرة القسم الرابع ص 594

(3)

رقأ الدمع: جفّ بعد جريانه.

ص: 254

أقلّب فى الدّجى طرفا كليلا

إذا جيب الظلام علىّ زرّا

ولو نشر الذى أطوى عليه

على من تحتويه الأرض طرّا

أصمّ مسامع الدنيا عويلا

وهزّ جوانح الأيام ذعرا

وهو يشكو شكوى مرة من صروف الدهر وكيف أنها تنظر إليه غاضبة كأن لها عنده ثأرا وما تزال النوائب تنزل به وما تزال دموعه لا تجفّ أبدا، وقد تصدّع قلبه، ولا يبرأ من صدوعه أبدا، وأفّ لليل، فإنه لا يزال مسهدا فيه كلما زرّ عليه رداء الظلام، ويقول إن ما يطوى عليه من الهموم لو وزع على جميع من تحتويهم الأرض من الأنام لأصموا مسامع الدنيا عويلا وأنينا ولهزّوا ضلوع الأيام ذعرا وفزعا ما بعده فزع. ويقول تميم بن المعز شاكيا من الزمان وأرزائه (1):

وذى عجب من طول صبرى على الذى

ألاقى من الأرزاء وهو جليل

يقولون ما تشكو فقلت متى شكا

شبا السّيف عضب الشّفرتين صقيل (2)

وإن امرءا يشكو إلى غير نافع

ويسخو بما فى نفسه لجهول

عذابى أن أشكو إلى الناس أننى

عليل ومن أشكو إليه عليل

وهو يقول إن الناس يتعجبون من طول صبرى على ما يصيبنى من الرزايا والمصائب العظيمة، ويسألوننى ممّ تشكو، وأجبتهم هل يشكو حد السيف القاطع، ولمن أشكو؟ إن من يشكو إلى من لا يستطيع نفعه ويسرّ إليه بما فى نفسه دون فائدة لجهول بالناس وحقائقهم، وإنه ليعذبنى أن أشكو إلى الناس أننى عليل ومن أشكو إليه مثلى عليل ويقول ابن خلدون فى شكوى الزمان (3):

إلى م مقامى حيث لم ترد العلا

مرادى ولم تعط القياد ذلول

ويذهب لى ما بين يأس ومطمع

زمان بنيل المعلوات بخيل (4)

أما للّيالى أن تردّ خطوبها

ففى كبدى من وقعهنّ فلول

يروعنى عن صرفها كلّ حادث

تكاد له صمّ الصّلاد تزول (5)

وحتى ابن خلدون يشكو من أن العلا لا تعطيه ما يريد وأنه لا يجد فى دنياه ذلولا تعطيه القيادة، ولا يزال بين يأس وطمع أو أمل، والزمان بخيل عليه بنيل المعالى، ويقول أما آن لليالى

(1) المجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 169.

(2)

شبا السيف: حدّ طرفه. عضب: قاطع.

(3)

نفس المصدر ص 218.

(4)

المعلوات: المعالى.

(5)

الصلاد جمع صلد: الصخرة الصلبة.

ص: 255

أن تردّ خطوبها وكوارثها عنه وإن فلولها وشررها ليتضحان فى كبده، وإن كثيرا من الأحداث لينزل به مما تكاد يتشقق له الصخر الصلب. ويقول ابن سعيد الحجرىّ فى العهد الحسينى المتوفى سنة 1785 للميلاد (1):

يطول علىّ الليل حتى كأنما

ليالىّ من فرط الجوى ليلة الحشر

ويزعجنى الإصباح حتى كأنما

نهارى سيف سلّ من حيث لا أدرى

خليلىّ إن الدهر أبدى إساءتى

وأظهر ما قد كان أضمر من مكر

وما ضرّ مثلى أن تلظّى بناره

وهل ضرّ إبريزا تلظّيه بالجمر

فليله يطول عليه من فرط الوجد حتى كأنه ليلة الحشر، ويزعجه الصباح حتى كأنما سيف نهاره سلّ عليه من حيث لا يدرى. ويخاطب صاحبيه، فالدهر قد أظهر ما كان يضمر من مكر وأساء إليه إساءة بالغة، ويتماسك، ويجمع إرادته، ويعلن أنه لن يضره التلظى بناره، وهل يضر الذهب الخالص التلظى بالجمر ولهيبه؟ !

وعلى نحو ما أكثر القيروانيون والتونسيون من الشكوى سواء من الدهر أو من الناس أكثروا من العتاب وما قد يجر إليه من الاستعطاف، وهما بابان قديمان فى الشعر العربى، ومن طريف ما للقزاز من عتاب لأحد أصدقائه وكان قد أولم وليمة فى ختان لابنه وابن أخيه ولم يدعه سهوا (2):

وا حسرتا مات أترابى وأقرانى

وشتّت الدهر أصحابى وأخدانى

وغيّرت غير الأيام خالصتى

والمنتضى الحرّ من أهلى وإخوانى

وصار من كنت فى السّراء أذكره

بل لست أنساه فى الضّرّاء ينسانى

وهو يتحسر على أصدقائه جميعا، إذ غيّرت الحوادث أخلصهم وأصفاهم وأعزهم، وصار من كان يذكره فى السراء ولا ينساه فى الضرّاء ينساه كأن لم يكن بينهم ودّ ولا صداقة. ومن طريف ما نقرؤه من عتاب فى عصر الدولة الصنهاجية عتاب خديجة بنت أحمد بن كلثوم المعافرى لأخيها، وكانت شاعرة مجيدة وأعجبت بشاعر أندلسى نزل بديارها، وشبّب بها، فغار لذلك إخوتها فكتبت إلى كبيرهم (3):

أأخى الكبير وسيدى ورئيسى

ما بال حظّى منك حظّ نحيس

(1) المجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 256.

(2)

الأنموذج ص 368.

(3)

الأنموذج ص 124 والخريدة 1/ 327.

ص: 256

أبغى رضاك بطاعة مقرونة

عندى بطاعة ربّى القدّوس

فإذا زللت وجدت حلمك ضيّقا

عن زلّتى أبدا لفرط نحوسى

يا سيّدى ما هكذا حكم النّهى

حقّ الرئيس الرفق بالمرءوس

وإذا رضيت لى الهوان رضيته

وجعلت ثوب الذل خير لبوس

وخديجة تعاتب أخاها عتابا رقيقا فهو أخوها وسيدها ورئيسها وتشكو من حظها السيئ معه، مع أنها تبغى رضاه وتطيعه طاعتها لربها القدوس، فإذا ودّت شاعرا وجدت حلمه لا يسع ودّها ولا يغفره لها لفرط نحوسها، وتستعطفه فليس هذا حكم العقل ولا حق المرءوس على الرئيس من الرفق، وتحاول أن تميل قلبه إليها، فإذا كان قد رضى لها الهوان رضيته ولم تخلع عنها ثوب الذل يوما. والقطعة رقيقة منتهى الرقة. وخديجة بجانب زينب التيجانية الشاعرة التى مر ذكرها فى الحديث عن الغزل رمزان قويان لمشاركة نساء القيروان وتونس فى الحركة الأدبية بالعصور الماضية. ويقول ابن رشيق معاتبا (1):

أجدّك لم أجد للصبر بابا

فتدخله على سعة وضيق

وإن أصبر فعن إفراط جهد

وإن أقلق فحسبك من قلوق

سأعرض عنك إعراضا جميلا

وأبدى صفحة الوجه الطّليق

ولا ألقاك إلا عن تلاق

بعيد العهد بالذكرى سحيق

فقد أعنته صديقه حتى لم يعد يجد للصبر بابا، ومع ذلك إن استطاع يوما الصبر فعن فرط جهد، وحرى به أن يقلق أشد القلق، ويقول له سأعرض عنك إعراضا جميلا، وسألقاك بوجه بشوش حين يتصادف اللقاء، وقد بعد العهد بالذكرى بعدا شديدا. ويقول على الحصرى معاتبا بعض خلاّنه (2):

برمت بما ألقاه ممن أوامق

وأوذيت حتى لا أرى من أصادق (3)

إذا ما امرؤ أصفيته الودّ واثقا

بخلّته لم تصف منه الخلائق (4)

فيا ليت شعرى هل إلى الناس كلهم

أنا مذنب أم ليس فيهم موافق

فلا أنا مسرور بمن هو واصلى

حذارا ولا آسى على من أفارق

وإنّي لمن يبغى انتقاصى لقامع

وإنّي لمن يبغى ودادى لوامق

(1) الأنموذج ص 441.

(2)

المجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 160.

(3)

أوامق: أتبادل معه الود.

(4)

خلته: صداقته.

ص: 257