الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - الزهد والتصوف
ازدهر الدين الحنيف فى جميع أنحاء ليبيا منذ القرن الأول الهجرى، وأخذت مساجده تبنى فى كل مكان: فى الحضر والبدو، ويرمز إلى ذلك المسجد الجامع الذى بناه فاتح ليبيا العظيم عمرو بن العاص فى طرابلس أمام باب قبيلة هوارة، وتنافس ولاة طرابلس وليبيا بعده فى بناء المساجد وخاصة ولاة الدولة الأغلبية، وخلفتها الدولة العبيدية، فعنى المهدى ببناء جامعها المتسع الأعظم، وبنى ابنه القائم جامعا حسن البناء فى مدينة أجدابية. وكان الشعب يشارك فى بناء الجوامع والمساجد فاكتظت بها ليبيا، وكانت جميعا بيوتا كبرى للعبادة والنسك، وكانت حلقات الفقهاء والعلماء فيها أشبه بمدارس للتعليم والدراسة، واشتهر كثيرون فى جميع أنحاء ليبيا بأنهم كانوا زهادا فى المتاع الدنيوى وأنهم كانوا عبّادا نسّاكا ينتظرون ما عند الله من ثواب الآخرة، ويسوق المالكى فى رياض النفوس وابن الدباغ فى معالم الإيمان والتجانى فى رحلته المشهورة وأحمد النائب فى نفحات النسرين والمنهل العذب والطاهر الزاوى فى أعلام ليبيا أسماء عشرات من زهاد ليبيا ونساكها على مر القرون.
وممن نذكره من زهاد ليبيا ونساكها عبد الله الشعّاب المتوفى بعهد الأغالبة سنة 243 للهجرة ولد بطرابلس ونشأ بها، وكان نجارا لا يأكل إلا من كسب يده، وتمّم بناء مسجد كان البناء فيه توقف، وسكنه وعاش يتعبّد لربه فيه، ونسب إليه إذ سمى بمسجد الشعاب ويقول مترجموه إنه كان من كبار الصوفية والنساك الورعين، ومن هؤلاء النساك عبد الجبار السّرتى المتوفى سنة 281 كان يختم القرآن مرة كل ليلة وختمه فى مسجده أكثر من ألف ختمة، ومنهم عبد الله بن إسماعيل البرقى المتوفى سنة 317 وكان يختم القرآن يوميا، ومنهم سعيد بن خلفون المتوفى سنة 362 وكان من أكابر الصوفية واقفا على المعارف اللدنّية والقدسية وكان يسكن بمسجد منسوب إليه فى طرابلس، وكان للناس اعتقاد فيه حتى لقبوه بلقب المستجاب وأكثروا من الحديث عن كراماته، وكان يعاصره بطرابلس ابن زكرون على بن أحمد بن زكريا ابن الخطيب المتوفى سنة 370 وكان يتخذ مسجد المجاز فى بلدته مسكنا ومأوى له، وكان عابدا ناسكا ورعا، وكان يعاصرهما أبو نزار خطاب البرقى المتوفى سنة 373 وكان يعاشر الصوفية وينزع منزعهم، وكان مثل صاحبيه يسكن جامعا إلى الشرق خارج المدينة. ومن كبار الزهاد بطرابلس فى القرن الخامس الهجرى أبو الحسن السيقاطى المتوفى سنة 420 للهجرة وكان يتعبد لربه بمسجد سيقاطة على ساحل طرابلس. وأبو مسلم مؤمن بن فراج الهوارى المتوفى
سنة 442 للهجرة وله مسجد كان يتعبد فيه ويدرس لطلابه منسوب إليه.
ويتكاثر زهاد ليبيا ونسّاكها ومتصوفتها فى القرون التالية، وهم أكثر من أن نحصيهم ونعدّهم عدّا، وقد أخذ نفر منهم-منذ القرن السابع-ينتمى إلى الطرق الصوفية السنية، وطبيعى أن لا ينتسبوا إلى الطرق الصوفية الفلسفية عند أبى مدين وابن عربى وابن سبعين وأضرابهم إذ لم يكن أهل ليبيا يأخذون أنفسهم بشئ من الفلسفة أو التفلسف يفسح لهذه الطرق بينهم، ونظن ظنّا أن بعض زهادها ونسّاكها تبع الطريقة الشاذلية الصوفية (1) السنية التى أخذت تشيع فى تونس ومصر منذ أواسط القرن السابع الهجرى حين أسسها بتونس أبو الحسن الشاذلى، ثم غادرها إلى القاهرة، وكان من أهم أتباعه فيها ابن عطاء الله السكندرى الذى اشتهر بحكم له بديعة. ويلقانا من كبار أتباع الطريقة الشاذلية فى القرن التاسع الشيخ زروق المولود بمدينة مصراته شرقى طرابلس سنة 846 للهجرة، وقد رحل إلى القاهرة ودرس بالأزهر وأخذ عن علمائه، ويبدو أنه اعتنق الطريقة الشاذلية حينذاك، وكان فقيها مالكيا ضليعا وله مؤلفات مهمة فى الفقه المالكى، وأكثر مؤلفاته فى التصوف وبخاصة فى الطريقة الشاذلية وله فيها مخطوطة بدار الكتب المصرية بعنوان أصول الطريقة الشاذلية، ومخطوطة ثانية شرح فيها حزب الشاذلى المسمى بحزب البحر، ويقال إن له ستة عشر شرحا لحكم ابن عطاء الله السكندرى، وطبع أحد هذه الشروح بالقاهرة مرارا، وطبع له فى القاهرة كتاب بعنوان قواعد التصوف. وتوفى زروق بمصراته مسقط رأسه سنة 899 للهجرة.
ويلقانا بعده من أتباع الطريقة الشاذلية الخروبى محمد بن على المتوفى سنة 963، وكان أبوه من تلامذة الشيخ زروق، وعنه أخذ الطريقة الشاذلية، وتوفى فرعته أمه وكانت سيدة صالحة، فلقنته كثيرا من المدائح النبوية والتراتيل الدينية، وكان لها ابن عمة شاذليّا، فدرس عليه الخروبى مسالك الطريقة الشاذلية وحكم ابن عطاء الله السكندرى، واندمج روحيّا فى تلك الطريقة طوال حياته، وله شرح لحكم ابن عطاء الله، وفى دار الكتب المصرية له تفسير مخطوط كبير. ومن أكبر أتباع الطريقة الشاذلية فى القرن العاشر الهجرى عبد السلام الأسمر المولود بمدينة زليطن شرقى طرابلس ولبدة سنة 880 للهجرة، وكان صوفيا مجذوبا فى حب ربه، وكانت تعتريه حالات وجد وهيام شديدة واستخدم فى حلقاته ومجالسه الدف والبندير والغناء والرقص، مما جعل كثيرين من معاصريه النساك ينتقدونه نقدا شديدا، واضطره ذلك إلى الخروج عن بلده مرارا إلى جهات مختلفة فى ليبيا وفى إفريقية التونسية، واستقر أخيرا فى زاويته بمسقط رأسه زليطن إلى أن توفى سنة 981 للهجرة، وكان يقرأ لأتباعه فى الزاوية كتبا مختلفة فى التوحيد
(1) انظر فى هذه الطريقة ومؤسسها أبى الحسن الشاذلى وتابعه ابن عطاء الله السكندرى كتابنا فى هذه السلسلة عن مصر.
والفقه المالكى، كما كان يقرأ لهم حكم ابن عطاء الله السكندرى، وله مؤلفات مختلفة فى التصوف، وكان له مريدون كثيرون لزموه فى حياته من بيته مثل ابنه عمران ومن غير بيته مثل إبراهيم بن على العوسجى المتوفى سنة 998 ومثل كريم الدين البرموني المصراتى المتوفى بأخرة من القرن العاشر الهجرى وله كتاب فى أستاذه. ويتكاثر الزهاد والصوفية فى ليبيا طوال العصر العثمانى، وتتكاثر زواياهم وتعم فى البلاد الطريقة الشاذلية، وتزاحمها بعض الطرق الصوفية السنية، ولكن تظل لها الغلبة.