الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تسعين عاما لم يكن
…
فيها لنا أحد منازع
عبثت بنا أيدى الزما
…
ن وأحدثت فينا البدائع
وحار مرخّمة أى يا حارث، وهو يشكو من أنه يبيت مسهدا ودموعه تهمى لا تتوقف لسقوط قابس فى أيدى الموحدين وانتهاء حكم دولتهم من بنى جامع الهلاليين، ويقول إنه من الشم العظام الذين شادوا العلا ورفعوها إلى السماء أبناء جامع الهلاليين الذين ملكوا مدينة قابس بسيوفهم الحادة القاطعة تسعين عاما متصلة لم ينازعهم فيها أحد، وأخيرا عبثت بهم أيدى الزمان فأخرجتهم من قابس وتركوها إلى الأبد. ويبكى الدولة الحفصية فى أواخر أيامها وحاضرتها تونس محمد بن عبد السلام وسنخصه بكلمة بعد ابن شرف.
ابن (1) شرف القيروانى
هو أبو عبد الله محمد بن أبى سعيد بن شرف الجذامى الأجدابي المولود بالقيروان حوالى سنة 390 ويبدو من نسبته إلى قبيلة جذام أنه من أبنائها إما صليبة وإما ولاء، كما يبدو من تلقيبه بالأجدابى أن أصل أسرته من أجدابية بليبيا ونزلت القيروان وعلى كل حال هو قيروانى المولد والمنشأ والمربى، ويذكر ياقوت فى صدر ترجمته له أنه درس على أبى الحسن القابسى وأبى عمران الفاسى. وكان القابسى شيخا جليلا من شيوخ القيروان فى الفقه والتفسير والحديث، وتوفى سنة 403 فلزم تلميذه أبا عمران الفاسى يأخذ عنه ما عنده كما لزم القزاز عالم النحو واللغة بالقيروان فى زمنه وأيضا لزم أبا إسحاق إبراهيم الحصرى المتوفى سنة 413 صاحب زهر الآداب، وكان حبيبا إلى نفوس شباب القيروان قريبا إلى قلوبهم، فكان يجتمع معهم عنده وينهل من معارفه الأدبية الكثيرة. وتفتحت ملكته الأدبية مبكرة، وألف فى نقد الشعراء منذ الجاهلية مصنفا موجزا وصف كثيرين فيه وصفا مجملا سماه «رسائل الانتقاد» وهو أشبه بمقامة.
ويبدو أنه أخذ يحظى بمكانة مرموقة فى الشعر مما جعله يتعرف على رئيس ديوان الإنشاء للمعز بن باديس الصنهاجى على بن أبى الرجال المتوفى سنة 426 هـ/1035 م وأعجب بمدائحه فيه، فرأى أن يقدمه إلى المعز، ونال استحسانه، وأصبح من شعراء الدولة يتغنى بانتصاراتها على
(1) انظر ترجمة ابن شرف فى الذخيرة 4/ 169 وما بعدها والخريدة 2/ 224 ومعجم الأدباء لياقوت 2/ 94 والأنموذج ص 346 والمجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 150 و
ابن شرف القيروانى
للدكتور طه الحاجرى (طبع بيروت).
قبائل زناتة ولواتة، ويغدو على المعز فى المناسبات المختلفة بمدائحه مع قرينه ورفيقه ابن رشيق، وكان المعز أديبا ويعقد ندوات يحضرانها ويحضرها بعض العلماء والأدباء، وأصبحا شاعرية المقربين، وجرّ ما ينظمانه فى مديحه إلى شئ من المنافسة بينهما، وجرّت المنافسة إلى شئ من الجفوة ثم الخصومة، وفزعا أحيانا إلى التهاجى وأخذ كل منهما يتعقب سقطات صاحبه، ويكتب فى ذلك رسائل وخاصة ابن رشيق. وكثيرا ما كانا يعودان إلى التصافى والمودة-وبينما هم فى ذلك إذا بالزحفة الهلالية تدمر القيروان فيتركها الشاعران مع المعز إلى المهدية، وسرعان ما ينزلان صقلية، ويظل بها ابن رشيق، أما ابن شرف فيرحل عنها مع أسرته إلى الأندلس، ويبدو أنه لقى مع أطفاله الصغار عنتا فى رحلته بحرا وبرّا، ويصورهم فى بعض شعره حماما ضلّ أوكاره وكلما أفزعهم شئ تزاحموا على ضلوعه، وحضنه لا يسعهم-إذ كانوا تسعة، فهذا يثبت عليه وذاك يزلق عنه، وهو حان مشفق عليهم. وينزل المرية فى الأندلس برحاب المعتصم بن صمادح ويمتدحه وينال عطاياه ويرسل ببعض قصائده إلى المعتضد أمير إشبيلية، وظل ينتقل بين أمراء المدن الأندلسية ببلنسية ومرسية وبطليوس وطليطلة والوزير ابن السقاء بقرطبة وينال عطاياهم إلى أن توفى سنة 460 هـ/1068 م. ولم يكن ابن شرف شاعرا فحسب، بل كان أيضا صاحب شعور رقيق رقة مفرطة، كما كان صاحب حس مرهف إلى أبعد حد، ويتضح ذلك فى وصفه لنكبة القيروان سنة 449 هـ/1058 م حين نزل بها الأعراب الهلاليون، وأخذوا يفتكون برجالها ويسبون نساءها ويهدمون دورها ويأتون على كل ما كان بها من مظاهر الحضارة والعمران، وله فيها وفيما نزل بها وداهمها من الخراب قصائد رائعة، يقول فى إحداها- وهى رائية-إنه لم يبق بها سراج مضئ سوى النجوم ولم يعد ينطق فيها خليط معاشر ولا عاد يرى فيها أحد من نسائها الجميلات فقد رحلن عنها وأصبحن يبتن على فرش الحصا يتغطين بأسمال بالية. ومن رائع تصويره لما حلّ بالقيروان من عدوان هؤلاء الأعراب الجفاة يوم غزوهم لها ويصور هذا اليوم الأسود قائلا:
بعد يوم كأنما حشر الخل
…
ق حفاة به عوارى رجلى
ولهم زحمة هنالك تحكى
…
زحمة الحشر والصحائف تتلى
وعجيج وضجّة كضجيج ال
…
خلق يبكون والسرائر تبلى (1)
من أيامى وراءهن يتامى
…
ملئوا حسرة وشجوا وثكلا (2)
(1) فى القرآن فى وصف يوم القيامة أنه يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وتختبر.
(2)
أيامى: جمع أيّم: العزب من الرجال والنساء. ثكلا: فقدا للولد
وثكالى أراملا حاملات
…
طفلة تحمل الرّضاع وطفلا (1)
لقد كان يوما عصيبا لا كمثله يوم، يوما حشر فيه أهل القيروان حفاة عراة راجلين، يتدافعون فى زحام رهيب كزحام الحشر يوم البعث حين تتلى الصحائف، وصياح وضجيج وبكاء من كل جانب كأنه يوم الحشر حقا يوم تبلى وتبدو السرائر، ونساء أيامى غير متزوجات اكتظوا حسرة وحزنا وثكالى فاقدات لأزواجهن أرامل مرضعات يحملن طفلات أو أطفالا. ويستمر ابن شرف باكيا ما نزل بالقيروان قائلا:
نادبات، عفراء تسعد سعدى
…
وسعاد تجيب بالنّوح جملا (2)
ليس منهن من تودّع جارا
…
لا، ولا حرمة تشيّع أهلا
فإذا القفر ضمّهم فوّق الدّه
…
ر لهم غير ذلك النبل نبلا (3)
من ثعابين حاملين نيوبا
…
عصلا: ذابلا ونبلا ونصلا (4)
وشياطين رامحين يلاقو
…
ن بجون الفلا مساكين عزلا (5)
وهن نادبات، عفراء تساعد سعدى فى الندب والبكاء وسعاد تجيب جملا بالنواح والعويل، وليس منهن من تقف لتودع جارا ولا سيدة تودّع أهلا، وإذا الخلاء ضمهم صوّب الدهر لهم نبلا غير ذلك النبل من ثعابين حاملين نيوبا صلبة: رماحا ونبالا ونصالا، وشياطين تطعن بالرماح فى سود الفلوات، مساكين عزلا دون سلاح. ويبكى ابن شرف رجال القيروان الذين ولوا منها فرارا، قائلا:
وإذا نجّت المقادير منهم
…
راحلا بالخلاص يحمل رحلا (6)
لقى الهون والمذلّة أنّى
…
كان من سائر البلاد وحلاّ
وترى أشرف البريّة نفسا
…
ناكسا رأسه يلاطف نذلا
مزّقوا فى البلاد شرقا وغربا
…
يسكبون الدموع هطلا ووبلا (7)
والرجال إن نجت المقادير منهم راحلا ومعه رحله وما استصحبه فيه من الأوعية لقى الهوان والذل أنى كان وأين حل، وترى أشرف البرية وأعزها نفسا ناكسا رأسه يلاطف أحد هؤلاء
(1) ثكالى جمع ثاكلة: فاقدة الولد.
(2)
عفراء وسعدى وسعاد وجمل أسماء نساء.
(3)
فوّق: سدّد.
(4)
عصلا معوجّة يريد صلبة. ذابلا: رمحا دقيقا.
(5)
رامحين: يحملون الرماح، جون: سود من كثرة الغبار.
(6)
الرحل: ما يحمل على الدابة للركوب أو من متاع وأثاث.
(7)
مزّقوا: تفرقوا. هطلا: متتابعة، وبلا: منهمرة.