المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

المقابل لإفريقيا ثم خرائط لسواحل البحر الأسود والساحل الجنوبى لآسيا الصغرى والشام ومصر وخريطة لليونان وجزر الأرخبيل وكريت وساحل إفريقيا المقابل لها، وخريطة لبرقة وطرابلس وتونس. وفى أوكسفورد خريطة للعالم رسمها أحد أبناء الأسرة سنة 979 هـ/1571 م. ويذكر كراتشكوفسكى خريطة للعالم لأحد أبناء الأسرة سنة 986 هـ/1579 م. وكان آخرهم محمد بن على الشرفى الصفاقسى وله خريطة للعالم رسمها سنة 1009 هـ/1600 م. وتدل هذه الخرائط على أن خريطة الإدريسى تحولت عند هذه الأسرة إلى أطالس وخريطة حائطية، وهو بلا ريب عمل جغرافى جليل لتونس.

‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

(1)

مرّ بنا حديث عن نشأة علوم اللغة والنحو بالقيروان وأنها اعتمدت على بعض رواة اللغة والشعر مثل أمان بن الصمصامة بن الطرماح، كما اعتمدت على بعض نحاة كوفيين وافدين مثل قتيبة الجعفى وعياض بن عوانة، وسرعان ما ظهر جيل قيروانى خالص يعنى باللغة والشعر مثل أبى محمد عبد الله بن محمود المكفوف المتوفى سنة 308 هـ/920 م وأصله من سرت بليبيا، ويقول القفطى: «كان من أعلم خلق الله تعالى بالعربية والغريب والشعر وتفسير المشروحات وأيام العرب وأخبارها ووقائعها. . وله كتب كثيرة أملاها فى اللغة والعربية والغريب، وله كتاب فى العروض يفضله أهل العلم على سائر الكتب المؤلفة فيه لما بيّن فيه وقرّب، وعليه قرأ الناس المشروحات، وإليه كانت الرحلة من جميع إفريقية والمغرب، وله أشعار فصيحة وأراجيز غريبة، وله كتاب فى شرح صفة أبى زبيد الطائى للأسد جوّد فيه وحسّنه. وكان يعاصره عبد الملك بن قطن المهرىّ القيروانى شيخ أهل اللغة والعربية وراوى القوم وعميدهم ورئيسهم كما يقول القفطى وكان من أحفظ الناس لأنساب العرب وأشعارهم ووقائعهم وأيامهم، وكانت الأشعار المشروحة تقرأ عليه مجردة من الشرح فيشرحها ويفسر معانيها، فلما دخلت هذه الأشعار مشروحة إلى القيروان نظر طلبة العلم من العربية فيها فلم يجدوا فى شرحه خلافا لما قال أصحاب الشروح ولا وجدوا عليه فى روايته وشرحه اللغوى شيئا من الخطأ، وهو

(1) راجع فى تراجم هذه الموضوعات طبقات النحويين واللغويين للزبيدى وإنباه الرواة للقفطى ومعجم الأدباء لياقوت وانظر فى عبد الدائم بن مرزوق بغية الملتمس للضبى والصلة لابن شكوال وراجع الأنموذج لابن رشيق فى المنوه بأشعارهم منهم وكذلك ابن الأبار فى الحلّة السيراء وابن عذارى فى البيان المغرب وانظر المؤلفات المذكورة للحصرى وابن شرف وابن رشيق فى تراجمهم وراجع كتابنا المدارس النحوية فى ابن عصفور ومراجعه.

ص: 180

تلميذ لأمان بن الصمصامة وعياض بن عوانة وقتيبة الجعفى وكثير من الأعراب مثل أبى المنيع الأعرابى وغيره، غير أنه عمّر عمرا طويلا، إذ توفى سنة 356 هـ/966 م. ومن معاصريه أحمد بن إبراهيم بن أبى عاصم أبو بكر اللؤلؤى المتوفى سنة 318 هـ/930 م وكان من العلماء النقّاد فى العربية والغريب والنحو والقيام بأكثر دواوين العرب، وهو تلميذ أبى محمد المكفوف المذكور آنفا، وألّف كتابا فى الضاد والظاء فحسّنه وبيّنه. ولم تلبث القيروان أن أخرجت لغويا كبيرا طار اسمه فى الآفاق هو القزّاز محمد بن جعفر التميمى المتوفى سنة 412 هـ/1021 م درس على شيوخ القيروان، ثم رحل إلى العراق فدرس على أئمة اللغة والنحو، ونزل فى القاهرة أيام العزيز نزار (365 - 386 هـ) وعرف فضله، فعين فى دواوين العزيز، وألف له -استجابة إلى طلب منه-كتابا فى الحروف التى ذكرها النحاة فى قولهم: إن الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى على أقصد سبيل وأقرب مأخذ وأوضح طريقة، فيبين معانى الحروف مع ترتيبها على حروف المعجم، فبلغ الكتاب ألف ورقة، وقدم إلى العزيز صورة منه فأعجبه ورضيه. وتوفى العزيز فعاد إلى القيروان وشغف به وبمجالسه الطلاب والمتأدبون لعلمه اللغوى الغزير وحسن تذوقه للأدب، ولم يكن ذواقة للأدب والشعر فحسب، بل كان أيضا ناقدا بصيرا وشاعرا مجيدا، وتخرج على يديه ابن شرف القيروانى الشاعر المبدع وابن رشيق الشاعر والناقد الممتع. وله فى اللغة معجم سماه «جامع اللغة» وهو معجم كبير رتبه على حروف المعجم، ويقول ياقوت فى معجم الأدباء عنه إنه يقارب فى الحجم معجم التهذيب للأزهرى، وله فى الضاد والظاء وتبادلهما فى الكلمات مبحث كبير فى ثلاثة أجزاء، وله المثلث فى اللغة، وله كتاب ما أخذ على المتنبى من اللحن والغلط، وكتاب العشرات يذكر فيه اللفظ ومعانيه المترادفة، وفى دار الكتب المصرية منه مخطوطة، وله إعراب مقصورة ابن دريد وشرحها، وكتاب الحلى والشيات فى أوصاف الآدميين طبع فى صيدا بلبنان، وله شرح رسالة البلاغة فى مجلدات، ومن كتبه الطريفة ضرائر الشعر، وهو دراسة تفصيلية لما يجوز للشاعر استعماله من ضرورات الشعر، وهو مطبوع بتونس. ونلتقى بتلميذه الحسن بن محمد التميمى اللغوى النسابة، وكان القزاز قد عنى به محبة له، فبلغ به نهاية الأدب وعلم الخبر والنسب، وكان شاعرا نابها قوى الكلام خبيرا باللغة، وكان شديد الشغف بديوان ذى الرمة، وعنه أخذه الناس كما أخذوا دواوين الجاهلية. وكان يعاصره إسماعيل بن إبراهيم القيروانى اللغوى، تقدّم فى علم الغريب وطلبه وعلو سماعه، وكان يبحث عن الشذوذ اللغوى بحثا شديدا، وإلى أمّهات كتبه ترجع-كما يقول القفطى-جميع النسخ وبها تقابل وعليها تصلح، وهو من مدّاح المعز بن باديس وفيه يقول:

بذّ الملوك جلالة ومهابة

وعلا على النّظراء والأشكال

ونلتقى بعبد الدائم بن مرزوق المتوفى سنة 472 هـ/1079 م كما فى بغية الملتمس للضبى،

ص: 181

درس العربية على شيوخ القيروان وارتحل إلى المشرق وتجوّل فى حلقات شيوخه بالبصرة وبغداد، ودخل الشام والتقى بأبى العلاء المعرى، وأخذ عنه ديوانيه: سقط الزند واللزوميات، وعاد إلى بلده، ولم تلبث هجرة الأعراب أن اكتسحت القيروان فهاجر إلى الأندلس، ونزل المريّة وإشبيلية، وهناك أخذ يلقى دروسه، ويروى أشعار أبى العلاء، وممن تتلمذ عليه عالم الأندلس اللغوى ابن السّيد البطليوسى بشهادة ما يرويه عنه فى كتابه:«الاقتضاب فى شرح أدب الكتاب» كما لاحظ الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب، ويقول إنه أول من أدخل شعر أبى العلاء إلى إفريقية والأندلس، وأكبر الظن أن نسخة سقط الزند التى شرحها ابن السيد وطبعت مع شروح السقط الأخرى فى القاهرة مأخوذة عن نفس المخطوطة التى حملها ابن مرزوق عن أبى العلاء، وكأنه شرحه بمجرد أن سمعه من ابن مرزوق، وأظن نفس الظن إزاء شرح ابن السيد لطائفة كبيرة من شعر اللزوميات المطبوع فى جزءين فى القاهرة، إذ اعتمد فى هذا الشرح-فيما أظن-على رواية اللزوميات التى سمعها عن ابن مرزوق، والأبيات-فى رواية ابن السيد-تصحح كثيرا من أبيات اللزوميات المنشورة، ولعل محققا تونسيا محظوظا يجد فى جامع الزيتونة أو جامع عقبة مخطوطة من اللزوميات مأخوذة-أو مروية-عن نسخة ابن مرزوق قبل مبارحته القيروان إلى الأندلس، ويمكن التأكد من ذلك بمراجعتها على شرح اللزوميات لابن السيد. وله معجم فى اللغة وشرح على ديوان المتنبى.

ويلقانا فى أوائل عهد الدولة الحفصية محمد بن أبى الحسين المتوفى سنة 671 هـ/1273 م حاجب أبى زكريا مؤسس الدولة ووزير ابنه المستنصر، وهو من أسرة بنى سعيد الغرناطية، وكان لغويا وشاعرا وكان ابن سيده الأندلسى قد رتب معجمه «المحكم» على أساس مخارج الحروف طبقا لمعجم العين للخليل بن أحمد، فقلب ترتيبه إلى ترتيب معجم الصحاح للجوهرى، وسمى صنيعه «ترتيب المحكم». وكان يعاصره عالم لغوى من علماء الهجرة الأندلسية فى القرن السابع الهجرى هو أحمد بن يوسف اللّبلى الأندلسى المتوفى بتونس سنة 691 هـ/1292 م وله على كتاب الفصيح لثعلب شرح سماه:«تحفة المجد الصريح فى شرح كتاب الفصيح» ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب إنه ينقل فيه مرارا عن معجم القزّاز: «جامع اللغة» وعن كتابه: «المثلث» كما ينقل فيه أيضا عن معجم ابن مرزوق، وكأن أعمال ابن مرزوق-وفى ظننا ما رواه من شعر أبى العلاء-كان لا يزال محفوظا فى موطنه حتى نهاية القرن السابع الهجرى.

وكل من نظمناهم فى سلك اللغويين-أو كثرتهم-يوصفون فى كتب التراجم بأنهم كانوا نحاة كما كانوا لغويين غير أننا لاحظنا أنه غلبت عليهم مباحث اللغة، ومرّ بنا فى الحديث عن النشأة اللغوية أنه كان بين اللغويين نحويان كوفيان استوطنا القيروان وقد خلف بعدهما جيل

ص: 182

قيروانى خالص عنى بالنحو وتعليمه، منه حمدون محمد بن إسماعيل المتوفى بعد المائتين، وفيه يقول الزبيدى:«كان مقدما فى العربية والنحو وكان يقال إنه أعلم بالنحو خاصة منه باللغة، لأنه كان يحفظ كتاب سيبويه ويستظهره» ويقول القفطى له كتب فى النحو وأوضاع فى اللغة، وكان أحد المتشدّقين فى كلامه والمتقعّرين فى خطابه. وكان يعاصره أحمد بن أبى الأسود النحوى القيروانى كان يقرئ النحو واللغة بمسجد قرب داره، يقول الزبيدى عنه: «له تصانيف فى النحو والغريب ومؤلفات حسان، ويقول القفطى: كان غاية فى علم النحو واللغة. ومن معاصريه عبد الله بن أبى حسان اليحصبى المتوفى سنة 227 هـ/841 م رحل إلى العراق وأخذ النحو عن أعلامه فى البصرة والكوفة، وعاد إلى القيروان فأفاد الطلاب بما حمل من النحو وقواعده.

وينشط علماء النحو فى القرنين الثالث والرابع للهجرة بالقيروان، ومنهم السّبخى أبو على النحوى الضرير المتوفى سنة 342 هـ/953 م وينوه المالكى فى كتابه:«رياض النفوس» بمعرفته الواسعة باللغة والنحو وله كتاب أقيسة الأفعال. وكان يعاصره ابن الوزّان إبراهيم بن عثمان المتوفى سنة 346 هـ/957 م يقول الزبيدى عنه: «إمام الناس فى النحو (بالقيروان) وكبيرهم فى اللغة وعظيمهم فى العربية والعروض، وانتهى فى اللغة العربية إلى ما لعله لم يبلغه أحد قبله، وأما فى زمانه فما يشك فيه أحد، حفظ كتاب سيبويه وكتاب المصنف فى غريب الحديث لأبى عبيد القاسم بن سلام وإصلاح المنطق لابن السّكّيت ومعجم العين للخليل بن أحمد وغير ذلك من كتب اللغة ثم كتب الفرّاء، وكان يميل إلى قول أهل البصرة مع علمه بقول الكوفيين، وكان يفضّل المازنى فى النحو وابن السّكّيت فى اللغة، وكان يستنبط من مسائل العربية والنحو أمورا لم يتقدمه فيها أحد. واشتهر بعده عبد العزيز بن أبى سهل النحوى اللغوى القيروانى الضرير المتوفى بالقيروان سنة 406 هـ/1015 م وكان شاعرا مطبوعا، ويقول ابن رشيق فى وصفه: «كان مشهورا بالنحو واللغة جدّا مفتقرا إليه فيهما بصيرا بغيرهما من العلوم. . ولا غنى لأحد من الشعراء الحذاق عن العرض عليه والجلوس بين يديه، ولم ير ضرير أطيب منه نفسا ولا أكثر حياء. وكان يعاصره عبد العزيز بن خلوف النحوى، نوّه ابن رشيق بشعره وقال له فى سائر العلوم حظوظ وافرة، وحقوق ظاهرة، وأغلبها عليه علم النحو والقراءات وما تعلق بها، وفيه ذكاء يخرج عن الحد المحدود. ونلتقى بعلى بن فضال المتوفى ببغداد سنة 479 هـ/1086 م وهو من سلالة الفرزدق الشاعر الأموى المشهور ومن أبناء القيروان النابهين فى عصره غادرها مع الهجرة الأعرابية المشهورة إلى الشرق حتى نيسابور وغزنة، وعاد إلى بغداد، فضمّه نظام الملك إلى مدرسته النظامية بها حتى وفاته، وهو مفسر كبير للذكر الحكيم، وله مصنفات مختلفة فى الأدب والتاريخ، وكان إلى ذلك عالما كبيرا فى النحو واللغة، ومما صنّفه فى النحو «إكسير الذهب فى صناعة الأدب» فى عدة مجلدات وكتاب العوامل والهوامل وكتاب الإشارة إلى تحسين العبارة وشرح عنوان الإعراب والمقدمة وشرح معانى الحروف وغير ذلك وله كتاب فى العروض.

ص: 183

ودرّس مثله فى النظامية ببغداد معاصره ومواطنه عبد الله بن مسلم القيروانى النحوى أبو محمد المتوفى سنة 488 هـ/1095 م ويقول القفطى: كان له معرفة بالنحو واللغة. وتكاد تتوقف الحركة العلمية فى الدراسات النحوية نحو قرن أو تزيد بسبب الهجرة الأعرابية وما حدث بعدها من حروب قراقوش وابن قراتكين وابنى غانية: على ويحيى.

وتنهض بالبلاد الدولة الحفصية ويعود إلى الحركة العلمية نشاطها، وخاصة فى مدينة تونس عاصمة تلك الدولة، ويمدّها المهاجرون من الأندلس فى صدر تلك الدولة من كبار العلماء والأدباء بوقود أدبى وعلمى جزل، فتزداد اشتعالا وضياء ونورا. ومن صفوة من هاجر إليها من نحاة الأندلس إمام كبير من أئمة النحو هو ابن عصفور الإشبيلى أبو الحسن على بن مؤمن المولود سنة 597 هـ/1200 م والمتوفى سنة 669 هـ/1270 م وقد رحّب به مؤسس الدولة أبو زكريا واتخذه أستاذا ومعلما لابنه وولى عهده المستنصر، وأسند إليه التدريس فى جامع الزيتونة وفى مدرسته الشمّاعية، وكان يدرس للطلاب كتاب سيبويه وكتاب الجمل للزجاجى والإيضاح لأبى على الفارسى وله عليهما شرحان، كما كان يدرس لهم مصنفيه البديعين: المقرب فى الصناعة النحوية والممتع فى الصناعة الصرفية واتّخذت أعماله فى عصرنا موضوعات للحصول على الدرجات العلمية فى الجامعات العربية لحسن عرضه لمسائل النحو وأبوابه حدودا وترتيبا وتقسيما، وفى كتابنا المدارس النحوية ترجمة له وبيان لبعض آرائه التى انفرد بها بين النحاة، وأخذ عنه فى تونس النحو تلاميذ كثيرون بحيث أصبحت له فيها مدرسة كبيرة، وتذكر أسماء نحاة فى القرون التالية، ومن أهمهم فى العهد العثمانى محمد فتاتة الفقيه فى القرن الثانى عشر الهجرى كان يقرئ الطلاب فى جامع الزيتونة مغنى ابن هشام فى النحو ولعبد القادر الجبالى شرح على شواهد المغنى فى أربع مجلدات ولمحمد سعادة حاشية على الأشمونى سماها تنوير السالك من شرح منهج السالك إلى ألفية ابن مالك، ولمحمد بن على بن سعيد الحجرى المتوفى سنة 1199 هـ/1784 م حاشية مطولة على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك.

ومنذ نزول العرب واستيطانهم فى إفريقية التونسية كان كثيرون منهم ينشدون الأشعار العربية ويروونها للأجيال الناشئة، وما يتقدم القرن الثانى الهجرى حتى تتردد فى كتب التراجم أسماء رواة للشعر كان يلتف حولهم الشباب فى القيروان وغير القيروان لكتابة الأشعار وتدوينها، نذكر منهم سليمان بن حميد الغافقى، وله ترجمة فى كتاب الحلة السيراء لابن الأبار، وهو ممن قدموا مع الحملات التى كان يوجهها الأمويون إلى القيروان والمغرب، وله مشاركة فى الأحداث التى مرت بنا أيام عبد الرحمن بن حبيب وقتل أخيه إلياس له وعاش إلى أيام يزيد ابن حاتم المهلبى (155 - 170 هـ) ويقول ابن الأبار فى التعريف به: «فارس العرب قاطبة بالمغرب فى عصره وأحسن الناس لسانا وأبلغهم، إلى معرفة بأيام العرب وأخبارها ورواية لوقائعها

ص: 184

وأشعارها. . حملت عنه نوادر مستطرفة وحكايات مستملحة، وروى له ابن الأبار شعرا فى أحد مواقفه مع بعض ثوار البربر. ومن هؤلاء الرواة المبكرين للأشعار فى القيروان الحكم بن ثابت السعدى، دخل إفريقية-كما يقول ابن عذارى-سنة 144 هـ/761 م مع جيش محمد بن الأشعث للقضاء على ثورة الإباضيين فى طرابلس وتونس لعهد المنصور، وكان أحد قواد الجيش وبعد القضاء على تلك الثورة سكن القيروان، حتى إذا تولى الأغلب التميمى بعد ابن الأشعث شهد معه حرب بعض الثوار من البربر سنة 150 هـ/767 م وهو من سلالة سلامة بن جندل الشاعر الجاهلى المشهور، وكان شاعرا ورواية كبيرا للشعر، روى عنه أبناء القيروان كثيرا من أشعار الجاهليين والمخضرمين. ومن هؤلاء الرواة للأشعار الحسن بن منصور بن نافع المذحجىّ، وفيه يقول ابن الأبار:«كان بصيرا باللغة نافذا فى النحو عالما بأيام العرب وأخبارها ووقائعها وأشعارها» . وحرى أن نضيف إلى هؤلاء الرواة المبكرين للأشعار الجاهلية والإسلامية المعمر بن سنان التيمى القادم مع يزيد بن حاتم المهلبى فى ولايته، وقد ذكرناه فى نشأة العلوم اللغوية، وأيضا لا بد أن نضيف كبار الشعراء الوافدين على يزيد بن حاتم لمديحه مثل ربيعة الرّقّى الشاعر العباسى النابه وبالمثل من وفد عليه من اللغويين والنحاة أمثال يونس بن حبيب عالم البصرة النحوى واللغوى الكبير، فهؤلاء جميعا شاركوا فى رواية الشعر الجاهلى والإسلامى لشباب القيروان.

ومر بنا أن عبد الملك بن قطن كان يشرح أشعار الجاهليين والإسلاميين ويفسّر معانيها وأنها حين نقلت إلى القيروان ومعها شروحها وجد طلابه أن هذه الشروح تطابق شروحه. ولم تنقل إلى القيروان فى القرن الثالث الهجرى الدواوين القديمة الجاهلية والإسلامية فقط، بل أخذت تنقل أيضا دواوين الشعراء العباسيين ويشهد لذلك ما روى عن أبى اليسر الشيبانى رئيس ديوان الإنشاء المتوفى سنة 298 هـ/910 م من أنه أدخل إلى إفريقية رسائل المحدثين (العباسيين) وأشعارهم، وهو لم يدخل دواوين أمثال بشار وأبى تمام فحسب، بل أدخل أيضا رسائل أمثال عبد الحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون وغيرهم، ومثل ذلك أصبح منذ القرن الثالث الهجرى مدّ أيدى المتأدبين فى القيروان وتلقاء أبصارهم عن طريق من كانوا يرتحلون إلى المشرق-أو يفدون منه-ويحملون نفائسه من الدواوين والرسائل. ومن يقرأ المنتخبات الرائعة من الشعر والنثر التى جمعها أبو إسحاق إبراهيم الحصرى المتوفى سنة 412 هـ/1421 م باسم «زهر الآداب وثمر الألباب» و «جمع الجواهر فى الملح والنوادر» يعرف أنه لم يكن فى المشرق ديوان لشاعر عباسى ولا رسائل لكاتب أموى أو عباسى ولا مجموعة فى الشعر أو فى النثر، لم يكن شئ من ذلك كله غائبا عن القيروان وأديبها الحصرى، فقد اختار فى مجموعتيه السالفتين أروع وأبدع ما للمحدثين العباسيين من شعر ونثر وأخبار ونوادر وملح كما يقول، حتى لنجد عنده قطعا من نصوص أدبية مفقودة إذ نراه مثلا يختار لسهل بن هارون قطعا

ص: 185

من قصصه الطريفة التى صاغها محاكاة لقصص كليلة ودمنة، والتى لا يوجد منها الآن فى المشرق شئ. وقد ولد بقرية تسمى الحصر بجوار القيروان فنسب إليها، وهو أستاذ علمين من أعلام الأدب فى القيروان: ابن رشيق وابن شرف، وكان ودودا ومألفا لشباب القيروان ومتأدبيها، فكانوا يجتمعون عنده ويأخذون عنه كما قال ابن رشيق وقال عنه أيضا: إنه كان شاعرا ناقدا عالما بتنزيل الكلام، وقد افتتح به كتابه الأنموذج فى شعراء القيروان، وذكره مرارا فى كتابه العمدة، واستشهد فيه ببعض أشعاره. وكان بحق-كما قال ابن رشيق-ناقدا ذواقة للأدب، فجمع-وخاصة فى زهر الآداب-فرائد بديعة من شعر المحدثين ونثرهم وأخبارهم، وكأنه أراد بذلك أن يكمل كتاب البيان والتبيين للجاحظ، إذ رآه يشغله بكلام الإسلاميين والجاهليين، ولا يعنى بالعباسيين العناية الكافية فرأى أن يكمل مختاراته الجاهلية والإسلامية بمختاراته الشعرية والنثرية للعباسيين، ولاحظ ذلك ابن بسام فى ترجمته بالقسم الرابع من كتابه الذخيرة.

فقال: «عارض الحصرى أبا بحر الجاحظ بكتابه الذى وسمه بزهر الآداب فلعمرى ما قصر عن مداه ولا قصرت خطاه، ولولا أنه شغل أكثر أجزائه وأنحائه بكلام أهل العصر (يريد العباسيين) دون كلام العرب لكان كتاب الأدب، لا ينازعه ذلك إلا من ضيّق عينيه الرمد، وأعمى بصيرته الحسد» . وهى شهادة قيمة بروعة الكتاب وروعة ما يحمل من النصوص العباسية شعرا ونثرا. وربما كانت أهم مجموعة أدبية بعده فى القطر التونسى مجموعة الحماسة لأبى الحجاج يوسف بن محمد البيّاسى الأندلسى نزيل تونس المتوفى سنة 653 هـ/1256 م وقد كتبها بتونس سنة 646 هـ/1248 م وقرأها الطلاب عليه، ومنها مخطوطة فى دار الكتب المصرية.

وحاول ابن شرف القيروانى الشاعر المتوفى سنة 460 هـ/1067 م بالأندلس أن يكون له نصيب فى عالم النقد، فكتب مبحثا يسمى تارة أعلام الكلام، وتارة رسائل الانتقاد، وطبع بالعنوانين، تناول فيه الشعر والشعراء منذ الجاهلية إلى زمنه، وهو ملاحظات مجملة أكثر منه آراء نقدية، أو هو انطباعات عن الشعراء فى جمل مسجوعة، وكأنه يؤلّف مقامة-لا مبحثا نقديا- عن الشعراء، ومن قوله عن أبى نواس:«أول الناس فى خرم القياس. وذلك أنه ترك السيرة الأولى وتنكّب عن الطريقة المثلى، وجعل الجد هزلا صادف الأفهام قد كلّت. . فتهادى الناس شعره، وأغلوا سعره، وشغفوا بأسخفه، وكلفوا بأضعفه» ويقول عن ابن الرومى: «شجرة الاختراع، وثمرة الابتداع، وله فى الهجاء ما ليس له من الاطراء، فتح فيه أبوابا، وخلع منه أثوابا، وطوق فيه رقابا، يطول عليها حسابه، ويمحق فيها ثوابه» وكأنه يقيس هجاءه بمقياس خلقى لا بمقياس فنى، ويقول فى المتنبى:«شغلت به الألسن، وسهرت فى أشعاره العيون الأعين، وكثر الغائص فى بحره، والمفتش فى قعره عن جمانه (لؤلئه) ودرّه، وله شيعة تغلو فى مدحه، وعليه خوارج تتعاون فى جرحه» ، وهكذا آراؤه فى الشعر انطباعات لا تحمل تعليلا ولا دليلا.

ص: 186

ولم تعن القيروان بالبلاغة كما عنيت بالنقد، وأكبر نقاد القيروان وبلاغييها المعدودين فى النقاد والبلاغيين الكبار ابن رشيق المتوفى بمازر فى صقلية سنة 456 هـ/1063 م وله كتاب «قراضة الذهب فى صناعة الأدب» وهو فى السرقات الشعرية، وله كتاب «العمدة فى صناعة الشعر ونقده» ، وهو يجمع فيه بين النقد والبلاغة، ويقول فيه القفطى:«اشتمل على ما لم يشتمل عليه تصنيف من نوعه وأحسن فيه غاية الإحسان» وقال القاضى الفاضل: «هو تاج الكتب المصنفة فى هذا النوع» وقال فيه ابن خلدون فى مقدمته: «هو الكتاب الذى انفرد بهذه الصناعة-يريد صناعة الشعر-وإعطائها حقّها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله» .

وهى شهادة قيمة. وكل من يقرأ الكتاب يعرف بوضوح أن ابن رشيق وضع بين يديه كل ما أنتج المشرق من مباحث ومؤلفات فى النقد والبلاغة من مثل البيان والتبيين للجاحظ وطبقات فحول الشعراء لابن سلام والشعر والشعراء لابن قتيبة والبديع لابن المعتز ونقد الشعر لقدامة ونقد النثر لابن وهب والموازنة للآمدى والصناعتين لأبى هلال العسكرى وكتابات الحاتمى فى البديع والبلاغة وأضاف إلى ذلك كتاب الممتع فى علم الشعر وعمله لعبد الكريم النهشلى، وسوّى من ذلك كله-وربما اطلع على كتب أخرى-كتابه الذى ذاع وشاع فى العالم العربى غربا وشرقا منذ تأليفه إلى اليوم لدقة منهجة وحسن تبويبه وترتيبه، ولما يحمل من مواد طريفة تحيط بالشعر وصنعه ونقده وفنون بلاغته، وقد بدأه بالدفاع عن الشعر والشعراء واضعا الشعر فى مرتبة بلاغية أعلى من مرتبة النثر، ويفرد بابا لبلاغة اللفظ والمعنى قائلا إنهما متلازمان، فاللفظ جسم وروحه المعنى، ويقول إن للشعر لغة خاصة به، ويعرض للمكثرين والمقلين من الشعراء وللمطبوعين والمتكلفين ولأصحاب مدرسة البديع وللوزن والقافية وعمل الشعر وشحذ القريحة له ولافتتاح الشعراء قصائدهم بالنسيب وللمبدإ والخروج من فاتحة القصيدة إلى موضوعها وللمخترع فى الشعر والبديع، ويفصّل القول فى الاستعارة والتشبيه أهم ألوان البيان ويفيض إفاضة واسعة فى ذكر ألوان البديع ومحسناته متأثرا بأبى هلال العسكرى فى كتابه الصناعتين والحاتمى فى كتابه حلية المحاضرة، وقد اعتمد على الكتاب الأخير اعتمادا واسعا فى حديثه عن ألوان البديع وفنونه من مثل الجناس والطباق والمقابلة والتتميم والتسهيم والترصيع وصحة التقسيم إلى غير ذلك من محسنات كثيرة. وكأن القيروانيين لم يجدوا حاجة إلى التأليف فى البلاغة وفنون البديع بعده، وبالمثل فى نقد الشعر وصناعته، وقد تحدث حديثا مستفيضا عن موضوعات الشعر بادئا بالنسيب ومفصلا القول فى كل موضوع تفصيلا دقيقا، وتحدث عن السرقات الشعرية، واتفق مع النقاد فى أن السرقة إنما هى فى البديع المخترع الذى يختص به شاعر ويسرقه أحد الشعراء، لا فى المعانى المشتركة بين الشعراء، ويذكر ما يحتاج إليه الشاعر من المعارف والثقافة. والكتاب غنى بالأفكار والآراء النقدية، ومثله فى هذا الغنى كتابه:

«أنموذج الزمان فى شعراء القيروان» وقد جمعه من بطون المخطوطات وغيرها من الكتب وحققه

ص: 187

تحقيقا علميا سديدا الأستاذان محمد العروسى المطوى وبشير البكوش وقدما له بمقدمة قيمة.

وقد استطاعا بدأبهما العلمى جمعه من مخطوطات مسالك الأبصار لابن فضل الله العمرى والوافى بالوفيات للصفدى وغيرهما من المخطوطات والمصادر، وبذلك ردّاه إلى الحياة بصورة إن لم تكن طبق الأصل تماما، فهى مقاربة له أشد القرب، وفى الكتاب مائة ترجمة للشعراء من معاصريه، مما يدل على حدوث نهضة شعرية لعصره فى القطر التونسى. وهو يستهل كل ترجمة لشاعر بسطور عنه وعن صفته وشعره ثم يورد ما اختاره من أشعاره مع بعض أحكام نقدية.

والكتاب يؤرخ بدقة للحركة الأدبية فى عصر الدولة الصنهاجية، وبعبارة أدق فى عصر المعز بن باديس. ولا يلقانا بعد ابن رشيق ناقد كبير أو بلاغى كبير فى القيروان أو تونس إلا ما كان من حازم القرطاجنى نزيل تونس فى عهد المستنصر بن أبى زكريا مؤسس الدولة الحفصية، وعاش حتى سنة 684 هـ أ 1286 م وله فى النقد والبلاغة كتابه المعروف: «منهاج البلغاء وسراج الأدباء وهو فيه يمزج بين قواعد النقد والبلاغة عند العرب وقواعدهما عند اليونان وبدون ريب أفاد منه المتأدبون بتونس، وأنه أعاد لهم درسه مرارا، وقد تحدثت عنه فى الجزء الخاص من هذه السلسلة بالأندلس.

4 -

علوم (1) القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

بمجرد أن أسّست القيروان وتونس كان هناك مقرءون كثيرون يقرءون الناشئة فى الكتاتيب، ودائما أينما وجد الفاتحون فى صدر الإسلام والعصر الأموى دوّوا بالقرآن الكريم دوىّ النّحل، وكان منهم دائما من يتجرّدون لتحفيظه للداخلين فى الإسلام وإقرائهم آياته الكريمة، ومن الصعب التعرف عليهم ومعرفة أسمائهم، فهم كالجندىّ المجهول، يرى أثره ولا يعرف اسمه، غير أن كتب التراجم أحيانا تذكر بعض الأسماء ممن حظوا بإقراء القرآن فى الأزمنة المبكّرة،

(1) راجع فى هذه العلوم طبقات أبى العرب ورياض النفوس للمالكى وطبقات القراء لابن الجزرى ورحلة العبدرى وطبقات المفسرين للسيوطى ومعالم الإيمان لابن الدباغ وابن ناجى ومقدمة ابن خلدون فى العلوم والديباج المذهب فى معرفة أعيان المذهب لابن فرحون والحلل السندسية فى الأخبار التونسية لأبى عبد الله السراج تحقيق الأستاذ محمد الحبيب الهيلة وذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان لحسين خوجة تحقيق وتقديم الأستاذ الطاهر المعمورى وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف وعنوان الأريب عما نشأ بالمملكة التونسية من عالم وأديب وكتاب ورقات للأستاذ حسين حسنى عبد الوهاب والحياة الثقافية بإفريقية صدر الدولة الحفصية (مقال فى مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة).

ص: 188

من ذلك اسم أبى منصور مولى سعد بن أبى وقّاص، وهو-كما فى كتابى رياض النفوس والمعالم-ممن دخل إفريقية وسكن القيروان، وكان مقرئا للقرآن ومحدّثا وفقيها مفتيا. واجتماع الفقه ورواية الحديث النبوى مع إقراء القرآن الكريم لأبى منصور لا يستغرب، لأن التابعين من أمثاله كانوا يجمعون بين إقراء الناشئة والناس للقرآن وإسماعهم بعض الأحاديث النبوية وتفقيههم فى الدين بمعرفة أحكامه وتعاليمه. وعلى هذه الشاكلة كان الفقهاء العشرة أعضاء وفد عمر بن عبد العزيز لسنة مائة للهجرة، فهم يقرءون الناس الذكر الحكيم ويروون لهم بعض الأحاديث النبوية ويعلمونهم أمور دينهم الحنيف. وعنى بعض القيروانيين بحمل قراءات القرآن عن نافع قارئ المدينة. وكان ورش المصرى قد حمل قراءته فأخذتها جماعة من القيروان عن تلاميذه المصريين. ومن أهمهم فى القرن الثالث الهجرى محمد بن عمرو بن خيرون المتوفى سنة 306 هـ/918 م. وقد حمل قراءة ورش، وقدم بها إلى القيروان كما يقول ابن الجزرى فى طبقاته، وكان الغالب على قراءة الناس فيها قراءة حمزة أحد القراء السبعة، ولم يكن يقرأ قراءة نافع إلا خواص الناس، فلما قدم ابن خيرون إلى القيروان اجتمع عليه الناس ورحل إليه القرّاء من آفاق المغرب، ومن مؤلفاته كتاب الابتداء والتمام وكتاب الألف واللام. وكما أخرجت القيروان إماما لغويا هو القزاز، وإماما ناقدا بلاغيا هو ابن رشيق، أخرجت إماما فى القراءات، هو مكى بن أبى طالب القيسى المولود بالقيروان سنة 354 هـ/965 م ولما استكمل القراءات بالقيروان رحل إلى مصر سنة 377 هـ/987 م وتتلمذ فى القاهرة لشيخ قرائها ابن غلبون، وكأن يعود إلى بلده ثم يرجع إليه، حتى أخذ كل ما عنده، وهاجر إلى قرطبة سنة 393 هـ/1002 م وظل يقرئ بها الناس حتى توفى سنة 437 هـ/1045 م وله فى القراءات كتاب التبصرة فى خمسة أجزاء، وكتاب ثان فى أصول قراءة نافع، وكتاب ثالث فى المدّ لورش، وذكر له ابن خلكان عشرات من الكتب فى القراءات والتفسير والفقه والعربية. وكان يعاصره أحمد بن عمار المهدوى المتوفى سنة 440 هـ/1048 م وله كتاب الهداية فى القراءات السبع وله عليه شرح كما يقول ابن الجزرى وله كتاب الموضح فى تعليل وجوه القراءات. وظلت قراءة الذكر الحكيم ناشطة فى القيروان على مدار السنين، واشتهرت بها أسر توارثتها جيلا بعد جيل، ويصور ذلك -من بعض الوجوه-ما ذكره العبدرى فى رحلته حين زار تونس فى سنتى 688 هـ/1290 م و 691 هـ/1292 م والتقى بالرحالة التونسى أبى الحسن على بن إبراهيم التجانى فى مسجد إقرائه، ومما قال له:«أنا الثانى عشر مدرسا من آبائى على نسق كلهم قعدوا هنا» (أى فى هذا المسجد) للإقراء، وهذا يعنى أن بيت التجانى فى تونس توارث الإقراء للقرآن طوال اثنى عشر جيلا متعاقبين، وإذا حسبنا لكل جيل ثلاثين سنة على الأقل كان معنى ذلك أن الأسرة توارثت إقراء القرآن نحو ثلاثة قرون ونصف أى منذ منتصف القرن الرابع الهجرى. ومن كبار القراء فى العهد الحفصى أبو القاسم اللبيدى معاصر التجانى صاحب الرحلة، وكان الطلاب يقرءون

ص: 189

عليه بمسجد إقرائه كتاب التيسير فى القراءات السبع للدانى. وأشهر القراء بعده محمد بن بدّال المتوفى بمنتصف القرن الثامن الهجرى وكان يدرس لطلابه قصيدة الشاطبى فى القراءات: حرز الأمانى ويفسر أبياتها لهم، ولجمال ترتيله وحسن صوته كانت تشدّ إليه الرحال لسماعه، وكان السامعون من حوله يرون بين خاشع وباك وداع. وكان يعاصره محمد بن محمد بن حسين الأنصارى، وكان يقرئ تلاميذه بقراءة الأئمة الثمانية، ومنهم الفقيه الكبير محمد بن عرفة الورغمى الآتى ذكره بين الفقهاء والمتوفى فى أوائل القرن التاسع الهجرى وكان مقرئا كبيرا ومجودا عظيما للقرآن الكريم. ويكثر فى ترجمة العلماء أن يقال عنهم إنهم مجيدون فى قراءة القرآن، ونجد فى العهد العثمانى وظيفة فى جامع الزيتونة مخصّصة لقراء القرآن العظيم على كرسى الجامع، وممن تولاها الشيخ على السويسى، وأيضا وظيفة أخرى لشيخ القراء وممن تولاها فى القرن الثانى عشر الهجرى مصطفى الأزميرلي، وكان يعاصر قاره باطاق وله كتاب فى القراءات العشر سماه:«الجواهر النضرة والرياض العطرة فى متواتر القراءات العشرة» .

وطبيعى أن كانت الأجيال الأولى فى القيروان وتونس التى اعتنقت الدين الحنيف وأخذت تحفظ بعض آيات القرآن تطلبت معرفة تفسير ما تحفظه، فكان المقرءون الأولون لهم يحاولون إفهامهم ما يحفظونه، وتنشأ فى المشرق حركة واسعة فى تفسير القرآن، ويشتهر عبد الله بن العباس الصحابى الجليل ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم بإتقانه لتفسيره حتى ليصبح إماما كبيرا فيه، ويحمله عنه تلاميذ مختلفون، ويتوزعون بما حملوه فى البلدان الإسلامية وتحظى القيروان بتلميذ بربرىّ له، هو عكرمة مولاه، ويقول أبو العرب فى طبقات علماء إفريقية وتونس:«كان مجلسه فى مؤخّر المسجد الجامع (جامع عقبة بالقيروان) فى غربى المنارة بالموضع الذى يسمى بالركيبيّة» . وما من ريب فى أنه كان يلقى فى مجلسه على الناس تفسير مولاه ابن عباس للقرآن الكريم، وسمعه منه خلق كثيرون من أهل القيروان وغيرهم، وقد أدخل الطبرى تفسيره الذى حمله عن ابن عباس فى تفسيره الكبير بحيث يمكن لباحث أن يستخرجه منه وينشره مستقلا، وما زال عكرمة يلقى دروسه حتى توفى سنة 105 هـ/723 م. ومن المفسرين للذكر الحكيم فى القرن الثانى الهجرى يحيى بن سلام وقد حرّره بالقيروان سنة 175 هـ/791 م وكان الطلاب يقصدونه من كل فجّ لسماعه منه، ويذكر أبو العرب فى طبقاته أن عيسى بن مسكين سمع تفسير ابن سلام من موسى بن جرير، كما يذكر أن أسد بن الفرات قاضى القيروان وفاتح صقلية المتوفى سنة 212 هـ/827 م كان يفسر الذكر الحكيم فى بعض مجالسه أو فى بعض دروسه بجامع القيروان، وللمقرئ الكبير مكى بن أبى طالب المار ذكره كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية فى معانى القرآن وتفسيره وأنواع علومه: سبعون جزءا، وكتاب الإيضاح فى ناسخ القرآن ومنسوخة ثلاثة أجزاء. ويلقانا فى القرن الخامس لعهد الدولة الصنهاجية مفسر كبير هو على بن

ص: 190

فضّال المتوفى سنة 479 هـ/1086 م وله التفسير المسمى البرهان العميدى فى عشرين مجلدا، وله تفسير ثان باسم الإكسير فى علم التفسير: خمسة وثلاثون مجلدا، وله النّكت فى القرآن. وصنف كتابا فى شرح بسم الله الرحمن الرحيم، ومرّ بنا أن نظام الملك ألحقه بمدرسته النظامية فى بغداد يدرس لطلابها، وله كتب كثيرة فى النحو ذكرنا بعضها فى حديثنا عن النحاة فى القيروان، ولعله كان يدرس فى النظامية التفسير والنحو معا. ومن كبار المفسرين فى أوائل عصر الدولة الحفصية عبد العزيز بن محمد القرشى المعروف بابن بزيزة المتوفى سنة 662 هـ/1263 م وهو من كبار الفقهاء الحفاظ وله تفسير جمع فيه بين طريقة ابن عطية الأندلسى وطريقة الزمخشرى وعليه تخرجت طائفة كبيرة من طلاب تونس فى العلوم الدينية. ومن كبار المفسرين فى القرن الثامن الهجرى محمد بن عبد النور التونسى تلميذ ابن زيتون المتوفى سنة 726 هـ/1326 م وله اختصار تفسير الفخر الرازى. ونلتقى فى القرن التاسع الهجرى بمفسر من كبار الحفاظ هو محمد بن عمر الأبّى المتوفى سنة 827 هـ/1423 م تلميذ ابن عرفة، وله تفسير كبير للقرآن الكريم كان يقع فى ثمان مجلدات. ولمحمد زيتونة المتوفى بالقرن الثانى عشر الهجرى فى العهد العثمانى حاشية على تفسير أبى السعود. وبدون ريب كان المفسرون للقرآن الكريم يعرضون على الطلاب أمهات كتب التفسير المشرقية للطبرى والزمخشرى والفخر الرازى وغيرهم، وظل ذلك فى العهد العثمانى، إذ نجد الشيخ محمد الفاسى يدرس لطلابه تفسير البيضاوى، ولا بد أن غيره من كتب التفسير المهمة كان يعرض على الطلاب.

ويتكاثر المحدثون فى القيروان وتونس كثرة مفرطة، ومن قدمائهم فى القيروان حنش بن عبد الله الصنعانى، دخل إفريقية غازيا مع موسى بن نصير (86 - 96 هـ) وسكن القيروان وحدّث بها، كما حدّث بها عكرمة مولى ابن عباس المار ذكره بين المفسرين. ونلتقى ببعثة عمر بن عبد العزيز التى كانت مؤلفة من عشرة فقهاء، وجميعهم كانوا محدّثين وقرّاء وفقهاء كما مرّ بنا وكان يعاصرهم عبد الله بن المغيرة بن أبى بردة قاضى القيروان لعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد الذى أرسله عمر بن عبد العزيز عاملا على الصدقات، وكلاهما حمل عنه الحديث كما حمل عن معاصرهما أبى غطيف بشر الهذلى، وهو يروى عن جماعة من الصحابة وخاصة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعليه اعتماده فى الرواية. ونلتقى بمحدث تونسى كبير سبقت الإشارة إليه هو عبد الرحمن بن زياد قاضى القيروان فى عهد المنصور وقلنا عنه فى النشأة العلمية إن ابن وهب وابن لهيعة الفقيهين المالكيين المصريين رويا الحديث عنه، وذكرنا معه هناك على بن زياد التونسى، وقلنا إنه أول من أدخل الموطأ لمالك وجامع سفيان الثورى فى الحديث إلى إفريقية التونسية، وكان يعاصره المحدث عبد الرحمن بن الأشرس زميله فى التلمذة على مالك. ونلتقى بالبهلول بن راشد المتوفى بالقيروان سنة 183 هـ/799 م وهو تلميذ مالك بن أنس وسفيان الثورى، وتتلمذ لليث بن سعد فقيه مصر، وكان معروفا بالتقوى

ص: 191

والتمسك بالسنة، وتقصّ عنه فى ذلك حكايات كثيرة، مما جعل أبا العرب والمالكى والدباغ يطيلون فى الترجمة له. ومن المحدثين بعده يزيد بن محمد الجمحى المستشهد فى فتح صقلية سنة 212 هـ/827 م وكان ثقة صدوقا كثير الحديث سمع من مالك بن أنس فى المدينة وغيره من كوفيين وبصريين وشاميين. وكان يعاصره موسى بن معاوية الصمادحى المتوفى سنة 225 هـ/839 م وأكثر مثل الجمحى من الأخذ عن مالك والكوفيين والبصريين وغيرهم، وكان يرابط بالمنستير على الساحل قرب القيروان فى شهر رمضان، ويقول عنه سحنون إنه كان أطول رفقتنا صلاة، وربما أمضى بعض الليالى مصليا. ومن معاصريه عون بن يوسف الخزاعى المتوفى سنة 239 هـ/853 م وكان إذا قال فى كتبه «حدّثنا» فهو سماع، وإذا قال «أخبرنا» فهو إجازة. ويزدهر مذهب مالك فى القيروان منذ القرن الثالث الهجرى، وكان العلم المنصوب بأعين أصحابه كتابه «الموطأ» وهو كتاب فقه وحديث، مما جعل فقهاءه جميعا محدّثين، ولذلك من الصعب أن نفرد المحدثين من الفقهاء منذ هذا القرن.

ونكتفى بذكر ألمع المحدثين فى القرون التالية، ومن ألمعهم وأنبههم فى القرن الرابع الهجرى أبو الحسن القابسى على بن محمد بن خلف المار ذكره فى صدر حديثنا عن دور العلم، وإليه انتهى تدريس الحديث النبوى فى القيروان وكان قد رحل إلى المشرق ورجع منه بكنوز نفيسة أهمها ما حمله إلى الطلاب والشيوخ فى جامع الزيتونة من صحيح البخارى، وكان يدرسه للطلاب، وعنيت به إفريقية التونسية بعده كما عنيت بصحيح مسلم، وهما جميعا وكتب السنة الأربعة المشهورة: للترمذى والنسائى وأبى داود وابن ماجة محل إجلال وتوقير فى بلدان العالم الإسلامى جميعه. وللمازرى محمد بن على الصقلى نزيل المهدية وحامل لواء العلوم الدينية فيها وفى البلدان المغربية المدفون بالمنستير سنة 536 هـ/1141 م شرح نفيس على صحيح مسلم سماه المعلم بفوائد مسلم، وشرحه القاضى عياض باسم إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم، وللأبى التونسى المار ذكره بين المفسرين شرح على صحيح مسلم سماه:«إكمال الإكمال بفوائد مسلم» فى سبع مجلدات جمع فيه بين شرح المازرى، وشرح عياض، وشرح النووى. ومن كبار المحدثين فى القرن الثامن شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر الوادى آشى الأصل التونسى المولد والموطن المتوفى سنة 740 هـ/1339 م. وكان يقرئ تلاميذه فى جامع الزيتونة الصحيحين: صحيح البخارى وصحيح مسلم. ونلتقى فى أوائل العهد العثمانى بالشيخ إبراهيم الرياحى وكان يدرس للطلاب شرح القسطلانى على صحيح البخارى، ويذكر ابن أبى دينار فى أواخر كتابه «المؤنس» طائفة من كبار المحدثين فى القرن الحادى عشر الهجرى بتونس، منهم أبو العباس أحمد الشريف الحنفى وأبو الحسن على الغماد وسعيد المحجوز وأبو عبد الله محمد تاج العارفين العثمانى، وممّن يضاف إلى هؤلاء المحدثين من كتاب ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان محمد برناز، ومحمد قويسم، ومحمد فتاتة ومحمد زيتونة.

ص: 192

وكان الفقهاء فى أول الأمر يجمعون كما ذكرنا بين إقراء القرآن ورواية الحديث النبوى والفتوى فيما يجد من أمور الدين، ولذلك من الصعب أن نميز فى القرن الأول الهجرى وغير قليل من القرن الثانى بين الفقيه والمحدث والمقرئ، ونفس بعثة عمر بن عبد العزيز فى سنة مائة للهجرة يقال عن كل منهم فى كتب التراجم إنه يجمع بين هذه الصفات الثلاث أو قل إنها تصف بذلك نفرا منهم وتترك الباقين لأنه معروف أنهم جاءوا لتحفيظ الناس والناشئة القرآن وتفقيههم فى الدين بما يلقّنونهم من تعاليمه ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ونقرأ عن على بن رباح اللخمىّ أنه قدم إفريقيا غازيا فى عهد موسى بن نصير وأنه سكن القيروان واختط بها مسجدا ومنزلا لسكناه وأن أهلها تفقهوا عليه، وهو تابعى روى عن عمرو بن العاص وأبى هريرة وأبى قتادة وغيرهم من الصحابة، وبذلك نستطيع أن نعده أول فقيه قيروانى. وجاء بعده خالد بن أبى عمران التّجيبى، قدم أبوه مع جيش حسان بن النعمان واستوطن مدينة تونس، وولد له فيها خالد وحفّظه أبوه القرآن وروى عنه وعن بعض القيروانيين الحديث ورحل إلى المشرق وسمع من القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق ومن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومن عروة بن الزبير وله كتاب كبير عنهم فى الحديث وروى له مالك فى الموطأ بعض أحاديث نبوية سمعها-كما مر بنا-من يحيى بن سعيد فى القيروان، وكان فقيها بصيرا بالفتوى وتولّى قضاء تونس إلى أن توفى سنة 123 هـ/740 م. ونلتقى بعده بأبى كريب عبد الرحمن بن كريب قاضى القيروان وفقيهها المستشهد فى حرب الصّفرية سنة 139 هـ/756 م.

وأخذ كثيرون من القيروانيين يرحلون إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ولقاء مالك إمام دار الهجرة: المدينة، وسماع الموطّأ منه، ولم يلبث نفر منهم أن تجردوا لحمل الكتاب، وسبق إلى ذلك على بن زياد من أبناء تونس-كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع-فكان أول من جلبه إلى موطنه، وأخذ يدرسه فى جامع الزيتونة، وحمله-أو أخذه عنه-كثيرون من تونس ومن القيروان ومن غيرهما، ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب توجد قطعة من روايته للموطأ فى مكتبة القيروان العتيقة، ومر بنا تعريف به فى النشأة العلمية، توفى عن سن عالية سنة 183 هـ/799 م وذكرنا أنه كان يعاصره عبد الله بن فرّوخ، وكان أبوه خراسانيا قدم إلى القيروان فى جيوش الأمويين وسكنها وولد له فيها عبد الله، وقد حفظ القرآن ثم تتلمذ على شيوخ بلدته، حتى إذا أخذ ما عندهم اتجه إلى العراق، ونزل الكوفة وصحب الإمام أبا حنيفة مدة طويلة مكنته من أن يحمل عنه مذهبه الفقهى الحنفى، ولم يرجع إلى القيروان مباشرة بل عرّج على المدينة وسمع الإمام مالكا وهو يلقى الموطّأ، ورجع إلى القيروان، وأخذ ينشر فى طلابه فقه أبى حنيفة، توفى سنة 172 هـ/788 م. وكان من أنبه الطلاب فى زمنه وزمن على بن زياد شاب تونسى هو أسد بن الفرات، كان أبوه خراسانيا، دخل تونس مع جيش ابن الأشعث

ص: 193

سنة 144 هـ/761 م واستوطن تونس، وولد له فيها أسد، وفيها نشأ وحفظ القرآن، ثم اختلف إلى على بن زياد وابن فروخ، ورحل إلى الحجاز، فسمع من مالك الموطأ، ثم رحل إلى العراق فاستمع إلى أصحاب أبى حنيفة وخاصة أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى ونزل الفسطاط ولزم دروس عبد الرحمن بن القاسم إمام المذهب المالكى بعد أستاذه مالك ودوّن ما سمعه عليه فى مدوّنة له تسمى الأسدية، وأخذ أسد يدرس فى القيروان مدوّنته عن ابن القاسم لطلابه، وتولّى القضاء لزيادة الله الأغلبى، فكان تارة يأخذ فى قضائه بمذهب مالك وتارة بمذهب أبى حنيفة حسب ما يتراءى له من الوجه الصحيح فى الحكم. ومعروف أنه كان القائد فى فتح صقلية، واستشهد بعد فتحه لبعض بلدانها سنة 213 هـ/828 م.

ونحن لا نصل إلى أواخر القرن الثانى الهجرى حتى يكون الطلاب فى تونس والقيروان عرفوا-معرفة جيدة-مذهب مالك عن طريق على بن زياد وأسد بن الفرات، كما عرفوا مذهب أبى حنيفة عن طريق عبد الله بن فروخ وأسد بن الفرات أيضا وإن غلب عليه مذهب مالك. ومضى المذهبان يتعايشان فى القرن الثالث الهجرى. ولكل منهما فقهاؤه، وكان مما مكّن للمذهب الحنفى فى القرن الثالث أن الأغالبة كانوا يختارون غالبا القاضى من الأحناف، كما كان يصنع العباسيون، وكانت كثرة الفقهاء فى القيروان تؤثر مذهب مالك. ونستطيع أن نميز بين فقهاء الأحناف المهمين حينئذ معمر بن منصور رفيق أسد بن الفرات فى تلمذته على عبد الله بن فروخ، ومثله سليمان بن عمران، وكان يلزم أسد بن الفرات، ومن فقهاء الأحناف أيضا لعهد زيادة الله الأغلبى الأول أبو محرز محمد بن عبد الله الكنانى، وكان هو وأسد بن الفرات شريكين فى القضاء بالقيروان، وتناظرا أمام زيادة الله فى النبيذ، فكان أسد يقول بتحريمه وأبو محرز يخالفه متابعا لرأى الأحناف وهم لا يحلّونه مسكرا وإنما قبل إسكاره.

ومن فقهاء الأحناف أيضا لعهد الدولة الأغلبية عبد الله بن محمد بن الأشج، قال الخشنى فى طبقاته: كان مذهبه مذهب الكوفيين، توفى سنة 286 هـ/899 م. وكان يعاصره الفقيهان الحنفيان أبو العباس بن القيار، وأبو العباس بن عبدون القاضى، ويقول الخشنى عنه:«كان حافظا لمذهب أبى حنيفة، ولاه إبراهيم بن أحمد (الأغلبى) القضاء ثم عزله» توفى سنة 297 هـ/909 م. ومنذ استولت الدولة العبيدية على القيروان من الأغالبة أخذ المذهب الحنفى يقل فقهاؤه ولما انتهت تلك الدولة أخذ المذهب المالكى فى الغلبة عليه حتى إذا كان المعز بن باديس وحمل الناس والفقهاء على مذهب مالك دون غيره من المذاهب إرضاء للجماهير فى رعيته قلّ فى القيروان وإفريقية التونسية من يعنى بالمذهب الحنفى، ونستطيع أن نذكر منهم فى أوائل عهد الدولة الحفصية محمد الزناتى إذ يقول صاحب الحلل السندسية إنه كان إماما فى المذهب الحنفى. ويعود المذهب الحنفى إلى ما كان له من الازدهار فى زمن الأغالبة أيام الحكم العثمانى، وبعبارة أدق منذ عهد يوسف داى (1008 هـ/1599 م-1047 هـ/1637 م) إذ

ص: 194

أصبح قاضى القضاة أو رئيسهم حنفيا، وسمّى فيما بعد شيخ الإسلام، ولم يكن حكم للقاضى المالكى ينفذ إلا إذا وافق عليه القاضى الحنفى، وتبع ذلك أن أخذ المذهب الحنفى يدرس فى تونس بالمدرسة الشماعية وغيرها. ومن مشايخ الحنفية فى القرن الحادى عشر الهجرى بالعهد العثمانى ممن ذكرهم ابن أبى دينار فى آخر كتابه «المؤنس» محمد بن شعبان إمام جامع يوسف داى، وأبو الحسن كرباصة المدرس بالمدرسة الشماعية، ويتكاثر بتونس فقهاء الأحناف منذ هذا التاريخ، ويضيف حسين خوجة فى كتابه: بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان جعفر كرباصة. وتنقطع أخبار من ينتمون إلى مذهب الشافعى، ويذكر عن سعيد بن الحداد الفقيه والمتكلم الكبير المارّ ذكره المتوفى فى مطلع القرن الرابع الهجرى أنه بدأ حياته مالكيا، ثم تحول إلى مذهب الشافعى ثم عاد إلى المذهب المالكى.

وكان المذهب المالكى قد أخذ فى الازدهار بالقيروان وإفريقية التونسية منذ مؤسسه أسد بن الفرات بما كان يلقى على الطلاب من مدوّنته الأسدية عن عبد الرحمن بن القاسم إمام المالكية بالفسطاط وكان يعاصره سحنون تلميذ على بن زياد، وقد أخذ عن أسد بن الفرات مدوّنته وحملها معه إلى ممليها عليه عبد الرحمن بن القاسم، وقرأها عليه، فأصلح له جوانب فيها، وعاد بها سحنون إلى القيروان، وأخذ يملى هذه الصورة الجديدة من المدوّنة على الطلاب وجاءوه من كل فجّ حتى قالوا إنه تخرج على يديه سبعمائة فقيه. ونسبت المدوّنة إليه-وكان ينبغى أن تنسب إلى عبد الرحمن بن القاسم-إذ أصبح اسمها مدوّنة سحنون، وطارت شهرتها فى بلده والبلدان المغربية جميعا. وهو أول من أقام نظام الحسبة فى القيروان حين تولى قضاءها سنة 234 هـ/848 م إلى وفاته سنة 240 هـ/854 م وخلفه فى حلقته ابنه محمد المتوفى سنة 256 هـ/869 م ويذكر مترجموه له تآليف مختلفة ومرّ بنا كتابه:«آداب المعلمين» . وكان يعاصره محمد بن إبراهيم بن عبدوس المتوفى سنة 260 هـ ا 873 م وكان جيد القريحة غزير الاستنباط، وله كتاب فى شرح مسائل مدونة سحنون، ويقال إنه لما تصفّح محمد بن عبد الله بن عبد الحكم إمام المالكية فى الفسطاط بعد ابن القاسم كتابه وبعض كتب محمد بن سحنون قال فى كتاب ابن عبدوس: هذا كتاب رجل أتى بعلم مالك على وجهه، وقال فى كتاب لابن سحنون هذا كتاب رجل سبح فى العلم سبحا. ونلتقى بعدهما بيحيى بن عمر الكنانى المتوفى سنة 289 هـ/901 م وكان فقيها، وله كتاب فى الرد على الإمام الشافعى، وكتاب ثان فى الحسبة بعنوان:«أحكام السوق» وهو منشور.

وحين استولى العبيديون على القيروان اضطهدوا فقهاء المذهب المالكى إذ حاولوا نقلهم من المذهب المالكى السنى إلى مذهبهم الإسماعيلى فعارضوهم، وناظروا دعاتهم مناظرات حادة، وكان من أهم المعارضين لهم والمناظرين المجادلين لدعاتهم محمد بن اللباد رئيس المالكية وإمامهم

ص: 195

بالقيروان، فسجنوه فترة، ثم ردوا إليه حريته على أن يلزم بيته ولا يلقى الطلاب فى جامع عقبة، فكان يلقاهم فى بيته كما مرّ بنا إلى أن توفى سنة 333 هـ/941 م وله مصنفات مختلفة منها كتاب فى الطهارة وكتاب فى فضائل مالك. وانحسرت غمة العبيديين عن القيروان سنة 361 هـ/971 م برحيل المعز العبيدى إلى مصر. ولمع سريعا تلميذ لابن اللباد، هو عبد الله بن أبى زيد المتوفى سنة 386 هـ/996 م وإليه انتهت رياسة المالكية بالقيروان والبلاد المغربية، وإليه رحل الطلاب من جميع آفاق المغرب، ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب إنه يعد المجدّد للسنة ولمذهب مالك فى المغرب بعد انحسار حركة التشيع، وله الرسالة الجامعة لعقيدة أهل السنة ردّ بها على الشيعة ولها شروح كثيرة، وله كتاب النوادر والزيادات على مدوّنة سحنون، ويقول ابن خلدون:«جمع فيها ابن أبى زيد جميع ما فى الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال» . ومن تلاميذه أبو الحسن القابسى المار ذكره بين المحدثين. ونلتقى بعده بأبى عمران الفاسى المتوفى سنة 430 ثم بأبى إسحاق إبراهيم التونسى المتوفى بمنتصف القرن الخامس وله شرح على المدونة باسم التعليقة، كما نلتقى بأبى الحسن اللخمى المتوفى سنة 478 هـ/1085 م وله كتاب التبصرة.

ويلقانا بعده الإمام المالكى الحافظ المازرى محمد بن على الصقلى المذكور بين المحدثين، ويقول ابن فرحون عنه: إمام أهل إفريقية والمغرب، وصار الإمام لقبا له، فلا يعرف بغير الإمام المازرى، درس الفقه والأصول وله فيهما كتب قيمة.

وفى أواسط القرن السادس الهجرى استولى عبد المؤمن على الاقليم التونسى ولم يحاول -فيما يبدو-نشر المذهب الظاهرى مذهب دولته فيه، واكتفى بأن يذكر فى خطبة الجمعة اسمه أو اسم المهد ابن تومرت زعيم دولته ولذلك ظل المذهب المالكى مسيطرا ولا نسمع عمن اتبعوا المذهب الظاهرى فى عهدهم وعهد الدولة الحفصية التى خلفتهم إلا عن بعض أفراد اعتنقوا المذهب الظاهرى من حين إلى حين.

ومن كبار فقهاء المالكية فى القرن السابع الهجرى الحافظ الفقيه عبد العزيز القرشى المعرو بابن بزيزة المذكور بين المفسرين ومن أهم تلاميذه أبو القاسم بن أبى بكر المعروف بابن زيتون قاضى تونس فى صدر الدولة الحفصية المالكى المتوفى سنة 691 هـ/1291 م وهو محرر عقد الصلح بين المستنصر والجيش الفرنسى بعد موت لويس التاسع تحت أسوار قرطاجنة سنة 669 هـ/1271 م. وفى أواخر هذا القرن السابع وصل من القاهرة كتاب مختصر ابن الحاجب فى الفقه المالكى وشغل بشرحه علماء البلدان المغربية. ونلتقى فى القرن الثامن بمحمد بن عبد السلام الهوارى مجدد الحركة الفقهية كما يقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وشيخ الجيل التالى المتوفى سنة 749 هـ/1349 م المتولى قضاء الجماعة، له شرح لمختصر ابن الحاجب يعد من أهم شروحه، كما يقول ابن فرحون، ومن أنبغ تلاميذه ابن خلدون المؤرخ والفقيه المالكى الكبير، وسنترجم له بأخرة ن هذا الكتاب، ومن أنبغهم أيضا محمد بن عرفة الورغمى

ص: 196

المتوفى سنة 803 هـ/1400 م، شيخ شيوخ عصره، كما يقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب، ويفتتح ابن فرحون ترجمته بقوله:«هو الإمام العلامة المقرئ الفروعى الأصولى البيانى المنطقى شيخ الشيوخ، وبقية أهل الرسوخ، وله تآليف منها تقييده الكبير فى المذهب المالكى فى نحو عشرة أسفار، أقبل الناس على تحصيله شرقا وغربا» . ومن تلاميذه فى القرن التاسع الهجرى محمد بن عمر الأبّى المذكور بين المفسرين والمحدّثين، وله فى الفقه شرح على مدوّنة سحنون.

طبيعى أن يتراجع ازدهار دراسات الفقه المالكى فى العهد العثمانى، وخاصة منذ عد يوسف داى فى النصف الأول من القجن لحادي عشر الهجرى، إذ أصبح رئيس القضاة حنفيا، وأصبح حكم القاضى المالكى لا ينفذ إلا بعد مصاده عليه، ويذكر ابن أبى دينار فى آخر كتابه المؤنس من فقهاء المالكية بالقرن الحادى عشر محمد فتاتة المدرس فى جامع الزيتونة، ومثله سعيد الشريف وعبد القادر الجبالى، وتظل دراسة الفقه المالكى ناشطة فى جامع الزيتونة إلى العصر الحديث.

ويضيف حسين خوجه فى كتابه ذيل بشائر أهل الايمان بفتوحات آل عثمان: سعيد الشريف ومحمد الحجيّج وله حاشيتان على مختصر خليل فى الفقه.

ومن يقرأ كتب تراجم العلماء والفقهاء-منذ القرن الثانى الهجرى يشعر كأنما كانت القيروان مرآة للمذاهب الكلامية التى نشأت فى العراق، إذ كانت مبادئها ونظرياتها تثار فى القيروان، ويتحاور فيها ويتجادل كثيرون، ومن أوائل ما كان من ذلك الجدل فى مبادئ الخوارج، وخاصة مبادئ الإباضية والصّفرية التى اعتنقها كثيرون من أهل المغرب-منذ أوائل القرن الثانى الهجرى-وكانت قد اقترنت بهما فى المشرق فكرة المسلم مرتك الكبيرة أما الصفرية فذهبت إلى الحكم عليه بالكفر وغالت فى سفك الدماء كما مر بنا فى الفصل الماضى، وقالت الاباضية إنه كافر نعمة لا كافر ملة وحكمت عليه بأنه مسلم عاص ولم تعدّ دار المسلمين -مثل الصفرية-دار حرب، وذهب أهل السنة من المالكية وغيرهم إلى أنه مسلم فاسق، وذهبت المرجئة إلى إرجاء الحكم عليه لربه يوم القيامة، كما ذهبت إلى أنه يكفى فى الإيمان القول أى التلفظ بالشهادتين، ولا ضرورة فيه للعمل، وهو أداء الفروض الدينية، بينما أهل السنة يرون أن الإيمان قول وعمل، فمن لم يؤدّ الصلاة والفروض الدينية لا يعد مسلما. ويروى أبو العرب فى ترجمة يحيى بن سلام المتوفى سنة 175 للهجرة والمذكور بين المفسرين أنه كانت تجرى مناقشات بمجلسه فى الإرجاء. وكان مذهب الاعتزال والمعتزلة قد ازدهر بالمشرق فى القرن الثانى الهجرى وتجادل أهل البصرة وبغداد طويلا ومبادئه الخمسة المشهورة وهى القول بالوحدانية وبأن مرتكب الكبيرة فى منزلة بين الإيمان والكفر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقول بالعدل على الله وأنه يعمل الأصلح لعباده، وأنه منفذ-لا بد-وعده ووعيده.

ص: 197

وينتقل هذا المذهب إلى القيروان ويتجادل أهل السنة مع معتنقيه، وفى خبر عند أبى العرب، أنه كان للمعتزلة بالقيروان سقيفة يجتمعون فيها، وتوقف شخص بإزائهم وهم يتجادلون يستمع إليهم.

وإذا مضينا إلى القرن الثالث وجدنا محنة خلق القرآن التى امتحن بها الفقهاء من أهل السنة فى عصور المأمون والمعتصم والواثق ينتقل الجدل والحوار فيها إلى القيروان، فمنهم من يقول إن القرآن-كما قال أهل السنة-قديم، ومنهم من يقول-كما قال المعتزلة-إنه حادث مخلوق غير قديم. ويذكر أبو العرب فى طبقاته مناظرة حدثت أيام زيادة الله الأغلبى (201 - 223 هـ) عن خلق القرآن كان الجعفرى يقول فيها إنه غير مخلوق، والعنبرى يقول إنه مخلوق. وفى طبقات أبى العرب أنهم كانوا يتجادلون كثيرا فى التشبيه على الذات العلية. واتسع الجدل فى ذلك كله بجامع عقبة، إذ كان لكل فرقة ممن ذكرناهم حلقة يجتمعون فيها ويتجادلون جدلا كثيرا. وكان أهل السنة يضيقون بهذا الجدل وما يحدثه من جلبة وضوضاء فى جامع عقبة حتى إذا تولّى سحنون قضاء القيروان سنة 234 هـ/848 م «فرّق-كما يقول مترجموه- حلقات أهل البدع منهم فى المسجد الجامع وشرد أهل الأهواء وكانوا فيه حلقا: من الخوارج:

صفريّة وإباضية ومعهم معتزلة، يتناظرون ويظهرون زيفهم. . وأمرهم أن لا يجتمعوا فيه» وقد أتاح هذا الجدل الواسع للمعتزلة وغيرهم فى القيروان حركة جدلية واسعة، حتى ليصف أبو العرب والخشنى فى طبقاتهما غير واحد بأنه كان من الجدليين المناظرين الذين يعرفون كيف يدفعون الخصوم بالحجج والبراهين الساطعة، ولم يصفا بذلك المعتزلة أو كما يسميانهم أحيانا العراقيين بل يصفان بذلك كثيرين من أهل السنة. ومن كبار متكلميهم المجادلين عن عقيدتهم المفحمين لخصومهم أبو عثمان سعيد بن محمد المشهور بابن الحداد رأس المدرسة الكلامية بالقيروان كما يقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وقال الخشنى فى طبقاته: غلب عليه الكلام والجدل والمناظرة. . وله مقامات كريمة ومواقف محمودة فى الدفاع عن الاسلام والذّبّ عن السنة» ويصفه المالكى فى رياض النفوس بأنه كبير المناضلين عن السنة وكانت له مجالس كثيرة مع أهل العراق (يريد المعتزلة) القائلين بخلق القرآن من أهل القيروان، ويسوق الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب من هذه المجالس مجلسا تحاور فيه مع عبد الله بن الأشج فى خلق القرآن وأسكته وقطعه، ولما سلّط عبيد الله المهدى داعيته أبا العباس المخطوم لجدال فقهاء القيروان ومحاولته إقناعهم بمبادئ دعوتهم الإسماعيلية كان أكبر من تصدّى من أهل السنة له ولغيره من دعاتهم فى أربعين مجلسا سجل منها الخشنى فى طبقاته أربعة مجالس ونسوق مثالا من هذه المجالس، فقد سأله أبو العباس المخطوم هل يجوز تقديم المفضول (أى أبى بكر وعمر فى الخلافة) على الأفضل (أى على) فأجابه بمقال من القرآن هو قوله تعالى:{وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ}

ص: 198