الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرّابع
الشعر والنثر
1 -
تعرب (1) ليبيا
أخذت ليبيا والبلدان المغربية تدخل فى الإسلام منذ فتحها العرب، ومنذ اعتنقته ليبيا لم تقم فيها أى حركة ثورية ضد العرب، كما حدث أيام كسيلة والكاهنة فى إفريقية التونسية والجزائر، وحتى هما لم يعودا إلى شق عصا الطاعة منذ عهد حسان بن النعمان (71 - 85 هـ). ومع ذلك فإن الإسلام عمّهما بحيث لا نصل إلى أواخر القرن الأول الهجرى حتى يكون قد تغلغل إلى جميع البقاع فى المغرب، بين الحضر شمالا والبدو جنوبا وفى السهول وعلى سفوح الجبال وفى الهضاب وفى الصحارى، وهو ما ملأ نفوس المؤرخين الغربيين حيرة، فإن الفينيقيين أقاموا بين البربر قرونا، ولم يستطيعوا نشر دينهم ولغتهم فيهم بهذه الصورة الجماعية، وبالمثل الرومان، وظلت المسيحية التى حاولوا نشرها بين البربر غريبة ولا تعرف إلا فى بعض البلدان الشمالية وبتأثير جاليات رومانية فيها. وأخذت تنسحب وتتقوض أمام المد الإسلامى منذ القرن الأول الهجرى. ولا ريب فى أن مرجع ذلك إلى أن دين الإسلام دين الفطرة الإنسانية، ويخلو من نظرية التثليث المعقدة عند المسيحيين، وأيضا فإنه يحرر البربر وغيرهم من فكرة الاستعباد للرومان وغير الرومان ممن يستولون على الديار ويتملكون كل ما فيها من الخيرات وطيبات الرزق، ثم هو لا يظلم أهل البلاد المفتوحة أى ظلم مالى أو غير مالى، وهو يسوى بين أتباعه من العرب وبين مسلمى البلدان المفتوحة فى جميع الحقوق: فى الغنائم وفى الضرائب وفى مختلف الشئون.
ظلت ليبيا طوال القرن الأول الهجرى مركزا مهما للجيوش العربية، وكان كل جندى فيها
(1) انظر فى تعرب ليبيا الجزء السادس من تاريخ ابن خلدون وكتاب وصف إفريقيا للوزان ورحلة العبدرى وكتاب ورقات عن الحضارة العربية للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وتاريخ ليبيا للدكتور إحسان عباس وكتاب النشاط الثقافى فى ليبيا للدكتور أحمد مختار عمر.
يحاول تحفيظ بعض البربر الليبيين القرآن وتعليمهم مبادئ الدين الحنيف والعربية، والفرائض المكتوبة عليهم وينبغى أن يؤدوها على خير وجه، ولم تلبث الكتاتيب أن أسست فى المدن وغير المدن، مما أسرع بأهل ليبيا إلى دخول الدين الحنيف أفواجا بعد أفواج، ومما أسرع بهم إلى التعرب الاختلاط بالعرب والمصاهرة بينهم وبين أسرهم. وأيضا مما أسرع بهم إلى التعرب هجرات مبكرة للقبائل والعشائر العربية نزلت ديارهم، إذ يذكر اليعقوبى المتوفى فى أواخر القرن الثالث الهجرى أنه سكن جبل برقة الشرقى عشائر يمنية من الأزد ولخم وجذام والصّدف وغيرهم وسكن جبل برقة الغربى عشائر من غسان والأزد وتجيب، ونزلت الرمادة عشائر من بنى مدلج وبلىّ وجهينة، ونزلت ودّان فى الهضبة جنوبى طرابلس عشائر سهمية وحضرمية، وكل ذلك عمل على المزج بين العرب والليبيين، ولا نكاد نصل إلى منتصف القرن الخامس الهجرى حتى يحدث طوفان الهجرة الأعرابية الكبرى لبنى سليم وبنى هلال من صعيد مصر إلى ليبيا والديار المغربية على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، ونزلت أمواج بنى سليم-وخاصة بنى قرة منهم-فى برقة، وتغلغلت أسراب منها فى ليبيا إلى إقليم طرابلس فى الغرب، ومعها عشائر من بنى هلال. وأعد هذا الطوفان الأعرابى الكبير ليبيا ليتكامل تعربها، إذ انصهر البربر بها فى الأعراب، وأصبحوا معا شعبا عربيا كبيرا فى تقاليده وعاداته وتناول حياته اليومية وفى أزيائه وملابسه وطعامه وفى أحزانه وأتراحه وفى أفراحه وأعراسه، وتعرّبوا أيضا فى الأخلاق والشّيم الكريمة من المروءة والنجدة والفروسية، ولم تتعرب برقة وحدها هذا التعرب الواسع فى جميع مناحى الحياة، بل تعربت أيضا طرابلس وسكان إقليمها من أفراد قبيلة هوارة البربرية، ويشهد بذلك ابن خلدون قائلا عنهم فى الجزء السادس من تاريخه:«إنهم صاروا فى عداد الناجعة من عرب بنى سليم فى اللغة والزّىّ وسكنى الخيام وركوب الخيل والإبل وممارسة الحروب وإيلاف الرحلتين فى الشتاء والصيف فى تلالهم، قد نسوا رطانة البربر واستبدلوا منها فصاحة العرب فلا يكاد يفرّق بينهم» ويشهد ابن خلدون نفس الشهادة لبنى يفرن فى جبل نفوسة قائلا: «إنهم تبدّوا مع بنى سليم، ونسوا رطانة الأعاجم وتكلّموا بلغات العرب، وتحلّوا بشعارهم فى جميع أحوالهم» . واتسع هذا الشعور بالعروبة بين البربر، فإذا هم ينسبون أنفسهم إلى القبائل العربية شمالا وجنوبا، وكانت هوارة تنسب نفسها إلى اليمن كما يقول اليعقوبى. وبذلك لا نبالغ إذا قلنا إن بربر ليبيا تحوّلوا شعبا عربيّا تامّا منذ نزل بديارهم بنو سليم وبعض عشائر من بنى هلال، فقد أصبحوا عربا دينا إذ اعتنقوا الدين الحنيف، وعربا أسلوب حياة وعادات وتقاليد، وعربا زيا وملبسا ومطعما، وعربا لغة، كما لاحظ ابن خلدون.
ويبدو أن انتصار العربية على اللغة الوطنية المغربية فى ليبيا وغيرها من بلدان المغرب كان حاسما منذ اعتناق البربر للدين الحنيف، وكانوا يسمون لغتهم-كما يقول الحسن الوزان- آوال أمازيغ أى اللغة النبيلة، وسماها العرب اللغة البربرية، وكانت لهجات شتى. وفى العصر
الحديث اكتشفت نقوش فى إقليمى تونس والجزائر وفى الصحراء الكبرى تدل على أن البربر عرفوا الكتابة، غير أنه لم يؤثر عنهم أى كتاب دينى ولا أدبى ولا عملى زراعى مثلا، ومعنى ذلك أن البربرية لم يكن لها تراث تستطيع أن تلقى به العربية، بحيث يمكن أن يحدث صراع بينها وبين العربية، ومن أجل ذلك لم تقاوم العربية أى مقاومة، بل سرعان ما قهرتها واحتلت ألسنة أهلها وأصبحت لغة الحياة فى ليبيا وغيرها من البلدان المغربية. ولكن هل حدث فيها ما حدث مثلا فى مصر من حدوث تحريفات فى الكلم العربية أهّل لظهور اللغات العامية. وكلام ابن خلدون عن هوارة سكان إقليم طرابلس وبنى يفرن سكان جبل نفوسة يدل على أنه لم تشع فى ألسنتهم عامية مستحدثة، إذ قال إنهم استبدلوا من رطانة البربر فصاحة العرب، مما يؤكد أن الفصحى شاعت فى ليبيا وظلت فى ألسنة أهلها طويلا.
وإذا كان ابن خلدون شهد لأهل طرابلس من هوارة ولبنى يفرن فى نفوسة بأنهم لم يكونوا يقلّون فصاحة عن بنى سليم فإن العبدرىّ الرحّالة المغربى يشهد لبرقة-حين مرّ بأحيائها فى رحلته سنة 688 - بفصاحة أهلها فصاحة تامة، إذ يقول:
«كلام عرب برقة من أفصح كلام عربى سمعناه، وعرب الحجاز أيضا فصحاء، ولكن عرب برقة لم يكثر ورود الناس عليهم، فلم يختلط كلامهم بغيره، وهم الآن على عربيتهم، لم يفسد من كلامهم إلا القليل، ولا يخلّون من الإعراب إلا بما لا قدر له بالإضافة إلى ما يعربون. وقد سألت بدويا لقيته يسقى إبله فى «الحصوى» على ماء يقال له أبو شمال: هل نورد على أبو شمال، وذكرته بالواو فى موضع الخفض على عادة أهل المغرب، فقال لى: نعم تطئون أبا شمال، وأثبت النون فى الفعل ونصب المفعول. وليس فى المغرب عربى ولا حضرى يفعل ذلك. ومررنا بأطفال منهم يلعبون، فقال لنا واحد منهم: يا حجاج معكم شئ تبيعونه، وأثبت النون وسكّن الهاء للوقف. ورأيت أعرابيا منهم قد ألّحت عليه امرأة تسأله (شيئا) من طعام يأكله. فقال لها: والله ما تذوقينه، فأتى بضمير المخاطبة على وجهه، وأثبت النون وسكّن الهاء.
وسمعت شخصا ينشد فى الركب مكترى راحلة، ويقول: من يكرى زاملة، فسمعه بدوى، فقال له: أعندك الزاملة؟ فقال: نعم: فلا تقل من يكرى وقل: من يستكرى. وذكر لى بعض أصحابنا ممن حجّ معنا أن شخصا شرب من بئر، فقال: فى هذا الماء رائحة الحبل، وحرّك الباء بالفتح على لغة أهل المغرب يعنى الرّشاء المستسقى به، فسمعه أعرابى، فقال له: ومن أين جاءت رائحة الحبل إلى الماء، فأشار المغربى إلى الرّشاء، فقال له الأعرابى، قل الحبل ولا تقل الحبل. وأما نادر ألفاظ اللغة وما جرت عادة أهل المغرب بتفسيره فهم-حتى الآن- يتحاورون به على سجيّتهم، فمن ذلك أن شخصا منهم وقف علىّ بموضع نزولى من محلّة الرّكب، وكانت الترعة (قناة الماء) منه بعيدة، فقال لى: يا سيدى تدعنى أظهر يعنى أخرج، وسألت
شخصا منهم عن الطريق، فقال لى: إذا ظهرتم من الغابة فخذوا صوب (ناحية) كذا وكذا يعنى إذا خرجتم منها، وهذا اللفظ قد أكثر فيه أهل الغريب فى تفسير قول عروة بن الزبير رضى الله عنه: لقد حدثتنى عائشة-رضى الله عنها-زوج النبى صلى الله عليه وسلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى العصر والشمس فى حجرتها قبل أن تظهر. . وأتوا عليه بشواهد وأمثال. وسمعت صبيا منهم ينادى فى الركب: يا حجاج من يشترى الصفيف؟ فلم يفهم عنه أكثر الناس، فقلت له: اللحم معك، فقال: نعم وأبرز لحم ظبى مقدّد (مجفّف) وهذا اللفظ (أى الصفيف) ذكره الإمام مالك فى الموطأ وقال بإثر الحديث: الصفيف القديد. وسألت شخصا عن ماء هل هو معين (سائل) فقال لى: هو ماء عدّ (جار) وهذا اللفظ فسّره أبو عبيد فى غريبه، وما يتكلمون به من الغريب أكثر من أن يحصى».
وإنما نقلت هذا النص بطوله من رحلة العبدرى-مقارنا بصورته فى كتاب ورقات للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب-لأهميته، ولأنه يثبت أن أهل برقة كانوا لا يزالون يتكلمون بالفصحى حتى أواخر القرن السابع وكانت فصحاهم تتفوق على فصحى أهل الحجاز، معللا العبدرى ذلك بأنهم لا يختلطون بغيرهم اختلاط أهل الحجاز بالحجاج من كل فجّ وطريق، ويقول إنهم لا يزالون يتمسكون بالإعراب مع سقوطه حينئذ من الألسنة فى بلدان العالم الإسلامى فى المغرب-كما يقول العبدرى-وفى غير المغرب إلا فى زبيد باليمن كما أوضحنا ذلك فى حديثنا بالجزء الخامس من هذه السلسلة. ويضرب مثالا لبدوى أثبت فيه نون الرفع فى المضارع ونصب المفعول وهو «أبا» فى قوله للعبدرى:«تطئون أبا الشمال» ويعلق العبدرى على ذلك قائلا: «ليس فى المغرب عربى ولا حضرى يفعل ذلك» ومثل المغرب مصر فى لغتها العامية. وذكر مثالا ثانيا أثبت الأعرابى فيه ياء المخاطبة مع نون الرفع فى قوله «تذوقينه» والاثنان يحذفان فى العامية المصرية والمغربية ويورد مثالا على دقة الحس اللغوى وأن بدويا سمع شخصا يقول من يكرى زاملة أى بعيرا راحلا، ويكرى معناها يؤجر، فسمعه بدوى، فقال له أعندك الزاملة؟ فقال له نعم، فنبّهه إلى أنه يستخدم فعل يكرى وهو يريد يستأجر، فقال له لا تقل: من يكرى وقل من يستكرى أى يستأجر. وذكر العبدرى أنه سمع بدويا يقول أظهر بمعنى أخرج، ويعلق على ذلك بأن لفظه ظهر بهذا المعنى ورد فى حديث نبوى وعدّ غريبا، ولذلك أكثر أصحاب الغريب فى الحديث النبوى من الإتيان له بالشواهد والأمثال، ثم يذكر أن صبيا نادى فى الركب من يشترى الصّفيف؟ ولم يفهم من معه معنى الصفيف وهو اللحم المقدد، وفهمه هو لأنه قرأه فى كتاب الموطأ للإمام مالك وتفسيره له بأنه القديد، ومن ذلك أنه يسأل شخصا عن ماء هل هو معين أى سائل فقال له عدّ أى جار، وقد عرف معناها لأنه قرأها عند أبى عبيد القاسم بن سلام فى كتابه «غريب الحديث». ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب فى الجزء الأول من كتابه الورقات بعد أن نقل هذا الفصل الطريف من رحلة العبدرى: «إن
ممّا نقلناه من رحلة العبدرى وما سنذكر من أقوال أهل برقة فيما بعد يتضح لك أن لهجة هؤلاء الأعراب لم تتغير وأنها إلى الآن قريبة جدا من أمها الفصحى» -ويستدل على ذلك ببعض الأشعار الشعبية لأهل برقة بعد الاحتلال الإيطالى لوطنهم، ملاحظا أن اللهجة الليبية الحديثة عربية خالصة وإن اعتراها ما اعترى سائر اللهجات العربية من إهمال الإعراب. وأضاف الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب إلى هذه الملاحظات فى الجزء الأول من كتابه الورقات ملاحظة مهمة فى الجزء الثالث منه، إذ قال إن استخدام نون النسوة مع الأفعال فى مثل:
«يأكلن-يشربن-يغزلن» منتشر فى كلام الأعراب بنواحى طرابلس وبرقة، وهى مبثوثة فى أقوالهم الشعرية. ويبدو أن أهل ليبيا ظلوا يحافظون بقوة على الفصحى-بعد الهجرة الأعرابية إلى ديارهم-قرونا متطاولة ربما امتدت حقبا بعد شهادة العبدرى فى أواخر القرن السابع الهجرى.
2 -
نشاط (1) الشّعر والشعراء
لعل أول ما أنشد من الشعر فى ليبيا كان على لسان الشعراء الوافدين عليها مع الجند الفاتح لها وللبلاد المغربية، ونرمز لهم بالشاعر الهذلى المشهور أبى ذؤيب، فقد خرج مع عبد الله بن الزبير فى جند عبد الله بن سعد بن أبى سرح إلى فتح إفريقيا سنة ست وعشرين وأعجب بشجاعة ابن الزبير حين فتك فى موقعة ضارية بوالى البيزنطيين: جريجوريوس وتسميه العرب جرجير، ومن قوله فى الإشادة ببطولته:
وصاحب صدق كسيد الضّرا
…
ء ينهض فى الغزو نهضا نجيحا
والسّيد: الذئب، والضّراء: شجر يتوارى فيه وهو أفتك الذئاب فى الجزيرة العربية. وكثير من أمثال أبى ذؤيب الشاعر النابه استقروا فى برقة وطرابلس ينشدون أشعارهم وينشرون الإسلام ويأخذ البربر عنهم القرآن الكريم والعربية. غير أنه لم يكن يهمهم-فيما يبدو-أن تحمل عنهم أشعارهم أو أن تذكر أخبارهم، فهم من عامة العرب المسلمين، وهم آخر من يفكر فى هذا الشرف. وممن نزل ليبيا من الشعراء النابهين دعبل الشاعر العباسى، نزلها فى العقد الثالث
(1) انظر الأغانى فى أبى ذؤيب ودعبل والحلة السيراء فى عبد الله بن محمد الأغلبى وابن سوادة وخليل بن إسحاق وإنباه الرواة فى المكفوف وخلوف والودانى والخريدة (قسم شعراء مصر) فى ابن البرقى.
من القرن الثالث، نزلها على إثر خلاف بينه وبين والى مصر، وكان قد ولاه أسوان فتركها واتجه إلى ليبيا والبلاد المغربية، ويبدو أنه حاول الرحلة عن طريق واحة سيوه، واتجه منها إلى واحات ليبيا، وربما كان يقصد القيروان لمدح أمراء الأغالبة، غير أن الموت أدركه فى زويلة عاصمة فزّان، فلم تحظ به ليبيا ولا حظى به الأغالبة.
وكانت طرابلس قد أصبحت تابعة للأغالبة فى إفريقية التونسية، بينما تبعت برقة مصر، ويتولى طرابلس بعض شعراء الأغالبة مثل عبد الله بن محمد الأغلبى واليها لابن عمه أبى الغرانيق سنة 259 وكان-مع اهتمامه بالشعر-يعنى بالفقه والحديث النبوى، وعزله عنها أبو الغرانيق وولاه صقلّية ثم أعاده إليها، ولم يلبث أن ولاه القيروان، ولم يذكر مترجموه له سوى قطعة أرسل بها إلى صديقه موسى بن مرزوق لما بلغه نبأ عزله عن طرابلس وله يقول:
قد أتى فى الكتاب ما قد علمنا
…
من تناء ورحلة وفراق
فعليك السلام إن فراقى
…
قد دنا والفراق مرّ المذاق
وكان على شاكلته فى نظم الشعر ابن عمّ له هو محمد بن زيادة الله والى طرابلس لإبراهيم بن أحمد الأغلبى (262 - 289 هـ) وكان عالما وشاعرا خطيبا، وله كتاب راحة القلب والزهر. وأشعر منه ومن سالفه أحمد بن سفيان بن سوادة الأغلبى الذى ولى طرابلس وأعمالها سنوات كثيرة. وأنشد له ابن الأبار قصيدتين حماسيتين يقول فى إحداهما:
قرّبوا الأبلق إنّى
…
أعرف الخيل العتاقا
وعليها أصرع الأب
…
طال طعنا واعتناقا
وأروّى من نجيع ال
…
هام أسيافا رقاقا
وليس بين أيدينا ما يؤكد أن هؤلاء الولاة الأغلبيين الشعراء أحدثوا فى طرابلس حركة أدبية أغدقوا فيها الأموال على الشعراء كما كان يصنع قبلهم يزيد بن حاتم المهلبى حين ولى القيروان سنة 154 فإنه أحدث فيها حركة أدبية واسعة نثر فيها على الأدباء أموالا طائلة، ومع ذلك نظن ظنا أن تولى هؤلاء الولاة الأغالبة الشعراء لطرابلس كان له بها أثر غير قليل، إذ نجد الشعر يسيل على ألسنة بعض الليبيين من اللغويين والفقهاء وغيرهم، من ذلك أن إسحاق بن خنيس هجا العالم اللغوى عبد الله بن محمود المكفوف بقصيدة طويلة قال فيها:
ألا لعنت سرت وما جاء من سرت
…
فقد حلّ من أكنافها جبل المقت
فقال فيه المكفوف:
إن الخنيسىّ يهجونى لأرفعه
…
إخسأ خنيس فإنّى غير هاجيكا
لم تبق مثلبة تحصى إذا جمعت
…
من المثالب إلا كلّها فيكا
ويقول مترجمو المكفوف السّرتى إن له أشعارا فصيحة وأراجيز غريبة، وقد سقطت جميعا من يد الزمن ولم يصلنا منها شئ. وكان يعاصره خليل بن إسحاق شاعر المهدى الفاطمى وابنه القائم وسنفرد له ترجمة عما قليل. ونلتقى بخلوف بن عبد الله البرقى النحوى المقرئ نزيل صقلية، وكان يعيش فى أواسط المائة الخامسة وله ترجمة فى إنباه الرواة للقفطى، ومن قوله:
كتبت إليك مشتاقا
…
كثير الوجد توّاقا
سئولا داعيا للّ
…
هـ آصالا وإشراقا
بأن تبقى على الأيّا
…
م للأقران سباقا
والقطعة رقيقة وهى تدل على حس دقيق وذوق مرهف وقدرة على صياغة الكلام صياغة رشيقة، وله:
يا أيها المغرور دهر
…
ك كم تقيم على الغراره
إذ جمع شملك للشّتا
…
ت وربح مالك للخسارة
والبيتان فى الدعوة للزهد والانصراف عن حطام الدنيا والاغترار بما فى يده منها، فليس فى شمله إلا الشتات والفراق وليس فى يده إلا الضياع والخسارة. وكان يعاصره أبو الحسن على بن أبى إسحاق الودّانى صديق ابن رشيق وصاحب الديوان بصقلية ومن شعره:
من يشترى منى النهار بليلة
…
لا فرق بين نجومها وصحابى
دارت على فلك الزمان ونحن قد
…
درنا على فلك من الآداب
ودنا الصباح-ولا أتى-وكأنه
…
شيب أطل على سواد شباب
والألفاظ منتقاة والصور بديعة فلا فرق بين النجوم المتألقة ووجوه صحابه المشرقة وقد دارت الليلة على فلك الزمان ودار مع صحابه على فلك الآداب، وهى مشاكلة بديعة. وقرب الصباح ويقول: لا أتى فى خفّة وعذوبة، ويتصوره بأضوائه التى تنفّلت فى آخر تلك الليلة كأنه شيب مشتعل يطل على سواد شباب. ونلتقى بشاعر برقى أقام بالقاهرة طويلا مما جعل العماد يترجم له بين شعراء مصر فى الخريدة هو أبو الحسن على بن محمد المعروف بابن البرقى المتوفى سنة 522 ومن شعره الطريف الذى أنشده العماد:
رمانى الدّهر منه بكل سهم
…
وفرّق بين أحبابى وبينى
ففى قلبى حرارة كلّ قلب
…
وفى عينى مدامع كلّ عين