الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشرقة السماء وكأنما هى لآلئ تتداخل فى نسيجها المحكم، ولكأنها وهى ترنو خلال الظلام أحداق روم ليس لهن جفون فهى ما تنى رانية مديمة نظرها، ولكأنما الفلك المستدبر على الدجى بحر أحاط بتلك النجوم وهن سفن لله. كأن لا فارق كونىّ بين البر والبحر والسماء عند ابن أبى حديدة وغيره من الشعراء التونسيين، فهم يتغنون بسفن البر من الإبل، ويتغنى ابن أبى حديدة بسفن السماء من النجوم.
أبو على بن إبراهيم
(1)
لم يزد صاحب الحلل السندسية فى التعريف به عن قوله إنه كان كاتبا، ا، وأكبر الظن أنه توزرى الأصل، والتحق بدواوين الدولة الحفصية فى القرن السابع الهجرى. وتوزر هى عاصمة واحات الجنوب التونسى، وكان لها نهر ينقسم إلى ثلاثة أنهار كبار، وكل نهر من الثلاثة ينقسم إلى ستة جداول، وأتاح لها ذلك أن يكثر بها النخيل والبساتين، ولأبى على بن إبراهيم وصف رائع لها ولنخيلها وبساتينها وجداول مياهها ضمّنه قصيدة له رائعة، ومن قوله فى نخيلها:
النّخل مثل عرائس مجلوّة
…
فى سندسيّات اللباس تبختر (2)
وكأنما نظم الحلىّ لنحرها
…
من لؤلؤ وزبرجد يتخيّر
وترى الزّبرجد عسجدا ويواقتا
…
ذا أحمر قان وهذا أصفر (3)
أحلى من العسل المصفّى طعمه
…
ومذاقه لا يدّعيه السّكّر
وهو يقول كأن حدائق النخل بتوزر فرح كبير يضم ما لا يكاد يحصى من عرائس تجلى فى ثياب سندسية اللون تتبختر فيها، وقد استدارت حول نحورها عقود متخيرة من اللؤلؤ المضيئ فى أول نشأة البلح وإنها لتستحيل إلى زبرجد أخضر، ويستحيل الزبرجد إما عسجدا ذهبيا وإما ياقوتا قانيا، ومنه الرطب وغير الرطب، وإن طعمه لأحلى من العسل، مع مذاق بديع لا يستطيع السكر أن يدّعيه لنفسه لجماله وحسنه. ويصف بساتين توزر وأشجارها وأزهارها، فيقول:
الدّوح قد لبست غلائل سندس
…
تختال فى أيدى النسيم وتخطر (4)
حلّت هواديها عقود أزاهر
…
فتبرّجت عجبا لمن يتبصّر (5)
والطير قد رقيت منابر قضبها
…
خطباؤها تشدو بلحن يسحر
(1) انظر فى أبى على بن إبراهيم وقصيدته الحلل السندسية 2/ 435.
(2)
سندسيات: نسبة إلى السندس وهو الديباج.
(3)
العسجد: الذهب.
(4)
غلائل: جمع غلالة: ثوب رقيق. تخطر: تتبختر.
(5)
هواديها: مقدماتها.
والقضب يثنيها النّسيم فتنثنى
…
بعض يقبّل بعضها ويقهقر
كعقائل تبغى السّرار فتلتقى
…
لصغا الحديث وتارة تتأخّر (1)
فالشجر الملتف قد لبس ثيابا رقيقة من السندس الأخضر، وهو يختال فى أيدى النسيم ويتبختر، وقد حلّت مقدماته عقود زهر منمقة تبرّج فيها لناظريه أيما تبرّج، والطير قد صعدت إلى منابر غصونها، وخطباؤها تتغنى بلحن ساحر يخلب الألباب، والغصون يثنيها النسيم فتنثنى وكأنما يقبل بعضها بعضا ثم يتقهقر أو كأنهن سيدات يردن المسارّة ببعض الحديث فتلتقى مصغية إلى الحديث تارة، وتارة تتأخر، ويستمر أبو على قائلا:
الأرض عاطرة تزفّ كأنما
…
غشّى نواحيها عبير ينشر
وتأرّجت أرجاؤها فكأنما
…
مسك يضوع خلالها أو عنبر (2)
وكأنّ ريحان الحياة وروحها
…
مستنشق من عرفها ومعطّر (3)
وكأنما كسيت بساط زبرجد
…
نشرت يواقيت عليه وجوهر
فالأرض جميعها عاطرة وكأنما تزفّ فى عرس لها، وكل نواحيها ينتشر فيها عبير ذكى، وكل أرجائها تفوح بصنوف من الطيب والمسك والعنبر، وكأن أريج الحياة ونسيمها العطر مستنشق من شذاها العطر، وكأنما اكتست ببساط من الزبرجد تناثرت عليه جواهر ويواقيت من كل صنف، ويمضى أبو على واصفا جداولها بمثل قوله:
الماء تشعبه إليك جداول
…
قد مدّها النهر الزّلال الأكبر (4)
صاف على صفة المها يجرى على
…
رمل النّقا عذب قراح كوثر (5)
وكأنما حصباؤه فى رونق ال
…
ماء الذى يجرى عليه جوهر
والماء تشعبه وتتوزعه جداول: ثمانية عشر كما أسلفنا، وقد أمدها النهر الكبير بمائه الزلال العذب البارد السلس، والماء فى منتهى الصفاء، كأنه مها أو بلّور ناصع، وهو يجرى على رمل يشبه رمل النقا الذى يذكره العشاق النجديون، وهو عذب قراح أو خالص، بل هو كوثر كنهر الفردوس وكأنما حصباؤه جوهر تناثر من عقود كثيرة. وأبو على بدون ريب شاعر بارع براعة فائقة.
(1) عقائل: جمع عقيلة: السيدة الكريمة. السرار: المناجاة وكتمان الحديث. صغا الحديث: سماعه.
(2)
تأرجت: فاحت. يضوع: يفوح.
(3)
عرفها: شذاها.
(4)
تشعبه: تفرقه. الزلال؛ العذب الصافى.
(5)
المها: البلّور. قراح: سائغ. كوثر: حلو والكوثر: من أنهار الفردوس.