المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

أبقى الأنام بإبقاء الإمام فكم

بصونه صان من مال ومن مهج

إذا رعى الله للإسلام راعيه

لم نأس من فقد ذى قدر ولا همج

وهو يقول إن الله أنعم على الرعية بعد يأسها بنعمة الفرج وكشف الغم الذى اعتراها بمرض الخليفة، ويتجه إلى أزمات الدهر يسألها أن تنفرج وتنكشف وتنحسر عند الشدة أو الشدائد إلى غير رجعة، ويقول إن شكر الرعية لا يفى بهذه النعمة الكبرى نعمة شفاء الخليفة من مرضه وتهدئة ما كان قد حدث فيها من اختلاط واضطراب بسببه. ويفزع ابن معمر إلى المبالغة أو قل يتمادى فيها، إذ جعل بقاءه بقاء للرعية وصونا لأموالها ونفوسها، ويجعله راعيا للإسلام ويرفعه فوق أفراد الرعية درجات. ولعل فيما أسلفت من أشعار ما يصور شاعرية ابن معمر وأنه يعد بحق أشعر شعراء ليبيا حتى عصره لحسن صياغته وروعة تصاويره ودقة أفكاره.

‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

مرّ بنا أن العثمانيين استولوا على طرابلس فى أواسط القرن العاشر الهجرى، وقد ضمّ محمد الساقزلى والى طرابلس برقة إلى ولايته بعد نحو قرن، وبذلك أصبح لليبيا حاكم عثمانى واحد يتخذ طرابلس عاصمة له، وكان حكامها يتخذون التركية لغة رسمية لدواوينهم، وأخذوا مع الزمن يقيمون مدارس فى ليبيا ولكنها كانت تصب عنايتها على تعليم التركية لتخريج موظفين للدواوين يساعدون فى تصريف شئون الولاية. غير أن الثقافة الإسلامية العربية ظلت ترعاها المساجد والزوايا. وكانت ليبيا قد أخذت تشغل منذ القرن الثامن الهجرى بالتصوف وزواياه وشيوخه، واتسع انشغالها بذلك منذ حكمها العثمانيون فى أواسط القرن العاشر الهجرى أو بعبارة أدق منذ حكموا طرابلس، إذ كثر الشعر حينئذ على لسان الصوفية، غير أن الكثرة الغامرة منه عامية، وما ليس عاميا يكثر فيه اللحن، وممن يضاف إليه أشعار كثيرة من دراويشهم عبد السلام الأسمر المتوفى سنة 981 وكانت له زاوية بمدينة زليطن على نحو ما ذكرنا فى حديثنا عن الزهد والتصوف، وتكثر العامية الليبية فى أشعاره ويكثر فيها الخروج على العروض، وربما لم يكن هو نفسه السبب فى ذلك، فقد تحول كثير منها شعرا شعبيا، فربما عبث به الرواة والمنشدون من العوام، ومن أهم أشعاره قصيدة نظمها فى التسعين من عمره، ونقتطف منها بعض أبيات تستقيم فصاحة وعروضا (1):

(1) انظر القصيدة فى كتاب الشيخ سيدى عبد السلام الأسمر لإسحق المليجى ص 304.

ص: 97

شربت شراب العزّ من خمرة الصّبا

سقانيه محبوبى بسرّ العناية

وبانت لى الأنوار وانكشف الغطا

وألهمت أسرارا بسرّ الجلالة

ونمّقت منشورا إلى كل عاشق

بأنهم حزبى وأهل إرادتى

وكان الشطر الأول فى هذه الأبيات مضطربا وأصلحته ليستقيم الوزن. وكان للشيخ أتباع كثيرون جاءوه من كل فج فى ليبيا وتونس والبلاد المغربية، وأقاموا له-حين توفى-مأتما كبيرا أنشد فيه بعض مريديه مراثى مضطربة الوزن والصياغة، وإنما ذكرت بعض أشعاره لأدلّ على تدهور التصوف لغة ووجدا ملتاعا، فالأبيات لا تحمل أى وجد، إنما هو ظاهر مما كان يردّده الصوفية قديما من كلمات الشراب والخمرة وانكشاف الغطاء والعشق وما إلى ذلك. وقد أحالوا الزوايا فى ليبيا وبلاد المغرب من دور عبادة ونسك وتجمّع فيها لجهاد أعداء الله أو قل أحالوا كثيرا منها إلى دور شعوذة واعتقاد فى شيوخها بأنهم أولياء الله يطلعون على الغيب وتجرى على أيديهم أعظم الخوارق، واستخدموا فيها حلقات الذكر مع التثنى والنشوة بالاستماع إلى أناشيد صوفية ممسوخة ومع استخدام الدفوف والبنادر ونفس زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر بزليطن استحالت إلى هذه الصورة، فقد كان يستخدم فى زاويته الدف والبندير والأناشيد والتثنى فى الذكر، مما أثار عليه حملات شعواء من فقهاء عصره، وهو لا يبالى، بل يوهم أتباعه أنه ناظر وجادل نفرا منهم وتبعوه، يقول فى نفس القصيدة:

وكم من فقيه كان ينكر حالنا

فصار بفضل الله من أهل حضرتى

فأعطى له التصريف حيّا وميّتا

وصرت إمام الوقت شيخ الطريقة

وهو يزعم-زعما باطلا-أن من تبعه من الفقهاء أصبحوا من الأولياء، وأصبح لهم التصرف فى القضاء أحياء وأمواتا مثله، وهى شعوذة ملأ بها أمثاله نفوس العامة فى ليبيا والعالم العربى: أن زيارة قبور الأولياء والمتصوفة تنفعهم وينبغى أن يقدموا لها النذور، وهى لا تنفع ولا شفع، إنما ينفع الإنسان-ويشفع له-عمله. ولكن إذا كان التصوف ساء سلوكا فى العصر العثمانى بليبيا وهبط شعرا فإن المديح النبوىّ ظل له غير قليل من الرونق عند شاعر ليبى لقّب بالبهلول، وهو-لغة-الجامع لخصال الخير وسنترجم له، ونتبعه بترجمة أحمد بن عبد الدائم.

ص: 98

(أ) البهلول (1) الطرابلسى

هو أحمد بن الحسين الملقب بالبهلول، ولد بطرابلس حوالى منتصف القرن الحادى عشر الهجرى وتوفى سنة 1113 هـ/1702 م ولما نهل من حلقات الشيوخ فى مسقط رأسه، وعبّ منها ما شاء، رأى أن يرحل إلى القاهرة للتزود من أعلام الأزهر الشريف وظل فترة به ملازما حلقتى إمامى المالكية فيه: الشيخ محمد الخرشى والشيخ عبد الباقى الزرقانى، ولكل منهما شرح على مختصر الشيخ خليل بن إسحاق فى الفقه، والشيخ خليل-بدوره-فقيه مالكى مصرى، وقد طارت شهرة مختصره فى البلاد المغربية إلى اليوم، وتفتحت موهبة البهلول-حينئذ- فأنشأ قصيدة يتشوق فيها إلى موطنه طرابلس، وفيها يقول:

طرابلس الغرّاء ترى لى عودة

إليك وهل يدنو الذى كان قد ذهب

سقى الجانب الشرقىّ منك سحابة

ولا زال فيك من رياح الصّبا مهبّ

بديعة حسن زادها الله بهجة

وآمن أهليها من الخوف والشّغب

وكيف بدار قد حوت كلّ رقعة

بقوم لهم فى العلم باع وفى الأدب

ورجع إلى طرابلس بعلم غزير وأدب وفير وملكة شعرية خصبة، ولم يسخّرها فى مديح حكام بلده، وإنما سخّرها فى مديح صفوة الخلق سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، ونظم فى ذلك ديوانا، قصائده مخمّسات موزعة على الحروف الهجائية، وأضاف إلى تلك الحروف الثمانية والعشرين:«لا» فأصبحت تسعة وعشرين حرفا، ولكل حرف قصيدته وهو قافيتها وكل قصيدة تتألف من عشرين دورا، أو قل كل مخمس، وقد عرف شعراء المغرب والأندلس بهذه المخمسات العشرينية، وعلى شاكلتهم ألف البهلول أو نظم هذا الديوان، ويقال إنه نظم مخمساته على أساس قصيدة عياضية، وهى لا توجد بين قصائد القاضى عياض إمام مدينة سبتة المشهور وربما كانت لعياض آخر، إذ يتسمى باسمه كثيرون بين مغاربة وأندلسيين، وأول دور فى المخمس الأول يجرى على هذا النمط:

أذوب اشتياقا والفؤاد بحسرة

وفى طىّ أحشائى توقّد جمرة

متى ترجع الأحباب من طول سفرة

أحبّة قلبى علّلونى بنظرة

فدائى جفاكم والوصال دوائى

(1) انظر فى البهلول ديوانه ومقدمته لمحققه: الطاهر الزاوى وكتابه أعلام ليبيا، والمنهل العذب لأحمد النائب الأنصارى.

ص: 99

وقافية الشطر الخامس همزية ومثلها جميع الشطور الخامسة فى أدوار المخمّس، وإلى قافية هذا الشطر ينسب المخمّس جميعه. والأدوار العشرة الأولى فى كل مخمس تتخذ الغزل موضوعا لها بينما الأدوار العشرة الثانية فى مديح المصطفى صلى الله عليه وسلم كما يقول محقق الديوان الأستاذ الطاهر الزاوى. ونظن ظنا أن وراء الظاهر فى العشرة الأولى نفحات من الغزل الصوفى الحسى الذى نقرؤه فى ديوان ترجمان الأشواق لابن عربى إذ يتشابه معه فى أنه يجمع فى غزله ما يختلج فى قلوب المحبين العذريين إزاء محبوباتهم من لواعج الحب والافتتان بجمالهن وسحر عيونهن وورد خدودهن، ودائما محبوباتهم فى ارتحال وفراق وبين، وهم مسهّدون يبكون بدموع غزار، ولا يبلغ المحب مراده من الوصال، وهو-لذلك موجع الفؤاد، إذ لا شفاء له بلقاء أو ما يشبه اللقاء، بل قطيعة متصلة، والحب-بل العذاب-يتجدد ألوانا. وجميع العشرينيات عند البهلول تبتدئ بهذا الغزل الملتاع، ومما يؤكد تأثره فى غزله بالغزل الصوفى ذكره فى مخمسه الخائى معروفا الكرخى الصوفى وتلميذه السرى السقطى والجنيد تلميذ السرىّ، والثلاثة من صوفية القرن الثالث الهجرى المشهورين، وهو ما يجعلنا نزعم أن شعاعات من الغزل الصوفى الحسى سقطت فى الأدوار العشرة الأولى بمخمّساته من مثل قوله فى مخمّسه السينى:

نفوس عزيزات ترى من أذلّها

وسفك دماها فى الهوى من أحلّها

وبى غادة كالشمس تمنع وصلها

سمحت بنفسى فى هواها لعلّها

تدوم على حفظ المودّة والأنس

تحمّل قلبى فى هواها تحيّة

ولم ترع بالتفريق ودّا وصحبة

أنادى عساها أن تفرّج كربة

سقتنى كئوسا بالمحبّة صرفة

ثملت بها سكرا وغبت على حسّى

وظاهر الدّور الأول كأنه غزل طبيعى لمحبّ يتذلّل لمن تدلّه فى حبها وأصابته بسهامها حتى كأنما سفكت دمه غير مبالية بحبه، وتمنع وصالها، وتمعن فى هجرانها، وهو لا يزال يأمل أن تراجع نفسها وتذكر له أيام المودة والأنس، وهى معان يقولها الغزلون العذريّون ولكن تأمّل فى الدور الثانى وما ذكر فيه من كئوس المحبة وارتوائه منها صرفة صافية وكأنما ارتوى من كئوس المحبة الربانية التى طالما ردّدها الصوفية، ويقول إن نشوة السكر غلبت عليه حتى غاب عن حسّه، وكأنه يعنى فكرة الفناء الصوفية فى الذات العلية إذ يبلغ الصوفى من محبته لربه غيابه عن حسّه، فقد أصبح روحا فانية فى ربه لا يشعر بشئ فى الوجود سواه وسوى محبته التى استغرقت حواسه حتى كأنما أصبح فى غيبوبة مطلقة. وحقا لا يمعن البهلول فى غزله الحسى الذى يقدم به المديح النبوى كل هذا الإمعان الصوفى، ولذلك نقول إن فى غزله بعض شعاعات من المحبة الصوفية.

ص: 100

والأدوار العشرة الثانية فى مخمسات البهلول خصّها بمديح الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفيض فى ذكر معجزاته التى تتحدث عنها السيرة النبوية مثل انصداع إيوان كسرى وانطفاء نار فارس عند مولده ومثل شقّ جبريل لصدره ووضعه النور الربّانى فيه بمنازل مرضعته حليمة السعدية، وشكوى الصحابة إليه من قلة الماء فى بئر صغيرة كان يتوضأ منها، ففار الماء وتكاثر ببركته وما قيل من أن الغزالة كلمته وكذلك الذئب والضب، ومعروف أن معجزة الرسول الكبرى إنما هى القرآن الكريم ورسالته العظيمة التى وضعت أسسا قويمة لهداية البشرية. ويذكر البهلول مرارا وتكرارا إسراء الرسول على البراق إلى بيت المقدس وصلاته فيه إماما للرسل، ومعراجه إلى السموات السبع وما غشيه من الأنوار القدسية عند سدرة المنتهى وما ينى يتحدث عن محبته للرسول مصورا فضائله وشمائله المثالية السامية، ضارعا إليه دائما أن يكون شفيعه يوم المحشر، وتتراءى فى جوانب من مديحه النبوى شعاعات من فكرة الحقيقة المحمدية التى تغنى بها الحلاج والبوصيرى لما جاء فى الأثر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» وكأن حقيقته أقدم من حقيقة آدم وخلقه، وكأنه المبدأ لكل النبوات والرسالات، وفى ذلك يقول البهلول فى مخمّسة الخائى:

سما مجده بين الأنام وفخره

وقد جلّ من بين البريّة قدره

له المنصب الأعلى لقد تمّ نصره

ختام وإن كان المقدّم ذكره

أخير وإن كان المبدأ فى النّسخ

فالرسول صلى الله عليه وسلم-مع تأخره فى الرسالة-متقدم فى الرتبة على جميع الرسل والأنبياء، بل إنه المبدأ لهم جميعا، فمن رسالته استمدّت جميع الرسالات، وكأنما نسختها منذ الأزل، بل إن الوجود جميعه ليستمد منه، إذ هو نور الله، وكل نور فى الوجود يستمد من نوره، يقول:

نبىّ تسامى فى الأنام بمجده

لقد ضاءت الآفاق من نور سعده

وما ذكاء أو الشمس فى أضوائها الزاهية إلا فيض من نور وجهه وطلعته السنية، يقول:

له الشرف العالى بفخر وسؤدد

ذكاء بدت من نور وجه محمد

فالرسول صلى الله عليه وسلم منشأ النور فى الوجود وإن نور وجهه ليشاهد فى كل نور: فى الشمس وغير الشمس، إذ هو الحقيقة الأزلية أو النور الأزلى الذى يضيئ الكون والآفاق منذ الأزل أضواء نيّرة غامرة.

وأدوار المخمسات فى ديوان البهلول تفيض بالسلاسة والعذوبة دون أى غرابة فى كلمة أو صيغة، مما جعل أهل ليبيا-فضلا عن أهل طرابلس-يشغفون بالديوان ومخمساته لما يشيع فيه من السهولة والوضوح والصفاء الموسيقى، واعتادوا أن يقيموا لإنشاده حفلات تبدأ من

ص: 101

غرة شهر ربيع الأول كل عام حتى اليوم الثانى عشر يوم مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وربما صحبت الإنشاد ألحان بعض الآلات الموسيقية. وكانت للبهلول-بجانب هذا الديوان النبوى- أشعار تعليمية فى فقه مذهب مالك وفى العقائد ولم تصلنا، وكانت له مقامات على نمط مقامات الحريرى سقطت-بدورها-من يد الزمن ويكفيه فخرا ومجدا هذا الديوان النبوى الذى صوّر فيه مشاعره الصوفية ومحبته المتقدة بين جوانحه لصاحب الرسالة المحمدية.

(ب) أحمد (1) بن عبد الدائم

هو أحمد بن عبد الدائم الأنصارى، ولد بطرابلس ونشأ بها، وحفظ القرآن الكريم واختلف إلى حلقات علمائها، وتفتحت موهبته الشعرية، وكان فقيها ومؤرخا غير أن الشعر هو الذى جذبه، وكان معاصرا لأحمد القرمانلى والى طرابلس (1123 - 1158 هـ) فأخذ يدبج فيه بعض المديح وحدث فى أثناء ولايته سنة 1141 هـ/1728 م أن قام أسطول فرنسى بمظاهرة أمام طرابلس وأرسل قبطانه إلى القرمانلى بشروط ينبغى أن يرضخ لها وإلا ضرب المدينة بقذائفه، ولم يرضخ القرمانلى ولا قبل الشروط، رافضا تهديد القبطان ووعيده، وضرب الأسطول طرابلس بقذائفه أربعة أيام طوالا، وأرسل القبطان أو قائد الاسطول الفرنسى بعدها خطابا يحث فيه القرمانلى على الصلح غير أنه صمم أن لا يستسلم، وكان الاسطول قد دمر أكثر من ثلث المدينة إذ ألقى عليها نحو ألفى قنبلة، واستنفد مالديه من القذائف، فلم يجد قائده بدا من فك الحصار عن طرابلس وعودته إلى بلاده. كل ذلك حدث والخليفة العثمانى لا يحرك ساكنا ولا يحاول الثأر لطرابلس من الفرنسيين. فنظم ابن عبد الدائم قصيدة يستثيره فيها ضدهم محاولا أن يملأه حمية وحماسة بمثل قوله فيها:

يا واحدا ما فى البسيطة مثله

ملك الملوك بتاجه المتكلّل

أو ما يغيظك حال قلعتك التى

فازت بفتحك فى الزمان الأوّل

إنّا لنرجو منك أخذ الثأر من

شعب الفرنسيس اللئيم الأرذل

وكان العبدرى المغربى قد نزل طرابلس فى رحلته إلى الحج سنة 688 ويبدو أنه أصابه حيف من بعض أهلها. فعمّ المدينة وأهلها جميعا بذم شديد ضمنه رحلته المغربية، ذمّ المغيظ المحنق، ولا نعرف الأسباب الحقيقية لهذا الذم، وردّ عليه رحّالة مغربى مواطن له زارها بعده، هو ابن عبد السلام الناصرى، إذ دافع عنها دفاعا حارا فى رحلته الحجازية الكبرى، واستشهد على

(1) انظر فى أحمد بن عبد الدائم كتاب التذكار فيمن ملك طرابلس من الأخيار لابن غلبون وأعلام ليبيا للطاهر الزاوى والمنهل العذب لأحمد النائب الأنصارى.

ص: 102