المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

وأسمائها، ويختم الكتاب بتفصيل الحديث فى الشهور الشمسية وأسمائها عند الأعاجم. ويذكر مع كل موضوع الأشعار والأمثال المسجوعة المرتبطة به، مع ما يعم فى الكتاب من جمال الصياغة وحسن العبارة، وبذلك استحال علم الفلك عند ابن الأجدابي الطرابلسى إلى علم أدبى، مما يدل بوضوح على قدرته وبراعته الأدبية.

وفى كتب الطبقات بعد ابن الأجدابي الطرابلسى أسماء لبعض اللغويين والنحاة الليبيين على مدار الحقب إلى العصر الحديث، غير أن أحدا من الليبيين لم يبلغ مبلغه فى التعمق اللغوى مع حسن العرض وجمال البيان، وممن تذكره كتب التراجم بعده معاصره خلوف بن عبد الله البرقى النحوى نزيل صقلية وأبو الحسن على البرقى المتوفى سنة 522 للهجرة، وكان نحويا كما كان شاعرا. وتمر قرون ولا يلمع فى ليبيا اسم لغوى أو نحوى، ويلقانا فى القرن التاسع يوسف بن على الجعرانى فى القصبات عاصمة مسلاتة سنة 820 وله شرح على متن الأجرومية، وبنى له زاوية ببلدته كان يتعبد فيها لربه ويدرس النحو وغيره لطلابه، وممن نلقاهم فى القرن العاشر الهجرى محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخطاب الطرابلسى المتوفى سنة 954 للهجرة، وله حاشية على كتاب قطر النّدى لابن هشام وأخرى على كتابه التوضيح أو أوضح المسالك، وله كتاب لغوى فى المواضع التى غلط فيها الجوهرى صاحب معجم الصحاح والفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط.

‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

تمثّل قرّاء ليبيا للذكر الحكيم-مثل بقية قرّاء المغرب-قراءة ورش المصرى التى تلقّنها عن نافع مقرئ المدينة المشهور وأحد القرّاء السبعة، ولا يزال القرّاء-إلى اليوم-يدوّون بها فى ليبيا والبلاد المغربية دوىّ النّحل، ومن القراء المبكرين بليبيا فى جبل نفوسة عمر بن يمكتن الذى مر بنا ذكره فى الحركة العلمية، ومن كبار القراء فى القرون التالية بعده مؤمن بن فرج الهوارى الطرابلسى المتوفى سنة 442 للهجرة، وكان يقرئ القرآن فى مسجد عرف باسمه بعده كما يقول التجانى فى رحلته، واشتهر عبد السلام بن عبد الغالب المسراتى المتوفى سنة 646 للهجرة بأنه كان يعنى بالقراءات السبع جميعا، ومثله على بن عبد الحميد العوسجى المتوفى سنة 925 وكان يحفظ الذكر الحكيم بالقراءات السبع، وكان يحفّظه للغلمان فى مسجد بناه فى حياته واشتهر بأنه مؤدب الصبيان. وكانت المساجد والزوايا والكتاتيب جميعا تموج بقراءة القرآن الكريم على مر الحقب.

ص: 70

وعلى نحو ما كانت ليبيا تعنى بقراءات الذكر الحكيم كانت تعنى بتفسيره، وكان علماؤها يتلقون ما كتبه الطبرى وغيره من علماء المشرق ويعرضونه على الطلاب والناس، ومن كبار مفسريه بطرابلس مؤمن بن فرج الهوارى المذكور آنفا بين القراء، ومنهم أيضا محمد بن محمد الحطاب المتوفى سنة 954 وله فى التفسير حاشية على تفسير البيضاوى، ويقال إنه حاول أن يكتب تفسيرا للقرآن وأنه مضى فيه حتى سورة الأعراف، ولم يكتب له أن يتمه، ومن مؤلفاته القرآنية كتاب فى تجويد القراءات أو فى علم تجويده. وكان يعاصره مفسر طرابلسى هو محمد بن على الخروبى المتوفى سنة 963 وله تفسير تحتفظ به رفوف دار الكتب المصرية فى ثمانى مجلدات، سماه:«رياض الأزهار وكنز الأسرار» وكان صوفيا كبيرا وربما نزع فيه منزع المتصوفة فى تفسير الذكر الحكيم.

ولم تكن تقل عناية ليبيا بالحديث النبوى عن عنايتها بالتفسير للقرآن الكريم وقراءاته، ومن محدّثيها سعيد بن عباس من أهل مدينة سرت، توفى سنة 200 للهجرة، وتشتهر بروايته وتدريسه بعض البيوت أو الأسر مثل أسرة أحمد بن عبد الله بن صالح بن مسلم العجلى فى طرابلس المتوفى سنة 261 للهجرة، وكان يشبّه بأحمد بن حنبل فى كثرة ما يروى من الأحاديث، وكان ابناه عبد الله وصالح محدثين، وظلت أسرته فى طرابلس تشتهر بروايتها للحديث النبوى وتدريسه للطلاب. وكان يعاصره فى برقة محدثان جليلان هما إبراهيم البرقى وعبد الكريم البرقى. ونلتقى فى القرن الرابع الهجرى بيحيى بن دحمان، وكان محدثا كبيرا، تسامع به أهل الحديث النبوى فى البلاد المغربية والأندلسية، ومرّ بنا أن أندلسيين محدثين سمعا منه الحديث. ومن نابهى المحدثين فى هذا القرن ابن زكرون على بن أحمد بن زكريا المار ذكره فى الفصل الماضى بين الزهاد، وهو تلميذ صالح بن أحمد العجلى، وكان يلقى دروسه فى الحديث النبوى بمسجد المجاز فى طرابلس، وإليه كانت الرحلة من بلدان إفريقية التونسية والبلدان المغربية، وممن رحل إليه للسماع عنه أبو الحسن القابسى محدث تونس المشهور، وله فى الحديث والفقه والرقائق الوعظية تآليف كثيرة. ومن كبار المحدثين بعده أحمد بن نصر الداودى المتوفى سنة 402 هـ/1012 م كان من أئمة المالكية، أنجبته طرابلس، وألّف فيها كتابه:«النامى» فى شرح الموطأ لمالك، وانتقل منها إلى تلمسان، وفيها ألف كتبا متعددة، منها:«النصيحة فى شرح كتاب البخارى» ويقال إنه أول من شرحه فى العالم الإسلامى، وألف كتاب الواعى فى الفقه وكتاب الأموال وهو فتاوى وأحكام فى غنائم وأراضى البلدان المفتوحة. ومن أهم المحدثين بعده إبراهيم بن عبد السلام المسراتى المتوفى سنة 704 اشتهر بعنايته البالغة بغريب الحديث، وأهم منه معاصره الإمام الحافظ الكبير أبو فارس عبد العزيز بن عبد العظيم المشهور باسم ابن عبيد المولود بطرابلس سنة 639 وينوّه به وبعلمه التجانى فى رحلته التى تحدث فيها عن زيارته

ص: 71

لطرابلس سنة 707 للهجرة بصحبة الأمير الحفصى زكريا بن اللحيانى، وفيه يقول:«القائم برسم العلم فى هذه البلدة (طرابلس) فى وقتنا هذا شيخنا الإمام الحافظ أبو فارس عبد العزيز بن عبد العظيم حضرت درسه بمسجد مجاور لداره، فرأيت رجلا متضلعا من العلم، ذاكرا بالمذهب (المالكى) ذكرا لا يجاريه فيه أحد، ولا تكاد مسألة من مسائله تشذ عنه، حسن العبارة، مشاركا فى علوم جمّة وله اعتناء بحفظ كلام (الأئمة) القرويين (بالمغرب الأقصى) فى المذهب (المالكى) من تعليل أو تفسير أو توجيه أو تخريج، واعتماده فى الأصول الدينية والفقهية على كلام أبى المعالى (الجوينى إمام الحرمين) وكلام الشيخ أبى حامد الغزالى. . ولما حضرت درسه وتحققت مكانته المكينة فى العلم أحببت القراءة عليه مدة إقامتنا هنالك (بطرابلس) وطلب مخدومنا (الأمير أبى زكريا اللحيانى) أن يكون ذلك بمحضر منه، فلم يكن بد من استدعاء الشيخ لموضع سكنانا، فعقدنا مجلسه لذلك بالقصبة (قصر البلدة) وفى مجلس الأمير منها، وطلب الحضور بذلك المجلس جماعة من أعيان الطلبة بالبلد، فأذن لهم، ورأينا أن يكون المقروء حديث خير الأنام» . ويذكر التجانى أن ابتداء هذه المجالس كان فى شهر شعبان من سنة 707 وأنه بدأ بقراءة صحيح مسلم، والشيخ يعلق ويفسر ويجيب على الأسئلة، حتى إذا أتمّ التجانى قراءة صحيح مسلم على الشيخ أخذ يقرأ عليه صحيح البخارى، والشيخ يفسر ويعلق تعليقات علمية ويرد على الأسئلة ردودا دقيقة غاية الدقة، وأجاز ابن عبيد التجانى بما رواه عن شيوخه من هذين الصحيحين فى صفر سنة 708 للهجرة.

وبدون ريب يمثل ابن عبيد الذروة التى انتهى إليها علماء الحديث وحفاظه فى طرابلس وأنهم لم يكونوا يقلون علما وحفظا ودراية للحديث النبوى وتعمقا فى دراسته عن أندادهم فى البلدان العربية: فى تونس وغير تونس بل إن هذا أحد الأفذاذ المتأدبين بتونس يقطع مع أميره رحلتهما ويظلان بطرابلس أشهرا ليحظيا بأخذ صحيحى مسلم والبخارى عن هذا الحافظ الكبير الثبت الحجة، وقد سأله التجانى عن شيوخه فأعطاه ثبتا بأهمهم، ونفر منهم كانوا طرابلسيين ونفر آخر كانوا من الوافدين على طرابلس إما لتولى منصب القضاء وإما مارّين بها فى الطريق لأداء فريضة الحج أو عائدين إلى ديارهم المغربية، ويذكر له الكتب التى أخذها عنهم، وفى مقدمتها كتاب الإرشاد لأبى المعالى إمام الحرمين الجوينى وكتاب البرهان له أيضا وكتاب المستصفى للغزالى. وفى ذلك ما يؤكد ما قلناه فى غير هذا الموضع من أن الوافدين على طرابلس والمجتازين بها كان لهم تأثير واسع فى حركتها العلمية. وتظل رواية الحديث النبوى ودراسته متصلتين فى طرابلس وكل أنحاء ليبيا طوال القرون التالية.

ويعدّ الفقه أهم علم إسلامى استوعب نشاط العلماء الليبيين، وطبيعى أن لا ينشأ فى ليبيا فقهاء يحسنون العلم بالمذاهب الفقهية المشهورة: مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك ومذهب

ص: 72

الشافعى ومذهب ابن حنبل إلا بعد نشوء هذه المذاهب، وقد نشأت الثلاثة الأولى فى القرن الثانى الهجرى، ونشأ الرابع فى القرن الثالث الهجرى على نحو ما هو معروف، وظل بعيدا عن أهل ليبيا لا يعرفه-ولا يعتنقه-أحد منهم، وكان مذهب أبى حنيفة فى العراق بعيدا عنهم، غير أن إمامه لعهد الرشيد: أبا يوسف حمله على أن يخص القضاء فى الدولة الإسلامية جميعها بأهله، فكان يشترط فى القاضى بأى بلد إسلامى أن يكون فقيها حنيفا، وكان إبراهيم بن الأغلب والى الرشيد ومؤسس الدولة الأغلبية فى إفريقية التونسية وطرابلس يصدع هو والحكام من أسرته لمشيئة الرشيد وأبى يوسف فى أن يكون القضاة بدولتهم أحنافا ما أمكن ذلك، مما يجعلنا نظن أنه تولى القضاء فى زمنهم بطرابلس بعض القضاة الأحناف، مما جعل المذهب الحنفى يعرف فيها بعض المعرفة، وبانتهاء زمن الدولة الأغلبية تنتهى صلة طرابلس بالمذهب، حتى إذا والت ليبيا الدولة العثمانية عادت هذه الصلة. إذ كان العثمانيون يفرضون على البلدان الموالية لهم أن يكون قضاتها أحنافا. وكان المذهب الشافعى قد انتشر بمصر وكثر فقهاؤه، ولا نسمع أن ليبيّا اعتنقه، إذ كان قد جذبهم إليه مذهب مالك أستاذ الشافعى وإمام المدينة والحجاز. ولم يكد يبقى فى علماء ليبيا بقية لمذهب سواه، وخاصة أن نفرا منهم كانوا قد حضروا دروس مالك وحملوا عنه كتاب مذهبه: الموطأ وأخذوا يشيعون المذهب فى ليبيا على نحو ما نعرف عن معاوية بن محمد الحضرمى الطرابلسى تلميذ مالك، وكان قد حمل المذهب عنه جلة من الفقهاء المصريين، فكان الليبيون يأخذون عنهم مثل إبراهيم بن أبى الفياض فقيه برقة المتوفى سنة 245 تلميذ عبد الله بن وهب بالفسطاط حامل مذهب مالك عنه إلى مصر، أو بعبارة أدق أحد حملته عنه المصريين المهمين، وكان سحنون إمام المذهب فى المغرب وحامله عن عبد الرحمن بن القاسم فى مصر قد نزل قبل قدومه إلى القيروان فى أجدابية بليبيا سنة 191 وأذاعه فيها وانتقل إلى طرابلس وظل بها ثلاث سنوات يدرس لأهلها المذهب ويشيعه، ويلقانا فقهاء ومالكية كثيرون فى بلدان ليبيا المختلفة مثل ابن أبى زرعة البرقى المتوفى سنة 249 وله مؤلفات مختلفة فى المذهب ورجال الموطأ وزيادات على مختصر الفقيه المالكى المصرى ابن عبد الحكم ذكر فيها اختلافات فقهاء الأمصار، ونلتقى فى مدينة سرت بعبد الجبار بن خالد السرتى المتوفى سنة 281 للهجرة، وهو من تلامذة سحنون، وممن نلتقى به فى طرابلس موسى بن عبد الرحمن بن حبيب القطان المتوفى سنة 306 وهو تلميذ محمد بن سحنون خليفة أبيه فى حلقته بالقيروان، وتولى القضاء ببلدته فترة، ويقول ابن فرحون فى الديباج إنه كان يحسن الكلام فى الفقه على مذهب الإمام مالك، ويذكر له كتابا ضخما فى أحكام القرآن فى اثنى عشر جزءا، ونلتقى فى برقة بالفقيه المالكى عبد الله بن إسماعيل البرقى المتوفى سنة 317 ومرّ بنا ذكره مع عبد الجبار البرقى بين الزهاد، ويلقانا فى سرت الفقيه المالكى محمد بن حسن الزويلى السرتى المتوفى سنة 383.

ونلتقى بإمام كبير من أئمة الفقه المالكى بطرابلس، هو على بن محمد بن المنمر المتوفى سنة

ص: 73

432، وهو أول من انتصر لمذهب أهل السنة فى بلده ضد المذهب الفاطمى الشيعى، وأمر بمنع شارتهم فى الأذان:«حىّ على خير العمل» ودعا الناس إلى صلاة الضحى جهارا ولم يكونوا يصلونها فى زمن الفاطميين إلا مستخفين، وأعاد صلاة القيام فى رمضان وكان الفاطميون قد محوا رسمها محوا تامّا فى أيامهم، وعنى فى كتاباته ومحاضراته بمناصرة أهل السنة، ومن مؤلفاته التى عنى بها الطرابلسيون طويلا كتابه:«الكافى فى الفرائض» . ومن أئمة الفقه المالكى بطرابلس عمران بن موسى بن معمر المتوفى سنة 660 وهو أستاذ ابن عبيد الحافظ الكبير الذى نوه به التجانى طويلا كما مرّ بنا، وكان يدرس لطلابه من أمهات المذهب المالكى كتاب التفريع لابن الجلاب وتهذيب المدوّنة للبرادعى. كما كان يدرس لهم كتاب المستصفى للغزالى والمحصول لابن العربى الأندلسى، وظل قاضيا على طرابلس أكثر من ثلاثين عاما واشتهر بدقته فى أحكامه وأقضيته، فاستدعاه المستنصر الحفصى لتولى القضاء فى تونس سنة 658 للهجرة، وتولاه لمدة عامين بها حتى توفى. وعرف شيوخ طرابلس حينئذ نظام المعيدين المعروف بمصر وغيرها فى زمانهم، وكان المعيد عنده عبد الوهاب بن محمد الهنزولى، وخلفه فى حلقته ودروسه حين بارح طرابلس إلى تونس بدعوة المستنصر الحفصى، ومن نابهى فقهاء المالكية عبد الحميد بن أبى البركات بن أبى الدنيا المتوفى سنة 684 وهو مثل ابن معمر من أساتذة الحافظ المحدث ابن عبيد، وكان يدرس لطلابه بطرابلس كتابى الإرشاد والبرهان لأبى المعالى الجوينى وكتاب المستصفى للغزالى، وسأعود للترجمة له بين الشعراء، إذ كان شاعرا كبيرا. ومن فقهاء المالكية النابهين أحمد بن عبد الرحمن الزليطنى الفقيه الأصولى المتوفى بأخرة من القرن التاسع، وهو أستاذ زروق أو بعبارة أدق أحد أساتذته، وله مؤلفات كثيرة، منها شرحان على مختصر خليل فى الفقه المالكى أحدهما ضخم فى ستة مجلدات، ومنها شرحان على أصول السبكى، ومنها شرح مختصر فتاوى البرزالى، وتولى القضاء بطرابلس فترة ثم أسندت إليه بتونس مشيخة المدارس.

ومرّ بنا زروق فى حديثنا عن الصوفية، وكان فقيها مالكيا كبيرا، ومن كتبه الفقهية شرحان لرسالة ابن أبى زيد فى الفقه، وشرح مواضع من مختصر خليل، وشرح الإرشاد فى الفقه. ويظل الفقه المالكى مزدهرا فى طرابلس-مثلها فى ذلك مثل بقية البلاد المغربية، ومن فقهائها النابهين فى العصر العثمانى محمد بن شعبان الطرابلسى المتوفى سنة 1020 وقد أسند إليه القضاء فى طرابلس والفتوى والتدريس، واشتهر بمناظرته لعلماء إستانبول. ومر العياشى بطرابلس سنة 1059 هـ/1650 م وذكر من فقهائها فى رحلته أثناء وصفه للمدينة محمد بن أحمد بن عيسى اليربوعى ومحمد بن مساهل مفتيها وقد ظلت ولايته للفتوى بها نحو أربعين سنة حمدت فيها سيرته، ونوّه بالفقيه محمد المكى وقال إن بيته بيت علم وذكر له خزانة كتب ليس لأحد من أهل بلدته خزانة تماثلها، وذكر من مؤلفاته:«شكر المنة فى نصر السنة» وهو فى الرد على عقيدة الإباضية.

ص: 74

والحق أن فقهاء المذهب المالكى فى ليبيا يفوتون الحصر، مثلها فى ذلك مثل الأقاليم المغربية المختلفة، وكانت الجماهير فيها جميعا تعتنق مذاهب أهل السنة وخاصة مذهب مالك فهو المذهب الذى ذاع وشاع فى جميع البقاع المغربية، إلا ما كان من جبل نفوسة فى ليبيا وجزيرة جربة فى تونس وبلاد ميزاب فى جنوبى الجزائر، فإنها جميعا اعتنقت العقيدة الإباضية إلى اليوم، ونلتقى بفقهاء لها عديدين فى جبل نفوسة، ومن أوائلهم إسماعيل بن ضرار الغدامسى أحد الذين رحلوا إلى البصرة للتلمذة على أبى عبيدة مسلم بن أبى كريمة داعية العقيدة الإباضية وظل ملازما له خمس سنوات وعاد إلى موطنه فولاّه أبو الخطاب عبد الأعلى المعافرى فى ثورته بجبل نفوسة وطرابلس سنة 140 القضاء فى دولته ووكل إليه بجانبه شئون التعليم، وأخذ الفقهاء الإباضيون بعده يتكاثرون فى جبل نفوسة ومن أهمهم فى القرن الثالث الهجرى عمروس بن فتح النفوسى المتوفى سنة 283 للهجرة وله كتب فى العقيدة الإباضية: فى الأصول والفروع، من أهمها كتاب منسوب إليه يسمى «العمروسى» ولما نزل داعية الإباضية بشر بن غانم الخراسانى جبل نفوسة استودعه مدونة فى الفقه الإباضى رواها عن تلامذة داعية الإباضية الكبير بالبصرة أبى عبيدة مسلم بن أبى كريمة، فتفرّغ هو وأخت له ليل نهار لنسخها، وكانت تقع فى اثنى عشر جزءا، حتى أتمّا نسخها، وتصادف أن الأيام حفظتها بينما احترقت النسخة الأصلية. وعليها اعتماد الإباضية فى الفقه، وهى تقوم عندهم مقام مدوّنة سحنون فى مذهب الإمام مالك. ومن فقهاء الإباضية فى القرن الرابع الهجرى سليمان بن ماطوس الشروسى، وتعد فتاويه مرجعا مهما عند الإباضية، وموسى بن يونس الجلالمى، وقد برع فى الأصول والمنطق والرياضيات وأسس مدرسة كبيرة كان بها أقسام داخلية للطلاب والغرباء، ونلتقى فى القرن الخامس بالفقيه أحمد بن بكر النفوسى مؤسس جماعة العزابة، وكانت لها هيئة عليا وفروع فى كل بلد وقرية تضم خير أهلهما علما وصلاحا، ومهمتها خدمة المصلحة العامة، ولهذا الفقيه الإباضى مؤلفات كثيرة، منها أصول الأرضين فى ستة أجزاء والجامع فى الفروع فى جزءين والقسمة وتبيين أفعال العباد فى ثلاثة أجزاء، ونلتقى فى القرن السادس بيوسف بن إبراهيم السدراتى المتوفى سنة 570 وله كتاب العدل فى أصول الفقه وكتاب الترتيب فى علم الحديث، ومن كبار فقهاء الإباضية فى القرن على بن يخلف التّيمجارى النفوسى، ناشر الإسلام فى مملكة مالى فقد رحل إليها سنة 575 وأقنع ملكها ووزراءه وأهلها بالدين الحنيف فاعتنقوه، وظل فى ديارهم يعلمهم فرائض الإسلام ويحفّظهم القرآن الكريم ويفقههم فى الدين، وهى يد عظيمة لأباضية نفوسة بجانب الأيادى الأخرى العظيمة لصوفية المغرب ودراويشها فى نشر الإسلام بإفريقية السوداء غربا ووسطا وشرقا. ومن كبار فقهاء الإباضية فى القرن الثامن الهجرى أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالى نسبة إلى جيطال مدينة كبيرة فى جبل نفوسة، توفى سنة 750 للهجرة، وهو كثير التأليف، له كتاب فى الفرائض وكتاب فى الحج والمناسك

ص: 75

وكتاب قواعد الإسلام وكتاب قناطر الخيرات فى ثلاثة أجزاء. ونلتقى بأبى ساكن عامر الشماخى المتوفى سنة 792 عزم على أن يؤلف مدونة كبرى فى الفقه وأخرج منها أربعة أجزاء أولها فى الصلاة، والثانى فى الزكاة والصوم والحج والنذور والأيمان والحقوق، والثالث فى البيوع والقسمة والرهن، والرابع فى الوصايا والهبات. ونلتقى فى القرن العاشر ببدر الدين أحمد الشماخى المتوفى سنة 928 ومن أهم كتبه مقدمة فى أصول الفقه. وللإباضية مجموعتان فقهيتان:

مجموعة تسمى الديوان ألفها سبعة من فقهائهم فى نفوسة، ومجموعة ثانية تسميها ديوان العزابة ألفها عشرة من فقهاء نفوسة الكبار.

وقد مر المذهب الفقهى الإسماعيلى الفاطمى على ليبيا مرورا سريعا فقد كان الناس منصرفين عنه إلا نفرا قليلا بل أقل من القليل رأوا التعلق بدنيا الفاطميين، وربما ألجأتهم إلى ذلك الضرورة، ولا نسمع فى طرابلس عن فقيه إسماعيلى إلا ما يروى عن خليل بن إسحاق ولم يكن فقيها بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ولا كانت له مؤلفات فقهية، إنما حضر حلقات بعض الفقهاء حتى إذا دوّى طبل المهدى وابنه القائم أسرع فى الانضواء تحت لوائهما، ومثله محمد بن سيار الفقيه البرقى المتوفى سنة 310 ومثلهما محمد بن الحسن الطرابلسى الذى استدعاه يعقوب بن كلس وزير المعز الفاطمى إلى القاهرة وفوض إليه قضاء دمياط وبلبيس والفرما، وعلى شاكلتهم أبو جعفر أحمد بن خالد البرقى المتوفى سنة 376 ومالك بن سعيد القرافى ولى القضاء بمصر فى عهد الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله، وأمر بضرب عنقه سنة 405 للهجرة.

وإذا كانت ليبيا نشطت فى علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات فإن نشاطها كان محدودا فى علم الكلام، إذ لا يعدو ما يقال عن اشتغالهم به وأن يذكر أن شخصا كان نحويا أو لغويا أو فقيها كبيرا كان يعتنق الاعتزال مثل محمد بن سالم الطرابلسى، ولا نعرف إلى أى حد كان يتمثل مبادئه، ويذكر أن معاصره أبا خزر النفوسى الإباضى ناظر أحد المعتزلة فى القرن الرابع وانتصر عليه، ويقال إن الفقيه المالكى الكبير أحمد بن نصر الداودى ألف رسالة فى الرد على القدرية (المعتزلة) بعنوان الإيضاح ولو أنها وصلتنا لاستطعنا أن نأخذ صورة عن مباحث علم الكلام فى ليبيا وبالأخص فى طرابلس بلدته. ويقال إن الفقيه المالكى الكبير الدوكالى كان يدرس لطلابه من أمثال عبد السلام الأسمر فى القرن العاشر الهجرى مقدمة الأشعرى فى التوحيد، ويبدو أن ليبيا أصبح مثلها مثل البلاد المشرقية والمغربية منذ القرن الخامس الهجرى وما بعده تؤثر المذهب الأشعرى الكلامى على الاعتزال وغيره من المذاهب الكلامية.

ص: 76