الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب) أحوال المسلمين
لما فتح النورمان صقلية الإسلامية ظلوا طوال فتحهم لها يشعرون أنهم دخلاء غرباء على من فيها من المسلمين والعناصر الأخرى الصقلية الأصيلة والإغريقية والرومية وغير الرومية، وعمّق هذا الشعور فى نفوسهم أنهم لم يكونوا متحضرين وواجهتهم مدن إسلامية متحضرة فى سكانها وفى نظمها فلم يكن أمامهم إلا أن يحاولوا الانتفاع بحضارتها، غير أنهم كانوا مشبّعين بدعوات وإيحاءات من بابا روما ضد الإسلام والمسلمين لتمكين سلطان المسيحية فيها واستئصال جذور الإسلام منها، وهو ما يلاحظ على تصرفات روجّار الأول فيها، إذ أنزل بالمسلمين بها فى حكمه الذى امتد نحو ثلاثين عاما صورا مختلفة من التنكيل، وأول ما يلاحظ من ذلك أنه عمّم نظام الإقطاع فى الجزيرة، فكان يقطع أنصاره وجنوده والأساقفة والقساوسة ما يفتحه من البلدان، ويعدّ من يفلح أو يزرع تلك الممتلكات من المسلمين عبيدا يهدون مع الأرض إلى صاحب الإقطاع، على نحو ما صنع بمدينة قطانية حين فتحها، إذ جعل أهلها المسلمين عبيدا مسترقّين ومنحها إقطاعا للأسقف هناك. وكانت هذه أول ضربة أنزلها بأعدائه المسلمين. والضربة الثانية أنه قرّر على المسلمين عامة دفع جزية، وظلوا يدفعونها حتى نهاية الحكم النورمانى. والضّربة الثالثة أنه أسكن الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد منهم -كما يقول ابن الأثير-حمّاما خاصا به-ولا دكانا ولا طاحونا ولا فرنا. ويقول بعض الباحثين المعاصرين إن هذا إنما يصدق على جماعات الفلاحين أو من أحالهم الفتح مسترقين، وهو تخصيص لا يقتضيه كلام ابن الأثير. ويقول آخرون دفاعا عن الملك النورمانى روجّار الأول إنه لم يشرّد المسلمين عن مدن صقلية ولو كان يريد التنكيل بهم حقا لشردهم، وينسون أنه كان لا يستطيع تشريدهم وإخراجهم من البلاد، لأنهم كانوا الأداة التى تزرع فيها وتصنع وتنتج ولو شرّدهم لأصبحت خرابا ولجفّت ضروعها ولم يعد يجد فيها ما يحميه هو وجنده وشعبه من الجوع والمسغبة.
ومع أن ابنه الملك روجّار الثانى (494 - 548 هـ) وحفيده غليوم الأول (548 - 561 هـ) كانا لا يقسوان على المسلمين قسوته ظلت فى عهدهما آثار من هذه المعاملة الظالمة للمسلمين صوّرها فى رحلته ابن جبير الذى زار صقلية فى أيام الملك غليوم الأول، إذ يقول عن مدينة مسّينى إنها:
«معمورة بعبدة الصلبان، يمشون فى مناكبها ويرتعون فى أكنافها، والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم، قد حسّنوا السيرة فى استعمالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة (جزية) فى فصلين من العام يؤدونها وحالوا بينهم وبين سعة فى الأرض كانوا يجدونها» فتملك الأرض فى مسّينى- مع سعتها-كان محرّما على المسلمين، فهم يشتغلون فى مسّينى عمّالا ولا يتحولون بحال ملاكا.
ويقول ابن جبير عن مسلمى بلرم إن لهم أرباضا (ضواحى) انفردوا بسكناها عن النصارى، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم إلا فى الأعياد، فهم ممنوعون من صلاة الجمعة.
ويحدثنا عن فتى بمسّينى كان يخفى إسلامه متسميا باسم عبد المسيح وأنه احتفى به وبمن كان معه حتى إذا لم يجد حوله من يتهمه بإفشاء سره محافظة على نفسه من النصارى سألهم عن مكة ومشاهدها المعظمة ومشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام فأخبروه وهو يذوب شوقا وتحرقا إلى مشاهدة تلك الأماكن، وغبطهم على رحلتهم إلى مشاهدتها، وقال: أما نحن فكاتمون إيماننا خائفون على أنفسنا متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا. ومما يذكره ابن جبير مما يدل على اضطهاد المسلمين وإدخالهم فى النصرانية قسرا أن فقيها حدّثه فى مدينة طرابنش أنهم ظلوا يطاردونه بمطالبته بأموال يكتنزها فى رأيهم حتى أظهر لهم أنه فارق دينه الحنيف، ولكى يقنعهم بذلك حول مسجدا له بجوار داره إلى كنيسة، فكفّوا عنه وقال إنه يكتم إيمانه! . وذكر أنه لقى زعيم المسلمين المعروف فى تلك الديار باسم ابن حجر ممدوح ابن فلاقس الشاعر الإسكندرى.
فقال له إنهم ظلوا يوالون عليه مصادرات بلغت ثلاثين ألف دينار، وما زال يتخلى عن جميع ممتلكاته وعقاراته حتى أصبح بدون مال، ومما قال له:«كنت أودّ لو أباع أنا وأهل بيتى لعل البيع يخلّصنا مما نحن فيه ونصبح فى بلاد المسلمين» . ويروى ابن جبير قصة تقطّع نياط القلوب حسرة إذ يقول إن أحد أعيان الجزيرة وجّه ابنه إلى حاجّ من أصحابنا الحجاج راغبا إليه فى أن يقبل منه بنتا له عذراء صغيرة السن قد راهقت الإدراك، فإن رضيها تزوّجها، وإن لم يرضها زوّجها، ممن يرضاه لها من أهل بلده. طمعا فى التخلص من هذه الفتنة. وطاب الأب وإخوتها بذلك نفسا لعلهم يجدون يوما السبيل إلى التخلص إلى بلاد المسلمين. وتأجّر (طلب الثواب) هذا الحاج المرغوب إليه بقبول ذلك، وأعانه ابن جبير ومن معه على اغتنام هذه الفرصة المؤدية إلى خير الدنيا والآخرة، يقول ابن جبير:«وطال عجبنا من حال تؤدى بإنسان إلى السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة فى القلب وإسلامها إلى يد من يغرّبها واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق إليها والوحشة دونها، كما استغربنا حال الصبيّة، صانها الله، ورضاها بفراق أهلها رغبة فى الإسلام واستمساكا بعروته الوثقى» .
وهل بعد ذلك من دليل على أن النورمان عاملوا المسلمين فى صقلية بمنتهى الظلم والقسوة والعتو والبغى حتى يفارقوا دينهم الحنيف كرها، ومن عجب أن يكتب المؤرخون الغربيون أبناء عمومتهم أنهم عاملوا المسلمين بتسامح لا حد له وبعدل ما بعده عدل، فنصدقهم، وهم قد عاملوهم بوحشية ما مثلها وحشية واستذلوهم ونهبوا حريتهم التى خلقهم الله بها وأحالوهم-أو أحالوا الشطر الأكبر منهم-عبيدا مسترقين.
وازدادت هذه الوحشية ضراوة فى عهد أباطرة الألمان حين استولوا على صقلية سنة
591 هـ/1194 م فإنهم أخذوا ينزلون بأهلها من المسلمين-بتأثير الكنيسة-صورا فظيعة من الاضطهاد والتنكيل، ومنعوهم منعا باتا من حمل السلاح، وفرضوا عليهم-كما يقول الأستاذ الجليل حسن حسنى عبد الوهاب-أن يعمّد أبناؤهم مثل أبناء النصارى: أمر لا رادّ له من البابا دون استحياء، كما فرضوا عليهم أن يضعوا على صدورهم قطعة من النسيج الأحمر طولها شبر وعرضها إصبعان للتمييز بينهم وبين النصارى، وهاجرت كثرة من مسلمى صقلية- وخاصة من التجار والصناع-إلى الساحل التونسى والبلاد الإفريقية، فرارا من هذا الظلم الذى لا يطاق، وبقيت قلة مستضعفة-وخاصة من أهل الأرياف-تتحمل هذا العذاب والهوان، وتعامل معاملة العبيد الأرقاء. وحين صارت إفريقية التونسية إلى أبى زكريا الحفصى وعلم بما يقع على تلك القلة من الظلم فى أبشع صوره كاتب فردريك الثانى إمبراطور المانيا وملك صقلية ليرفع هذا الظلم عن مسلمى الجزيرة، وعقد معه معاهدة تضمن لهم الحرية الدينية، حتى إذا توفى أبو زكريا سنة 647 هـ/1245 م رجع الظلم والعدوان الذى لا يطاق، واستغاثوا بالمستنصر بن أبى زكريا، فاتفق مع فردريك الثانى إمبراطور ألمانيا وملك صقلية سنة 647 على إجلائهم إلى إفريقية التونسية، وبالمثل إخلاء مالطة من كل من بقى فيها من المسلمين.