الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالمعْرُوفِ أوِ الخَيْرِ» قَالَ: أرَأيْتَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الحثُّ على اكتساب ما تدعو إليه حاجة الإنسان من طعام، وشراب، وملبس، ليصون به وجهه عن الناس، واكتساب ما يتصدق به ليحصل له الثواب الجزيل.
وفيه: فضل إعانة المحتاج والمضطر، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وفيه: فضل الأمر بالمعروف والخير.
وفيه: أنَّ الإمساك عن الشرّ صدقةٌ.
14- باب الاقتصاد في الطَّاعَة
قَالَ الله تَعَالَى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه (1، 2) ] .
أي: لتتعب
الاقتصادُ: التوسُّط في العبادة إبقاء للنفس، ودفعًا للملل؛ لأنَّ النفس كالدابة إذا رَفق بها صاحبها حصل مراده، وإن أتعبها انقطعت.
قال الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه فقال المشركون من قريش: ما أُنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى. فأنزل الله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [طه (1: 3) ] .
قال قتادة: لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونورًا ودليلاً إلى الجنة.
قال مجاهد: هي كقوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل (20) ] . وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.
وَقالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة (185) ] .
نزلت هذا الآية في جواز الفطر في السفر، وهي عامة في جميع أمور الدين كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج (78) ] .
[142]
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عَلَيْهَا وعِندها امرأةٌ، قَالَ:«مَنْ هذِهِ؟» قَالَتْ: هذِهِ فُلَانَةٌ تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا. قَالَ: «مهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَواللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ «مهْ» : كَلِمَةُ نَهْي وَزَجْر. ومَعْنَى «لا يَمَلُّ اللهُ» : لا يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَنْكُمْ وَجَزَاء أَعْمَالِكُمْ ويُعَامِلُكُمْ مُعَامَلةَ المَالِّ حَتَّى تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مَا تُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيهِ لَيدُومَ ثَوابُهُ لَكُمْ وَفَضْلُهُ عَلَيْكُمْ.
قال ابن الجوزي: إنما أحَبَّ العمل الدائمَ؛ لأنَّ مداوم الخير ملازم للخدمة.
وقال المصنف: بدوام القليل تستمر الطاعة، بالذكر، والمراقبة والإخلاص، والإقبال على الله.
[143]
وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِروا كَأَنَّهُمْ
تَقَالُّوهَا وَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ. قَالَ أحدُهُم: أمَّا أنا
فَأُصَلِّي اللَّيلَ أبداً. وَقالَ الآخَرُ: وَأَنَا أصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ. وَقالَ الآخر: وَأَنا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أتَزَوَّجُ أبَداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فَقَالَ:«أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الخشية: خوفٌ مقرون بمعرفة. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر (28) ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر ليتقوَّى على الصوم، وينام ليتقوَّى على القيام، ويتزوَّج لكسر الشهوة وإعفاف النفس.
وفي الحديث: النهي عن التعمُّق في الدين والتشبه بالمبتدعين.
[144]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» . قالها ثَلاثاً. رواه مسلم.
«المُتَنَطِّعونَ» : المتعمقون المتشددون في غير موضِعِ التشديدِ.
المتنطَّع: المتكلَّف في العبادة بما يشق فعله ولا يلزمه، والخائضُ فيما لا يعنيه وفيما لا يبلغه عقله.
[145]
عن أَبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» . رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» .
قوله: «الدِّينُ» : هُوَ مرفوع عَلَى مَا لَمْ يسم فاعله. وروي منصوباً وروي «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا غَلَبَهُ» : أي غَلَبَهُ الدِّينُ وَعَجَزَ ذلِكَ المُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ. وَ «الغَدْوَةُ» : سير أولِ النهارِ. وَ «الرَّوْحَةُ» : آخِرُ النهارِ. وَ «الدُّلْجَةُ» : آخِرُ اللَّيلِ.
وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ عز وجل بِالأَعْمَالِ في وَقْتِ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيثُ تَسْتَلِذُّونَ العِبَادَةَ ولا تَسْأَمُونَ وتبلُغُونَ مَقْصُودَكُمْ، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ الحَاذِقَ يَسيرُ في هذِهِ الأوْقَاتِ ويستريح هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيرِهَا فَيَصِلُ المَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَب، واللهُ أعلم.
معنى الحديث: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه، فتوسطوا من غير إفراط، ولا تفريط، وقاربوا إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا ما يقرب منه، وأبشروا بالثواب على العمل الدائم وإنْ قل، واستعينوا على تحصيل العبادات بفراغكم ونشاطكم، قال الله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح (7، 8) ] .
[146]
وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ:«مَا هَذَا الحَبْلُ؟» قالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«حُلُّوهُ، لِيُصلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذ الحديث: الحث على الاقْتِصاد في العبادة، والنهي عن التعمُّق فيها، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وجواز تنفُّل النساء في المسجد إذا أمنت الفتنة.
[147]
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّومُ، فإِنَّ أحدكم إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أمر الناعس في الصلاة أنْ ينصرف منها، يعني: بعدما يتمها خفيفة.
[148]
وعن أَبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ أصَلِّي مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَوَاتِ، فَكَانتْ صَلاتُهُ قَصْداً وَخُطْبَتُهُ قَصْداً. رواه مسلم.
قوله: «قَصْداً» : أي بين الطولِ والقِصرِ.
في هذا الحديث: استحباب القصد في الصلاة، والخطبة وجميع الأمور.
[149]
وعن أبي جُحَيْفَة وَهْب بنِ عبد اللهِ رضي الله عنه قَالَ: آخَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدَّرْداءِ، فَزارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرداءِ فَرَأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأنُكِ؟ قَالَتْ: أخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فَجاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أنا بِآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ فأكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّردَاءِ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ:
نَمْ، فنام، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ من آخِر اللَّيلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُم الآن، فَصَلَّيَا جَمِيعاً فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقّاً، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقّاً، فَأعْطِ
كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ سَلْمَانُ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: مشروعية المؤاخاة في الله، وزيارة الإخوان، والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية للحاجة، والنصح للمسلم، وتنبيه من غفل، وفضل قيام آخر الليل، وجواز النهي عن المستحبات إذا خشي أنَّ ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة، وكراهية الحمل على النفس في العبادة، وجواز الفطر من صوم التطوع للحاجة والمصلحة.
[150]
وعن أَبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: أُخْبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنِّي أقُولُ: وَاللهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«أنتَ الَّذِي تَقُولُ ذلِكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بأبي أنْتَ وأمِّي يَا رسولَ الله. قَالَ: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثةَ أيَّامٍ، فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا وَذَلكَ مِثلُ صِيامِ الدَّهْرِ» قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ:«فَصُمْ يَوماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» قُلْتُ: فَإنِّي أُطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ:«فَصُمْ يَوماً وَأفْطِرْ يَوماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُد صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أعْدَلُ الصيامِ» .
وفي رواية: «هُوَ أفْضَلُ الصِّيامِ» فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«لا أفضَلَ مِنْ ذلِكَ» ، قال: وَلأنْ أكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيّامِ الَّتي قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحَبُّ إليَّ مِنْ أهْلي وَمَالي.
وفي رواية: «أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وتَقُومُ اللَّيلَ؟» قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ: «فَلا تَفْعَلْ: صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ؛ فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِعَيْنَيكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ
حَقّاً، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإنَّ بِحَسْبِكَ أنْ تَصُومَ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، فإنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذلِكَ صِيَامُ الدَّهْر» فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قَالَ:«صُمْ صِيَامَ نَبيِّ الله دَاوُد وَلا تَزد عَلَيهِ» قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ دَاوُد؟ قَالَ: «نِصْفُ الدَّهْرِ» فَكَانَ عَبدُ الله يقول بَعدَمَا كَبِرَ: يَا لَيتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهرَ، وَتَقْرَأُ القُرآنَ كُلَّ لَيْلَة؟» فقلت: بَلَى، يَا رَسُول الله، وَلَمْ أُرِدْ بذلِكَ إلا الخَيرَ، قَالَ:«فَصُمْ صَومَ نَبيِّ اللهِ دَاوُد، فَإنَّهُ كَانَ أعْبَدَ النَّاسِ، وَاقْرَأ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْر» قُلْتُ: يَا نَبيَّ اللهِ، إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ:«فاقرأه في كل عشرين» قُلْتُ: يَا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلِكَ؟ قَالَ:«فَاقْرَأهُ في كُلِّ عَشْر» قُلْتُ: يَا نبي اللهِ، إنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ:«فاقْرَأهُ في كُلِّ سَبْعٍ وَلا تَزِدْ عَلَى ذلِكَ» فشدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ وَقالَ لي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ لا تَدرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ» قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى
الَّذِي قَالَ لي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ قَبِلتُ رُخْصَةَ نَبيِّ الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: «وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً» .
وفي رواية: «لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» ثلاثاً.
وفي رواية قال: «أنْكَحَني أَبي امرَأةً ذَاتَ حَسَبٍ وَكَانَ يَتَعَاهَدُ كنَّتَهُ - - أي: امْرَأَةَ وَلَدِهِ - فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا. فَتقُولُ لَهُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشاً، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفاً مُنْذُ أتَيْنَاهُ. فَلَمَّا طَالَ ذلِكَ عَلَيهِ ذَكَرَ ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «القِنِي بِهِ» فَلَقيتُهُ بَعد ذلك، فَقَالَ:«كَيْفَ تَصُومُ؟» قُلْتُ: كُلَّ يَومٍ، قَالَ:«وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟» قُلْتُ: كُلَّ لَيْلَةٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أهْلِهِ السُّبُعَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ، يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ ليَكُونَ أخفّ عَلَيهِ باللَّيلِ، وَإِذَا أَرَادَ أنْ يَتَقَوَّى أفْطَرَ أيَّاماً وَأحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كرَاهِيَةَ أنْ يَترُكَ شَيئاً فَارَقَ عَلَيهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.
كل هذِهِ الرواياتِ صحيحةٌ، مُعظمُها في الصحيحين، وقليل مِنْهَا في أحدِهِما.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ أفضل الصيام صوم يوم وإفطار يوم وكراهة الزيادة على ذلك.
قال الخطابي: محصل قصة عبد الله بن عمرو: أنَّ الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، بل تعبّده بأنواعٍ من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصَّر في غيره، فالأَوْلى الاقتصاد فيه ليتبقى بعض القوة لغيره.
قال الحافظ: وفي قصة عبد الله بن عمرو من الفوائد: بيان رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى ما يصلحهم، وحثّه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمُّق في العبادة لما يخشى من إفضائه إلى الملل أو ترك البعض، وقد ذم الله تعالى قومًا لا زموا العبادة ثم فرطوا فيها.
وفيه: جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة، والأوراد، ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أنَّ محل ذلك عند أمن الرياء. انتهى ملخصًا.
[151]
وعن أبي رِبعِي حنظلة بنِ الربيعِ الأُسَيِّدِيِّ الكاتب أحدِ كتّاب
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكر رضي الله عنه فَقَالَ: كَيْفَ أنْتَ يَا حنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ! قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ؟! قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بالجَنَّةِ وَالنَّارِ كأنَّا رَأيَ عَيْنٍ فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: فَوَالله إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فانْطَلَقْتُ أَنَا وأبُو بَكْر حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُول اللهِ! فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ والجَنَّةِ كأنَّا رَأيَ العَيْن فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلَادَ
وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيراً. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونونَ عِنْدِي، وَفي الذِّكْر، لصَافَحَتْكُمُ الملائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وسَاعَةً» ثَلَاثَ مَرَات. رواه مسلم.
قولُهُ: «رِبْعِيٌّ» بِكسر الراء. وَ «الأُسَيِّدِي» بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة. وقوله: «عَافَسْنَا» هُوَ بِالعينِ والسينِ المهملتين أي: عالجنا ولاعبنا. وَ «الضَّيْعاتُ» : المعايش.
قوله صلى الله عليه وسلم: «ساعة وساعة» ، أي: ساعة لأداء العبودية، وساعة للقيام بما يحتاجه الإنسان.
قال بعض العارفين: الحال التي يجدونها عند النبي صلى الله عليه وسلم وفي الذكر
…
مواجيد، والمواجيد تجيء وتذهب، وأما المعرفة، فهي ثابتة لا تزول.