الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر (17) ] ، فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له، ومن أعرض عنه تفلَّتَ منه.
قال الحافظ: وفي هذه الأحاديث الحضُّ على محافظة القرآن بدوام دراسته، وتكرار تلاوته، وضرب الأمثال لإِيضاح المقاصد.
182- باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن
وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها
[1004]
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
مَعْنَى «أَذِنَ الله» : أي اسْتَمَعَ، وَهُوَ إشَارَةٌ إِلَى الرِّضَا والقَبولِ.
قال البخاري: باب من لم يتغنَّ بالقرآن، وقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت (51) ] ، وذكر الحديث بمعناه.
التغنِّي بالقرآن: تحسين الصوت بقراءته، وقيل: الاستغناء به، وقيل: التحزُّن به. وقيل: التشاغل به، وقيل: التلذذ به والاستحلاء له.
وقيل: أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء كعادة العرب، فلما نزل القرآن أحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني والترنم.
وفي رواية عند الطحاوي: «حسن الترنُّم بالقرآن» .
وفي حديث عقبة بن عامر رفعه: «تعلموا القرآن وتغنوا به وأفشوه» .
وقال عبيد بن عمير: كان داود عليه السلام يتغَّن حين يقرأ، ويَبْكِي، ويُبْكِي.
قال الحافظ: والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات. وهو أنه يحسّن به صوته جاهرًا به، مترنمًا على طريق التحزن، مستغنيًا به عن غيره من الأخبار، طالبًا به غنى النفس، راجيًا به غنى اليد، وقد نظمت ذلك في بيتين:
??
…
تغنَّ بالقرآن حسن به الصوت
…
حزينًا جاهرًا رنَّم
واستغن عن كتب الألى طالبًا
…
غنى يد والنفس ثم الزمِ
ولاشكَّ أنَّ النُّفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنُّم أكثر من ميلها لمن لا يترنَّم؛ لأن للتطرب تأثيرًا في رقة القلب، وإجراء الدمع. وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك.
قال النووي: أجمع العماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفًا، أو أخفاه حرم. انتهى ملخصًا.
[1005]
وعن أَبي موسى الأَشعري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «لَقدْ أُوتِيتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
وفي رواية لمسلمٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «لَوْ رَأيْتَنِي وَأنَا أسْتَمِعُ لِقِراءتِكَ الْبَارِحَةَ» .
قوله: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة» . جواب «لو» محذوف، أي:
لسرَّك ذلك، فقال أبو موسى: يا رسول الله، لو أعلم أنك تسمعه لحبَّرته لك تحبيرًا.
وفيه: دليل على استحباب تحسين الصوت بالقراءة، وأن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، كما يستحب عند التعليم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك، كما في حديث عبد الله بن مغفل: رأيت
…
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح قراءة لينة، يقرأ وهو يرجَّع.
قال ابن أبي جمرة: معنى الترجيع: بتحسين التلاوة لا ترجيع الغناء، لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة.
[1006]
وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أحَداً أحْسَنَ صَوْتاً مِنْهُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذ الحديث: استحباب تحسين الصوت بالقراءة في الصلاة وغيرها.
[1007]
وعن أَبي لُبَابَةَ بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا» . رواه أَبُو داود بإسنادٍ جيدٍ. ومعنى «يَتَغَنَّى» : يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ.
قال البخاري: باب من لم يتغنَّ بالقرآن.
قال الحافظ: هذه الترجمة لفظ حديث أورده المصنف في الأحكام بلفظ: «من لم يتغن بالقرآن فليس منا» . انتهى.
وروى الحاكم وغيره: «زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا» . وروى عبد الرزاق وغيره: «لكل شيء حَلية، وحلية القرآن الصوت الحسن» . قالوا: فإن لم يكن حسن الصوت؟ قال:
…
[1008]
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قَالَ لِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ القُرْآنَ» ، فقلتُ: يَا رسولَ الله، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ:«إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى جِئْتُ إِلَى هذِهِ الآية:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً} . قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار الصالحين.
قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء (109) ] ، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم (58) ] .
وفي الحديث: استماع قراءة القرآن والإصغاء إليه، والتدبر فيها واستحباب طلب القراءة من الغير ليستمع له، وهو أبلغ في التفهُّم والتدبَّر من قراءته بنفسه.
وفيه: التواضع لأهل العلم والفضل، ورفع منزلتهم.
قال ابن بطال: إنما بكى صلى الله عليه وسلم عند تلاوة هذه الآية، لأنه مثَّل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق، وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر يحق له طول البكاء.