الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1879]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، وأكْثِرْنَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ؛ فَإنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» قالت امرأةٌ مِنْهُنَّ: مَا لَنَا أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ» قالت: ما نُقْصَانُ العَقْلِ وَالدِّينِ؟ قال: «شَهَادَةُ امْرَأتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ، وَتَمْكُثُ الأَيَّامَ لا تُصَلِّي» . رواه مسلم.
قوله: «وتكفرن العشير» ، أي: تنسين معروف الزوج وجميله.
وفي الحديث الآخر: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا يسيرًا، قالت: ما رأيت منك خيرً قط» .
قوله: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» .
اللب: العقل الخالص وذلك لعظم كيدهنَّ، وقوة حيلهنَّ. قال تعالى:{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} .
وفي الحديث: استحباب وعظ النساء، وتعلميهنَّ أحكام الإِسلام وتذكيرهنَّ بما يجب عليهنَّ وحثَّهنَّ على الصدقة والاستغفار.
وفيه: أن الصدقة والاستغفار من دوافع العذاب.
وفيه: بذل النصيحة والإخلاص للمحتاجين ولو كان الطالب غير محتاج، واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين. والله أعلم.
372- باب بيان مَا أعدَّ اللهُ تَعَالَى للمؤمنين في الجنة
قَالَ الله تَعَالَى: {إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورُهِمْ مِنْ غِلٍّ إخْواناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا
يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر (45: 48) ] .
الجنات: البساتين. وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} ، أي: سالمين من الآفات، مسلم عليكم {آمِنِينَ} ، أي: من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج، ولا انقطاع، ولا فناء، وقوله:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} ، الغل: الشحناء والعدواة، والحقد، والحسد.
وعن أبي أمامة: قال: «لا يدخل الجنة مؤمن، حتى ينزع الله ما في صدره من غل، حتى ينزع منه مثل السبع الضاري» .
وفي الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخلص المؤمن من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة.
وقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} ، أي: تعب {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} .
قال البغوي: هذه أنص آية في القرآن على الخلود.
وقال ابن كثير، وقوله:{لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} ، يعني المشقة والأذى، كما جاء في الصحيحين:«إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} ، كما جاء في الحديث:«يقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحوا، فلا تمرضوا أبدًا. وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدًا. وإن لكم أن تقيموا، فلا تظعنوا أبدًا» . وقال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}
…
[الكهف (108) ] .
وقال تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ *
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف (68: 73) ] .
قال ابن كثير: وقوله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ، ثم بشرهم، فقال:{الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} ، أي: آمنت قلوبهم وبواطنهم، وانقادات لشرع الله جوارحهم وظواهرهم.
قال المعتمر بن سليمان:، عن أبيه: إذا كان يوم القيامة، فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع، فينادي منادٍ:{يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ، فيرجوها الناس كلهم. قال: فيتبعها
…
{الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} ، قال: فييأس الناس منها غير المؤمنين {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} ، أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} ، أي: تتنعمون وتسعدون {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} ، أي: زبادي آنية الطعام: {وَأَكْوَابٍ} ، وهي آنية الشراب، أي: من ذهب لا خراطيم لها، ولا عرى، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} ، أي: طيب الطعم والريح، وحسن المنظر.
ثم ذكر أحاديث، منها: ما رواه أحمد: حدثنا حسن، هو ابن موسى، حدثنا مسكين بن عبد العزيز، حدثنا أبو الأشعث الضرير، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من له لسبع درجات، وهو على السادسة، وفوقه السابعة. وإن له لثلاث مئة خادم، ويغدى عليه ويراح كل يوم ثلاث مئة صحفة» ، ولا أعلمه قال: إلا من ذهب، «في كل صحفة لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره. ومن الأشربة ثلاثة مئة إناء، في كل إناء لون ليس في الآخر. وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره. وإنه ليقول: يَا رب، لو آذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص
مما عندي شيء. وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا، وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض» .
وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، أي: في الجنة {خَالِدُونَ} ، أي: لا تخرجون عنها، ولا تبغون عنها حولاً. ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، أي: أعمالكم الصالحة كانت سببًا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحدًا عمله الجنة، ولكن برحمة الله وفضله. وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات.
وقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} ، أي: من جميع الأنواع: {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} ، أي: مهما اخترتم وأردتم. ولما ذكر الطعام والشراب، ذكر بعده الفاكهة، لتتم النعمة والغبطة. والله تعالى أعلم، انتهى ملخصًا.
قال ابن كثير: إن المتقين، أي: لله في الدنيا {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} ، أي: في الآخرة، وهو الجنة، قد آمنوا فيها من الموت، والخروج من كل هم وحزن، وجزع وتعب ونصب، ومن الشيطان وكيده، وسائر الآفات والمصائب {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، وهذا في مقابلة ما الأشقياء فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم.
وقوله تعالى: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ} وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها {وَإِسْتَبْرَقٍ} وهو ما فيه بريق ولمعان، وذلك كالرياش وما يلبس على أعالي القماش {مُّتَقَابِلِينَ} ، أي: على سرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} ، أي: هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين الحسان، اللاتي لم يطمثهنَّ إنس قبلهم ولا جان، كأنهن الياقوت والمرجان. وذكر حديث أنس:«لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء، لعذوبة ريقها» .
وقوله عز وجل: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} ، أي: مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم، وهم آمنون من انقطاعه، وامتناعه، بل يحضر إليهم كلما أرادوا.
وقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع، ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا.
كما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يَا أهل الجنة، خلود فلا موت. ويَا أهل النار خلود فلا موت» . وذكر أحاديث منها:
ما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الله دخل الجنة، ينعم فيها ولا ييأس، ويحيا فيها فلا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» .
وحديث جابر رضي الله عنه قال: قيل: يَا رسول الله، هل ينام أهل الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون» .
وقوله تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، أي: مع هذا النعيم العظيم المقيم، وقد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم، فحصل لهم المطلوب، ونجاهم من المرهوب ولهذا قال عز وجل:{فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، أي: إنما كان هذا بفضله عليهم، وإحسانه إليهم.
كما ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«اعملوا وسدّدوا، وقاربوا، واعلموا أنَّ أحدًا لن يدخله عمله الجنة» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» .
وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين (22: 28) ] .
قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} ، أي: يوم القيامة هم في نعيم مقيم، وجنات فيها فضل عميم. {عَلَى الأَرَائِكِ} ، وهي السرر تحت الحجال، ينظرون في ملكهم، وما أعطاهم الله من الخير، والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد.
وقيل: معناه على الأرائك ينظرون إلى الله عز وجل، وهذا مقابل لما وصف به أوئك الفجار:{كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} . فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل، وهم عى سررهم وفرشهم. كما تقدم في حديث ابن عمر:«إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أعلاهم لمن ينظر إلى الله عز وجل في اليوم مرتين» .
وقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} ، أي: تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم، أي: صفة الرأفة، والحشمة، والسرور، والدّعة، والرياسة، مما هم فيه من النعيم العظيم.
وقوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} ، أي: يسقون من خمر من الجنة، والرحيق: من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن وقتادة، وابن زيد.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حثنا زهير، عن سعد أبي المجاهد الطائي، عن عطية بن سعيد العوفي، عن أبي سعيد الخدري، أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أيما مؤمن سقى مؤمنًا شربة ماء على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيّما مؤمن كسا مؤمنًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة» .
وقال ابن مسعود في قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} ، أي: خلطه مسك.
وقال العوفي: عن ابن عباس: طيَّب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها مسك، ختم بمسك. كذا قال قتادة والضحاك.
وقال إبراهيم والحسن: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} ، أي: عاقبته مسك.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي الدرداء {خِتَامُهُ مِسْكٌ} ، قال: شراب أبيض مثل القصَّة يختمون به شرابهم، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها.
وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} ، قال: طيبه مسك.
وقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} ، أي: وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويتكاثر ويسبق إلى مثله المستبقون، وليتباهى ويتكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون كقوله تعالى:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات (61) ] .
وقوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} ، أي: ومزاج هذا الرحيق الموصوف، من تسنيم، أي: شراب يقال له: تسنيم، وهو: أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه. قاله أبو صالح، والضحاك. ولهذا قال:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ، أي: يشربها المقربون صرفًا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا. قاله
ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، وقتادة وغيرهم. انتهى.
وقال ابن كثير: - أيضًا - على قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان (5، 6) ] ، وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة.
قال الحسن: برد الكافور في طيب الزنجبيل، ولهذا قال {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} ، أي: هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفًا، بلا مزج، ويروون بها.
وقوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} ، أي: ويسقون، يعني الأبرار أيضًا في هذه الأكواب كأسًا، أي: خمرًا كان مزاجها زنجبيلاً، فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور، وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة، ومن هذا تارة.
وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفًا، وقد تقدم قوله:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} ، وقال ها هنا:{عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} ، أي: الزنجبيل عين في الجنة، تسمى سلسبيلاً.
قال عكرمة: اسم عين في الجنة.
وقال قتادة: {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} عين: سلسة مستقيد ماؤها.
وحكى ابن جيرير، عن بعضهم: أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق. واختار هو أنها تعم ذلك كله، وهو كما قال: انتهى ملخصًا.
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
أي: والآيات القرآنية فيما أعد الله تعالى للمؤمنين في الجنة كثيرة في القرآن قال الله تعالى {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر (20) ] .
وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً} [النبأ (31: 36) ]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة (7، 8) ] .
وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، إلى قوله تعالى:
…
{وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الآيات الرحمن (46، 62) ] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً} . [النساء (57) ] .
[1880]
وعن جابر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأكُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ فِيهَا، وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَمْتَخِطُونَ، وَلا
يَبُولُونَ، وَلكِنْ طَعَامُهُمْ ذَلِكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ المِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ» . رواه مسلم.
قال ابن الجوزي: لما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال، لم يكن فيها أذى ولا فضلة تستقذر، بل يتولد عن تلك الأغذية أطيب ريح وأحسنه.
وقوله: «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» .
قال القرطبي: وجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بد له منه، فجعل تنفسهم تسبيحًا، وسببه: أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره.
[1881]
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة (17) ] » . متفق عَلَيْهِ.
معناه: أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين في الجنة نعيمًا غير ما أطلعهم عليه، وأخبرهم به.
[1882]
وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إضَاءةً، لا يَبُولُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ، وَلا يَمْتَخِطُونَ. أمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ -
عُودُ الطِّيبِ - أزْوَاجُهُمُ الحُورُ العيْنُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعاً فِي السَّمَاءِ» . متفق عَلَيْهِ.
قوله: «عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ واحدٍ» . رواه بعضهم بفتح الخاء وإسكان اللام وبعضهم بضمهما وكلاهما صحيح.
قوله: «لا يبولون، ولا يتغوَّطون، ولا يتفلَّون، ولا يتمخَطون» .
قال الحافظ: قد اشتمل ذلك على نفي جميع النقص عنهم.
قوله: «ولكل واحد منهم زوجتان» ، أي: من بنات آدم سوى الحور.
[1883]
وعن المغيرةِ بن شعبة رضي الله عنه عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: «سألَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ: ما أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قال: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وأخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيقُولُ: رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَيقُولُ في الخامِسَةِ. رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ: هذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ؛ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ
عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . رواه مسلم.
قوله: «ولك ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك» ، هذا شامل لكل أحد من أهل الجنة. قال تعالى:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف (71) ] .
[1884]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّةَ. رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْواً، فَيقُولُ اللهُ عز وجل له: اذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ، فَيقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى ! فَيَقُولُ اللهُ عز وجل له: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فيأتِيهَا، فَيُخيَّلُ إليهِ أنَّها مَلأى، فيَرْجِعُ. فَيَقولُ: يا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأى، فيقُولُ اللهُ عز وجل لَهُ: اذهبْ فَادخُلِ الجنَّةَ. فَإنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشرَةَ أَمْثَالِهَا؛ أوْ إنَّ لَكَ مِثْلَ عَشرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، فَيقُولُ: أتَسْخَرُ بِي، أَوْ تَضْحَكُ بِي وَأنْتَ المَلِكُ» قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَكَانَ يقولُ: «ذلِكَ أَدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً» . متفق عليه.
[1885]
وعن أبي موسى رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لِلمُؤْمِنِ فِي الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُها في السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلاً. لِلمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً» متفق عليه.
«المِيلُ» : سِتة آلافِ ذِراعٍ.
في رواية لمسلم: «عرضها ستون ميلاً» .
قال النووي: ولا معارضة بينهما، فعرضها في مساحة أرضها، وطولها في العلو متساويان.
[1886]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّريعَ مِئَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُها» . متفق عليه.
وروياه في الصحيحين أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: «يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مئةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُها» .
في هذا الحديث: بيان سعة الجنة.
قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد (21) ] .
وقال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران (133) ] .
قال البغوي: أي: عرضها كعرض السماوات والأرض، أي: سعتها. وإنما ذكر العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأكثر والأغلب أكثر من عرضه. يقول: هذه صفةُ عَرْضِها فكيف طولها.
قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذ على التمثيل، لا أنها كالسماوات والأرض لا غير معناه كعرض السماوات والأرضين السبع عند ظنكم.
وسئل أنس بن مالك رضي الله عنه، عن الجنة أفي السماء أم في الأرض؟
فقال: أي أرضٍ وسماء تسع الجنة! فقيل: فأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش.
قال قتادة: كانوا يرون الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش، وأن جهنم تحت الأرضين السبع. انتهى ملخصًا.
ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن» .
وكذلك ما رواه الترمذي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الجنة مئة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، منها تفجّر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى» .
[1887]
وعنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِن فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُق مِنَ المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قالُوا: يا رسول الله؛ تِلْكَ مَنَازِلُ الأنبياء لا يَبْلُغُها غَيْرُهُمْ قال: «بَلَى والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ» . متفق عليه.
قوله: «كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب» ، أي: أهل الجنة متفاوتوا المنازل بحسب درجاتهم في الفضل، حتى إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم، كالنجوم.
قال القرطبي: شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة، برؤية الرائي الكوكب المضيء الباقي في جانب الشرق أو الغرب في الاستضاءة مع البعد،
وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة، وشدة البعد. والمراد بالأفق: السماء.
[1888]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَقَابُ قَوْسٍ أَحَدِكم مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وتَغْرُبُ» متفق عليه.
أي: هذا القدر من الجنة خير مما في الدنيا أجمع، لنفاسته ولدوامه وبقائه، كما في الحديث الآخر:«وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها» .
[1889]
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجَنَّةِ سُوقاً يَأتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ. فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِم وَثِيَابِهِمْ، فَيَزدَادُونَ حُسناً وَجَمَالاً فَيَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ، وَقَد ازْدَادُوا حُسْناً وَجَمَالاً، فَيقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لقدِ ازْدَدْتُمْ حُسْناً وَجَمَالاً! فَيقُولُونَ: وَأنْتُمْ وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمالاً» ! . رواه مسلم.
قال النووي: المراد بالسُّوق هنا، مجتمع لهم يجتمعون فيه كما يجتمع الناس في الدنيا في أسواقها، أي: تعرض الأشياء على أهلها، فيأخذ كل منهم ما أراد.
وقوله: «يأتونها كل جمعة» ، أي: في مقدار كل أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار.
وقوله: «فتهب عليهم ريح الشمال – بفتح الشين وكسرها – فتحثو في وجوههم وثيابهم» ، حذف المفعول لتعميم ما تحثو به من النعيم.
فيزدادون حسنًا وجمالاً. عطف الجمال على الحسن، من عطف الخاص على العام.
[1890]
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءونَ الغُرَفَ فِي الجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءونَ الكَوكَبَ فِي السَّمَاءِ» متفق عليه.
قال الشارح: هو بمعنى حديث أبي هريرة السابق، إلا أن في ذلك أن الترائي لأهل الغرف، وفي هذا نفس الغرف وهما متلازمان.
[1891]
وعنه رضي الله عنه قال: شَهِدْتُ مِنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَجْلِساً وَصَفَ فِيهِ الجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ في آخِرِ حَدِيثِهِ:«فيهَا مَا لا عَينٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ» ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ} إلى قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
…
أَعْيُنٍ} [السجدة (16: 17) ] . رواه البخاري.
قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة (16) ] . أي: يتهجدون بالليل يدعون ربهم خوفًا وطمعًا.
وعن أبي الدرداء، وأبي ذر، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم: هم الذين يصلون العشاء الآخرة، والفجر في جماعة.
[1892]
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يُنَادِي مُنَادٍ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا، فَلا تَمُوتُوا أَبَداً، إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا، فلا تَسْقَمُوا أبداً، وإنَّ لَكمْ
أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبداً، وإنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا، فَلا تَبْأسُوا أَبَداً» . رواه مسلم.
إذا أمن ابن آدم من هذه الأربع، كمّل عيشه: السقم، والبؤس، والهرم، والموت، وهي منتفية في الجنة.
[1893]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِن الجَنَّةِ أنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى فَيقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيتَ؟ فيقولُ: نَعَمْ، فيقُولُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ ما تَمَنَّيتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» . رواه مسلم.
فيه: أن الله تعالى يعطي عباده في الجنة ما يتمنون، ويزيدهم من فضله.
[1894]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله عز وجل يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيقولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ في يَديْكَ، فَيقُولُ: هَلْ رَضِيتُم؟ فَيقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى يَا رَبَّنَا وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيقُولُ: ألا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ فَيقُولُونَ: وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذلِكَ؟ فَيقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُمْ رِضْوَانِي فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَداً» . متفق عليه.
يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة (72) ] .
[1895]
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَقَالَ:«إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَاناً كما تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ» متفق عليه.
في هذا الحديث: إثبات رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة، ويشهد لهذا الحديث وغيره، قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
…
[القيامة (22، 23) ] .
قوله: «عيانًا» ، أي: معاينة.
قوله: «لا تضامون في رؤيته» ، أي: لا يصيبكم ضيم من زحام ونحوه حال رؤيته. ورُوي: «لا تَضَامُّون» . من التضام، أي: لا تتضامنون، وذلك لوضوح المرئي وظهوره.
[1896]
وعن صُهيب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُريدُونَ شَيئاً أَزيدُكُمْ؟ فَيقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلَى رَبِّهِمْ» . رواه مسلم.
يشهد لهذا الحديث وغيره، قوله تعالى:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس (26) ] .
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنَّ لمن أحسن العمل في لدنيا بالإيمان، والعمل الصالح، الحسنى في الدار الآخرة، كقوله تعالى:{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن (60) ] .
وقوله: {وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وزيادة على ذلك أيضًا، ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم. فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم بل بفضله، ورحمته.
وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم، عن أبي بكر الصديق، وغيره. وذكر حديث صهيب وغيره.
منها: ما رواه ابن جرير، وغيره من حديث أبي بن كعب، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قال:«الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل» .
…
[يونس (9، 10) ] .
قال ابن كثير: هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم، أي: بسبب إيمانهم في الدنيا، يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه، ويخلصوا إلى الجنة.
إلى أن قال: وقوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: (10) ] .
قال ابن جريج: أخبرت أن قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} قال: إذا مر بهم الطير قالوا: سبحانك اللهم، وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما يشتهونه، فيسلم عليهم فيردون عليه، فذلك قوله:{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} .
قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، إلى أن قال:
وقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدًا، المعبود على طل المدا، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:(1) ] ، {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:(1) ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأولى والآخرة، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، في جميع الأحوال، ولهذا جاء في الحديث:«أن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» ، وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم، فتكرر، وتعاد، وتزاد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ النَّبيِّ الأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كما صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وعلى آلِ إبْراهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كما بَاركْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبراهيم في العالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
قال المؤلِّفُ:
فَرَغْتُ مِنْهُ يَوْمَ الإثْنَيْنِ رَابِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَسِتِّ مِئَةٍ
بِدِمشق.
ختم المصنف رحمه الله تعالى كتابه بهذه الآية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، إشارة إلى أنه لا مهتدي إلا من هداه مولاه، وأنه لا سبيل إلى الهداية إلا من طريق محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، وإلى ما أعدّ الله لأهلها فيها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفّها بالمكاره، ثم قال: يَا جبريل اذهب فانظر إليها، قال: فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. قال: فلما خلق الله النار قال: يَا جبريل اذهب فانظر إليها، قال: فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات. ثم قال: يَا جبريل، اذهب فانظر إليها، قال: فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها» . رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها
…
سوى كفئها، والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنَّا بكل كريهة
…
وحفّت بما يؤذي النفوس ويؤلم
فلله ما في حشوها من مسرة
…
وأصناف لذات بها يتنعم