الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- صلى الله عليه وسلم يوم خيبر مسلمًا بكافر قتله غِيلَةً، وقال:«أنا أولى وأحقُّ من أوفى بذمَّته» = فمرسل لا يثبت.
ورواه أيضًا
(1)
من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن ابن البَيلَماني، ولا يصح من الوجهين: الإرسال وابن البيلماني.
وقد أسنده بعضهم من حديث ابن البيلماني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، ولا يصح.
وهذا الحديث مداره على ابن البيلماني، والبليَّة فيه منه، وهو مُجمَع على ترك الاحتجاج به، فضلًا عن تقديم روايته على أحاديث الثقات الأئمة المخرجةِ في الصحاح كلها.
3 -
باب القصاص من اللطمة
(3)
539/ 4370 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ قَسمًا أقبل رجلٌ فأكَبَّ عليه، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُرْجُونٍ كان معه، فجُرحَ بوجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تَعَالَ فاسْتَقِدْ» ، فقال: بل عَفَوتُ يا رسول الله.
(1)
برقم (250)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (18514)، وابن أبي شيبة (28031)، من طرق عن ربيعة به.
(2)
أخرجه الدارقطني (3259) والبيهقي (8/ 30) من طريق واهٍ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن به موصولًا، والثقات إنما رووه عن ربيعة، عن ابن البيلماني مرسلًا. قال الدارقطني: وابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجّة إذا وصل الحديث، فكيف بما يُرسله؟!
(3)
هذه الترجمة من المؤلف، وكانت الترجمة في بعض نسخ «السنن»:«باب القَوَد من الضربة، وقصّ الأمير من نفسه» ، وفي بعضها و «المختصر» اندرج الحديثان تحت الباب الآتي:«باب عفو النساء» .
وأخرجه النسائي
(1)
.
540/ 4371 - وعن أبي نَضْرة، عن أبي فِراس قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني لم أَبعث عُمَّالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فُعِلَ به غير ذلك فَلْيَرفَعه إليَّ أُقِصُّه منه. قال عمرو بن العاص: لو أن رجلًا أدَّبَ بعض رعيته أَتُقِصُّه منه؟ قال: إِي والذي نفسي بيده أُقِصُّه، وقد رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقَصَّ من نفسه.
وأخرجه النسائي
(2)
.
وأبو فراس قيل: هو الربيع بن زياد بن أنس الحارثي، وقيل: كنيته أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن. وسئل أبو زرعة الرازي عن أبي فراس هذا الذي روى عن عمر، وروى عنه أبو نضرة، فقال: لا أعرفه
(3)
.
وقال الحافظ أبو أحمد الكرابيسي
(4)
: ولا أعرف أبا نَضْرة روى عن الربيع بن زياد شيئًا، إنما روى عنه أبو مِجْلَز وقتادة، وذكره الشعبي في بعض أخباره. وأبو فراس الذي روى عنه أبو نضرة هو النَّهْدي. هذا آخر كلامه.
(1)
أبو داود (4536)، والنسائي (4773)، وأخرجه أيضًا أحمد (11229)، وابن حبان (6434)، كلهم من طريق بكير بن الأشج، عن عُبيدة بن مُسافع، عن أبي سعيد.
إسناده ضعيف، عُبيدة بن مُسافع لم يوثقه غير ابن حبان، وقال علي ابن المديني: مجهول ولا أدري سمع من أبي سعيد أم لا؟ «تهذيب التهذيب» (7/ 85).
(2)
أبو داود (4537)، والنسائي (4777). وفي إسناده ضعف لجهالة حال أبي فراس. وأخرج عبد الرزاق (18040) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمر بنحوه، وفي إسناده إرسال.
(3)
«الجرح والتعديل» (9/ 423).
(4)
هو الحاكم الكبير (ت 378)، وكتابه «الأَسامي والكنى» لم يصلنا كاملًا، وليس «أبو فراس» في القدر المطبوع.
وأبو نضرة ــ بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ــ هو المنذر بن مالك العَوَقِيُّ.
قال ابن القيم رحمه الله: وقال الشافعي في رواية الربيع
(1)
: ورُوي من حديث عمر أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي القَوَد من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي
(2)
. احتج به الشافعي في القصاص فيما دون النفس.
وقد تقدم
(3)
حديث النعمان بن بشير وقولُه لمدعي السرقة: إن شئتم أن أضربهم، فإن خرج متاعكُم
(4)
وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذتُ من ظهورهم، فقالوا: هذا حكمك؟ فقال هذا حكم الله ورسوله.
وروى النسائي
(5)
من حديث محمد بن هلال عن أبيه عن أبي هريرة
(1)
«الأم» (7/ 128).
(2)
سبق حديث عمر، وليس فيه ذكر أبي بكر. وأخرج عبد الرزاق (18042) عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد من نفسه، وأن أبا بكر أقاد رجلًا من نفسه، وأن عمر أقاد سعدًا من نفسه.
(3)
في «السنن» (4382) و «المختصر» (4217)، كتاب الحدود، باب في الامتحان بالضرب، وأخرجه أيضًا النسائي (4874)، وإسناده حسن.
(4)
ط. الفقي: «منه علم» ، تحريف.
(5)
«المجتبى» (4776) و «الكبرى» (6952)، وأخرجه أبو داود (4775)، وفي إسناده ضعف إذ هلال المدني ــ والد محمد ــ لا يُعرَف، وأصل القصة في البخاري (3149) ومسلم (1057) من حديث أنس، إلا أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الأعرابي الإقادة من نفسه. وهذه الزيادة فيها نكارة إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتقم لنفسه.
قال: كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فإذا قام قمنا، فقام يومًا وقمنا معه حتى إذا بلغ وسط المسجد أدركه أعرابي، فجبذ بردائه من ورائه، وكان رداؤه خَشِنًا فحمَّر رقبته، قال: يا محمد، احمِلْ لي على بعيري هذين، فإنك لا تحمل من مالِك ولا من مال أبيك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا، وأستغفر الله، لا أحمل لك حتى تُقيدَني مما جبذت برقبتي» ، فقال الأعرابي: لا والله لا أقيدك، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك ثلاث مرّات، كل ذلك يقول: لا والله لا أُقيدك]
(1)
، فلما سمعنا قول الأعرابي أقبلنا إليه سراعًا فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«عزمتُ على من سمع كلامي أن لا يَبرحَ مقامه حتى آذَنَ له» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من القوم:«يا فلان احمل له على بعير شعيرًا، وعلى بعيرٍ تمرًا» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصرفوا» . ترجم عليه: «القود من الجَبْذَة» ، ورواه أبو داود.
وروى النسائي
(2)
أيضًا من حديث سعيد بن جبير أخبرني ابن عباس: أن رجلًا وقع في أبٍ كان له في الجاهلية، فلطمه العباس، فجاء
(3)
قومَه فقالوا: لنَلْطِمَنَّه كما لطمه، فلبسوا السلاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، فقال:«أيها الناس، أي أهل الأرض تعلمون أكرمُ على الله؟» قالوا
(1)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل لانتقال النظر.
(2)
في «المجتبى» (4775) و «الكبرى» (6951)، وأخرجه أيضًا أحمد (2734)، والبزار (5082)، والحاكم (3/ 329) كلهم من طريق عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جبير به.
عبد الأعلى فيه لين، وقد قال أحمد إنه منكر الحديث عن سعيد بن جبير، ومع ذلك حسّن إسناده البزّار وصححه الحاكم. وانظر:«الكامل» لابن عدي (5/ 316).
(3)
في الأصل: «جاوا» ، خطأ.
أنت، قال:«فإن العباس مني وأنا منه لا تسبُّوا أمواتَنا فتؤذوا أحياءَنا» ، فجاء القوم فقالوا: يا رسول الله، نعوذ بالله من غضبك، استغفر لنا. وترجم عليه:«القود من اللطمة» .
وروى النسائي أيضًا حديث أبي سعيد المتقدم
(1)
وقال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئًا إذ أكبَّ عليه رجل فطعنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعُرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تعال فاستَقِد» ، فقال الرجل: بل عفوتُ يا رسول الله. وترجم عليه: «القود من الطعنة» .
وفي «الصحيحين»
(2)
عن عائشة قالت: لَدَدْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فأشار أن لا تَلدُّوني، فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال:«لا يبقى أحدٌ منكم إلا لُدَّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهد» . ومن بعض تراجم البخاري عليه: «باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات» .
وفي الباب حديث أسيد بن حضير أن النبي صلى الله عليه وسلم طعنه في خاصرته بعود فقال: أَصْبِرْني فقال: «اصطَبِرْ» ، قال: إن عليك قميصًا، وليس عليّ قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه. فاحتضنه وجعل يقبِّل كَشْحَه، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله. رواه أبو داود في كتاب الأدب
(3)
، وسيأتي هناك إن شاء الله تعالى. و «أَصبرني» أي أقدني من نفسك، و «اصطبر» أي استقد، والاصطبار: الاقتصاص، يقال: أصبرته بقتيله: أقدته منه
(4)
.
(1)
وهو الحديث الأول في الباب.
(2)
البخاري (4458، 5712، 6886، 6897)، ومسلم (2213).
(3)
برقم (5224)، وأخرجه أيضًا الحاكم (3/ 228) وقال: صحيح الإسناد.
(4)
انظر: «النهاية في غريب الحديث» (صبر).
وذكر النسائي
(1)
من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مُصَدِّقًا، فلاحَّه رجل في صدقته فضربه أبو جهم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: القَوَد يا رسول الله، فقال:«لكم كذا وكذا» [فلم يرضوا به، فقال: «لكم كذا وكذا»، فرضوا به]
(2)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» ، قالوا: نعم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«إن هؤلاء أتوني يريدون القَوَد فعرضتُ عليهم كذا وكذا، فرَضُوا» ، قالوا: لا، فهمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا فكفُّوا، ثم دعاهم فقال:«أرضيتم؟» قالوا: نعم، قال:«فإني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» ، قالوا: نعم، فخطب الناس ثم قال:«أرضيتم؟» قالوا: نعم».
فصل
وقد اختلف الناس في هذه المسألة ــ وهي القصاص في اللطمة والضربة ونحوها مما لا يمكن للمقتص أن يفعل بخصمه مثل ما فعله به من كل وجه، هل يسوغ القصاص في ذلك، أو يعدل إلى عقوبته بجنس آخر، وهو التعزير؟ ــ على قولين:
أصحهما: أنه شرع فيه القصاص، وهو مذهب الخلفاء الراشدين، ثبت
(1)
في «المجتبى» (4778) و «الكبرى» (6954)، وأخرجه أيضًا أحمد (25958)، وأبو داود (4534)، وابن حبان (4487)، كلهم من طريق عبد الرزاق به، وهو في «المصنف» (18032).
(2)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل.
ذلك عنهم، حكاه عنهم أحمد وأبو إسحاق الجوزجاني في «المترجم»
(1)
، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الشالَنْجي وغيره
(2)
.
قال شيخنا
(3)
: وهو قول جمهور السلف.
والقول الثاني: أنه لا يشرع فيه القصاص، وهو المنقول عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة
(4)
، وقول المتأخرين من أصحاب أحمد، حتى حكى بعضهم الإجماع على أنه لا قصاص فيه. وليس كما زعم، بل حكاية إجماع الصحابة على القصاص أقرب من حكاية الإجماع على منعه، فإنه ثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا يعلم لهم مخالف فيه.
ومأخذ القولين أن الله تعالى أمر بالعدل في ذلك، فبقي النظر في أي الأمرين أقرب إلى العدل؟ فقال المانعون: المماثلة لا تمكن هنا، فكان العدل يقتضي العدولَ إلى جنس آخر وهو التعزير، فإن القصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ولهذا لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حد، ولا في القطع إلا من مَفْصِل لتُمكن المماثلة، فإذا تعذرت في القطع والجرح صرنا
(1)
سبق التعريف به (2/ 409)، وقد نقل منه المؤلف الآثار عن الخلفاء بأسانيدها في «أعلام الموقعين» (2/ 119 - 123)، وانظر:«مصنف عبد الرزاق» (18042)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (الديات، باب القود من اللطمة)، و «الأوسط» لابن المنذر (13/ 305 - 307).
(2)
انظر: «الإنصاف» (25/ 245 - 246).
(3)
في «قاعدة في شمول النصوص للأحكام» ضمن «جامع المسائل» (2/ 260)، وقد أفاد المؤلف منها في مواضع من هذا البحث.
(4)
انظر: «الأم» (7/ 204) و (9/ 148)، و «المدونة» (16/ 429)، و «بدائع الصنائع» (7/ 299).
إلى الدية، فكذا في اللطمة ونحوها، لما تعذَّرت صرنا إلى التعزير.
قال المجوزون: القصاص في ذلك أقرب إلى الكتاب والسنة والقياس والعدل من التعزير.
أما الكتاب: فإن الله سبحانه قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ومعلوم أن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان، واللطمة أشد مماثلةً للطمة والضربة للضربة من التعزير لها، فإنه ضَرْب في غير الموضع، غير مماثل لا في الصورة، ولا في المحل، ولا في القدر؛ فأنتم فررتم من تفاوتٍ لا يمكن الاحتراز منه بين اللطمتين، فصرتم إلى أعظمَ تفاوتًا منه، بلا نصٍّ ولا قياس.
قالوا: وأما السنة، فما ذكرنا من الأحاديث في هذا الباب، وقد تقدمت، ولو لم يكن في الباب إلا سنة الخلفاء الراشدين لكفى بها دليلًا وحجة.
قالوا: فالتعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية، ولا قدرها، بل قد يعزِّره بالسوط والعصا ويكون إنما ضربه بيده أو رِجله، فكانت العقوبة بحسب الإمكان في ذلك أقرب إلى العدل الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله.
قالوا: وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من [ق 227] جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] أي: وَفق أعمالهم، وهذا ثابت شرعًا وقدرًا.
أما الشرع، فلقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
…
} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فأخبر سبحانه أن الجروح
قصاص، مع أن الجارح قد يشتد عذابُه إذا فُعِل به كما فعل، حتى يُستوفَى منه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رضخ رأس اليهودي كما رضخ رأس الجارية
(1)
، وهذا القتل قصاص، لأنه لو كان لنقض العهد أو للحراب لكان بالسيف، لا بِرَضْخ
(2)
الرأس.
ولهذا كان أصح الأقوال: أنه يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجنيّ عليه، ما لم يكن محرّمًا لحق الله، كالقتل باللواطة وتجريع الخمر ونحوه؛ فيُحرَّق كما حرَّق، ويُلقَى من شاهق كما فعل، ويخنق كما خنق، لأن هذا أقرب إلى العدل، وحصولِ مسمى القصاص، وإدراك الثأر، والتشفي، والزجرِ المطلوب من القصاص. وهذا مذهب مالك والشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد.
قالوا: وأما كون القصاص لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حد، ولا في الطرف حتى ينتهي إلى مَفصِل، لِتحقُّق المماثلة= فهذا إنما اشتُرط لئلا يزيد المُقتضي
(3)
على مقدار الجناية، فيصير الجاني
(4)
مظلومًا بذهاب ذلك الجزء، فتعذرت المماثلة فصِرنا إلى الدية. وهذا بخلاف اللطمة والضربة، فإنه لو قُدِّر تعدي المقتضي فيها لم يكن ذلك بذهاب جزء، بل بزيادة ألمٍ وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولهذا توجبون التعزير مع أن أَلمَه يكون أضعافَ ألم اللطمة، ويُبرَد من سنِّ الجاني مقدارُ ما كَسَر من سن المجني عليه مع شدة الألم، وكذلك قَلْعُ سنه وعينه ونحو ذلك لا بد فيه من زيادة ألمٍ ليصل المجنيُّ عليه إلى استيفاء حقه، فهلّا اغتفرتم
(5)
هذا الألم المقدَّرَ زيادتُه في اللطمة والضربة،
(1)
أخرجه البخاري (5295) ومسلم (1672) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
في الطبعتين: «ولا يرضخ» خلافًا للأصل.
(3)
كذا في الأصل، وغير محرّر في (هـ)، والمراد: الذي يقتضي ــ أي يأخذ ويستوفي ــ حق المجنيّ عليه من الجاني بالاقتصاص منه. في ط. الفقي: «المقتصّ» ، وهو محتمل.
(4)
في الأصل و (هـ): «المجني عليه» ، والظاهر أنه سبق قلم، فإن المعنى على ما أثبت.
(5)
في الأصل والطبعتين هنا وفي السطر التالي: «اعتبرتم» تحريف، والتصحيح من (هـ).
كما اغتفرتموه فيما ذكرنا من الصور وغيرها؟
قال المانعون: كما عدلنا في الإتلاف المالي إلى القيمة عند تعذّر المماثلة، فكذلك هاهنا، بل أولى لحرمة البشرة وتأكُّدِها على حرمة المال.
قال المجوزون: هذا قياس فاسد من وجهين:
أحدهما: أنكم لا تقولون بالمماثلة في إتلاف المال، فإذا أتلف عليه ثوبًا لم تجوّزوا أن يُتلف عليه مثلَه مِن كل وجه، ولو قطع يده أو قتله لقُطعت يده وقُتل به، فعلم الفرق بين الأموال والأبشار، ودل على أن الجناية على النفوس والأطراف تُطلب فيها المقاصّة بما لا تُطْلب في الأموال.
الثاني: أنه لا يُسَلَّم
(1)
لكم أن غير المكيل والموزون يُضمَن بالقيمة لا بالنظير، ولا إجماعَ في المسألة ولا نص؛ بل الصحيح أنه يجب المثل في الحيوان وغيره بحسب الإمكان، كما ثبت عن الصحابة في جزاء الصيد أنهم قضوا فيه بمثله من النَّعَم بحسب الإمكان، فقضوا في النعامة ببدنة، وفي بقرة
(1)
رسمه في الأصل: «أن من سلم» ، ولعله تصحيف، والسياق على ما أثبت ويصحّ:«أنّا لا نسلّم» . وأصلحه الفقي بجعله استفهامًا هكذا: «أن من هو الذي سلم لكم
…
؟».
الوحش بقرةً
(1)
، وفي الظبي شاةً، إلى غير ذلك
(2)
.
قال المانعون: هذا على خلاف القياس، فيصار إليه اتباعًا للصحابة، ولهذا منعه أبو حنيفة وقدَّم القياس عليه، وأوجب القيمة
(3)
.
قال المجوزون: قولكم: إن هذا على خلاف القياس فرع على صحة الدليل الدال على أن المعتبر في ذلك هو القيمة دون النظير، وأنتم لم تذكروا على ذلك دليلًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، حتى يكون قضاء الصحابة بخلافه على خلاف القياس، فأين الدليل؟
قال المانعون: الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمَّن مُعتِقَ الشِّقْص إذا كان موسِرًا بقيمته
(4)
، ولم يُضمِّنه نصيبَ الشريك بمثله، فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون.
قال المجوزون: هذا أصل ما بنيتم عليه اعتبارَ القيمة في هذه المسائل وغيرها، ولكنه بناء على غير أساس، فإن هذا ليس مما نحن فيه في شيء، فإن هذا ليس من باب ضمان المتلفات بالقيمة، بل هو من باب تَمَلُّك مال الغير
(1)
في الطبعتين: «ببقرة» خلافًا للأصل.
(2)
انظر: «مصنف عبد الرزاق» (المناسك، باب النعامة يقتلها المحرم ــ إلى ــ باب الوبر والظبي)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (المناسك، في رجل أصاب صيدًا فأهدى شاة ــ إلى ــ في الرجل إذا أصاب حمار الوحش)، و «تفسير الطبري» (8/ 681 وما بعدها).
(3)
انظر: «بدائع الصنائع» (2/ 198).
(4)
كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة المتفق عليهما: «من أعتق شقصًا له من عبد وكان له ما يبلغ ثمنَه بقيمة العدل فهو عتيق» ، وقد سبق.
بالقيمة، كتملك الشقص المشفوع بثمنه، فإن نصيب الشريك يُقدَّرُ دخولُه في مُلك المعتِق ثم يَعتِق عليه بعد ذلك، والقائلون بالسراية متفقون على أنه يَعتِق كلُّه على مُلك المعتِق، والولاء له دون الشريك. واختلفوا: هل يسري العتق عقب إعتاقه، أو لا يَعتِق حتى يؤدي الثمن؟ على قولين للشافعي
(1)
، وهما في مذهب أحمد
(2)
. قال شيخنا
(3)
: والصحيح أنه لا يَعتِق إلا بالأداء.
وعلى هذا ينبني إذا أعتق الشريكُ نصيبه بعد عِتق الأول وقبل وزن القيمة، فعلى الأول: لا يَعتِق عليه، وعلى الثاني: يعتق عليه، ويكون الولاء بينهما.
وعلى هذا أيضًا ينبني إذا قال أحدهما: إذا أعتقتَ نصيبك فنصيبي حر، فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق، ويَعتِق كله من
(4)
مال المعتق، وعلى القول الثاني يصح التعليق، ويعتق نصيب الشريك من ماله.
فظهر أن استدلالكم بالعتق استدلال باطل، بل إنما يكون إتلافًا إذا قتله، فلو ثبت لكم بالنص أنه ضمّن قاتل العبد بالقيمة دون المثل كان حجةً، وأنى لكم بذلك!
قالوا: وأيضًا فالفرق
(5)
بين أن يكون المتلَف عينًا كاملة أو بعض عين،
(1)
انظر: «البيان» للعَمراني (8/ 324 - 325).
(2)
انظر: «الإنصاف» (19/ 30 - 31).
(3)
«قاعدة في شمول النصوص للأحكام» (2/ 264 - جامع المسائل).
(4)
في الطبعتين: «في» خلافًا للأصل.
(5)
كذا في الأصل، وفي «القاعدة» لشيخ الإسلام:«فإنه يفرّق» ، وأصلحه الفقي بزيادة «واضح» بعده!
فلو سلمنا أن التضمين كان تضمينَ إتلافٍ لم يجب مثله في العين الكاملة. والفرق بينهما: أن حق الشريك في العين التي لا تمكن [ق 228] قسمتها في نصف القيمة مثلًا أو ثُلُثها، فالواجب له من القيمة بنسبة ملكه، ولهذا يُجبَر شريكه على البيع إذا طلبه ليتوصّل إلى حقه من القيمة. والنبي صلى الله عليه وسلم راعى ذلك وقوَّم عليه العبد قيمةً كاملة، ثم أعطاه حقه من القيمة، ولم يقوِّم عليه الشِّقْصَ وحده فيعطيه قيمته، فدل على أن حق الشريك في نصف القيمة. فإذا كان كذلك فلو ضَمَّنّا المُعتِقَ نصيب الشريك بمثله من عبد آخرَ لم نجبره على البيع إذا طلبه شريكه، لأنه إذا لم يكن له حق في القيمة بل حقه في نفس العين فحقُّه باقٍ منها.
قالوا: فظهر أنه ليس معكم أصل تقيسون عليه، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع. وقد ثبت في «الصحيح»
(1)
: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض بَكرًا وقضى خيرًا منه. واحتج به من يُجوِّز قرض الحيوان، مع أن الواجب في القرض رد المثل، وهذا يدل على أن الحيوان مِثليٌّ.
ومن العجب أن يقال: إذا اقترض حيوانًا ردَّ قيمته، ويقاس ذلك على الإتلاف والغصب، فيُترَك موجَبُ النص الصحيح لقياسٍ لم يثبت أصلُه بنصٍّ ولا إجماع! ومنصوص أحمد: أن الحيوان في القرض يُضمن بمثله. وقال بعض أصحابه: بل بالقيمة طردًا للقياس على الغصب. واختلف أصحابه في موجب الضمان في الغصب والإتلاف على ثلاثة أوجه
(2)
:
(1)
«صحيح مسلم» (1600) من حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
انظر: «الإنصاف» (15/ 254 - 261).
أحدها: أن الواجب القيمة في غير المكيل والموزون.
والثاني: الواجب المثل في الجميع.
والثالث: الواجب المثل في غير الحيوان، ونص عليه أحمد في الثوب والقصعة ونحوهما. ونصَّ عليه الشافعي
(1)
في الجدار المهدوم ظلمًا يُعاد مثله.
وأَقْوَل الناس بالقيمة أبو حنيفة، ومع هذا فعنده إذا أتلف ثوبًا ثبت في ذمته مثله لا قيمته
(2)
، ولهذا يُجَوِّزُ الصلحَ عنه بأكثر من قيمته، ولو كان الثابت في الذمةِ القيمةَ لما جاز الصلح عنها بأكثر منها.
فظهر أن من لم يعتبر المثل فلا بد مِن تناقضه أو مناقضته للنص الصريح، وهذا ما لا مخلص منه.
وأصل هذا كله: هو الحكومة التي حكم فيها داود وسليمان وقصها الله علينا في كتابه
(3)
، وكانت في الحرث ــ وهو البستان، وقيل: إنه كان أشجار عنب ــ، فنفشت فيه الغنم ــ والنفش إنما يكون ليلًا ــ، فقضى داود لأصحاب البستان بالغنم، لأنه اعتبر قيمة ما أفسدته، فوجده يساوي الغنم فأعطاهم
(1)
انظر: «روضة الطالبين» (4/ 215).
(2)
لم أجده في كتب المذهب.
(3)
قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]. والمؤلف صادر عن «قاعدة شمول النصوص للأحكام» لشيخ الإسلام (2/ 266 وما بعدها - جامع المسائل).
إياها. وأما سليمان فقضى على أصحاب الغنم بالمثل، وهو أن يَعمُروا البستان كما كان، ثم رأى أن مُغَلَّه إلى حين عوده يفوت عليهم، ورأى أن مُغَلَّ الغنم يساويه، فأعطاهم الغنم يستغلونها حتى يعود بستانهم كما كان، فإذا عاد ردوا إليهم غنمهم
(1)
.
فاختلف العلماء في مثل هذه القضية على أربعة أقوال:
أحدها: القول بالحكم السليماني في أصل الضمان وكيفيته، وهو أصح الأقوال وأشدُّها مطابقةً لأصول الشرع والقياس، كما قد بينا في كتاب مفرد في الاجتهاد
(2)
. وهذا أحد القولين في مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، ويُذكر وجهًا في مذهب مالك والشافعي.
والثاني: موافقته في النفش دون المثل، وهذا المشهور من مذهب الشافعي ومالك وأحمد.
والثالث: عكسه، وهو موافقته في المثل دون النفش، وهو قول داود وغيره
(3)
، فإنهم يقولون: إذا أتلف البستان بتفريطه ضمنه بمثله، وأما إذا انفلتت الغنم ليلًا لم يضمن صاحبها ما أتلفته.
والرابع: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو أوجبه لم يكن بالمثل بل
(1)
بنحوه فسّره ابن عباس، ومُرَّة الهمداني (وروي عنه عن ابن مسعود ولا يصحّ)، وشريح القاضي، ومجاهد، وقتادة، والزهري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. انظر:«تفسير الطبري» (16/ 320 - 327).
(2)
وقد أحال عليه أيضًا في «مفتاح دار السعادة» (1/ 155). ولعله أفرده بالتأليف أوّلًا ثم ضمّنه في كتابه الحافل «أعلام الموقعين» . انظر مقدمة تحقيقه (ص 27 - 28).
(3)
انظر «المحلى» (8/ 140، 146، 11/ 4 - 5).
بالقيمة، فلم يوافقه لا في النفش ولا في المثل، وهو مذهب أبي حنيفة
(1)
.
وهذا من اجتهادهم في القياس والعدل الذي أوجبه الله، فكل طائفة رأت العدل هو قولها، وإن كانت النصوص والقياس وأصول الشرع تشهد بحكم سليمان، كما أن الله تعالى أثنى عليه به، وأخبر أنه فهّمه إياه. وذِكْر مآخذ
(2)
هذه الأقوال وأدلتها وترجيح الراجح منها له موضع غير هذا أليق به من هذا.
والمقصود: أن القياس والنص يدلان على أنه يُفعل به كما فعل، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم رضخ رأس اليهودي كما رضخ رأس الجارية، وأن ذلك لم يكن لنقض العهد ولا للحراب، لأن الواجب في ذلك القتل بالسيف. وعن أحمد في ذلك أربع روايات
(3)
:
إحداهن: أنه لا يستوفَى القود إلا بالسيف في العنق، وهذا مذهب أبي حنيفة
(4)
.
والثانية: أنه يُفعَل به كما فعل إذا لم يكن محرمًا لحق الله تعالى، وهذا مذهب مالك والشافعي
(5)
.
(1)
انظر: «بدائع الصنائع» (7/ 168).
(2)
في الطبعتين: «مأخذ» ، ولعل الأولى ما أثبت.
(3)
انظر «المحرر» (2/ 132 - 133)، و «الإنصاف» (25/ 178 - 185).
(4)
انظر: «الأصل» للشيباني (6/ 572) و «بدائع الصنائع» (7/ 245).
(5)
انظر: «المدونة» (16/ 426)، «مختصر المزني» مع شرحه «الحاوي الكبير» (12/ 139 - 144).
والثالثة: إن كان الفعل أو الجرح مُزهِقًا
(1)
فُعِلَ به نظيره، وإلا فلا.
والرابعة: إن كان الجرح أو القطع موجبًا للقود لو انفرد، فُعِل به نظيره، وإلا فلا.
وعلى الأقوال كلها إن لم يمت بذلك قُتِل
(2)
.
وقد أباح الله تعالى للمسلمين أن يمثّلوا بالكفار إذا مثلوا بهم، وإن كانت المُثْلة منهيًّا عنها، فقال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وهذا دليل على أن العقوبة بجدع الأنف وقطع الأذن وبقر البطن ونحوِ ذلك هو عقوبة بالمثل ليست بعدوان، والمِثل هو [ق 229] العدل.
وأما كون المثلة منهيًّا عنها، فَلِما روى أحمد في «مسنده»
(3)
من حديث سمرة بن جندب وعمران بن حصين قالا
(4)
: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة.
فإن قيل: فلو لم يمت إذا فُعل به نظير ما فَعل، فأنتم تقتلونه، وذلك زيادة
(1)
كذا في الأصل، وهو صواب، وظنّه محقق ط. المعارف تصحيفًا فأثبت:«موجبًا» ، وهو بمعناه.
(2)
أي بالسيف.
(3)
برقم (19909) بإسناد فيه إرسال، ولكنه صحّ بنحوه بإسناد متصل في «المسند» أيضًا (19844، 19846)، وقد سبق في باب النذر في المعصية (2/ 407).
(4)
في الأصل وط. الفقي: «قل» ، وفي ط. المعارف:«قال» ، كلاهما خطأ، والتصحيح من «المسند» .