الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُعلِمه الله بمصيرهم ومستقرهم؛ وليس بشيء، فإنه لا تعرض في هذا للمستقر، كما تقدم.
وقيل معناه الله أعلم على أي دين يميتهم لو عاشوا وبلغوا العمل، فأما إذا عدم فيهم العمل فهم في رحمة الله؛ وهذا بعيد من دلالة اللفظ عليه، والله أعلم.
9 -
باب في الرد على الجهمية
571/ 4558 - وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: كنتُ في البَطْحاء في عِصابة، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرَّتْ بهم سَحابة فنظر إليها فقال:«ما تُسَمُّون هذه؟» قالوا: السحاب، قال:«والمُزْن» ، قالوا: والمزن، قال:«والعَنان» ، قالوا: والعَنان ــ قال أبو داود: لم أتقن «العَنان» جيدًا ــ قال صلى الله عليه وسلم: «هل تَدْرُون ما بُعْدُ ما بين السماء والأرض؟» قالوا: لا ندري، قال:«إن بُعْدَ ما بينهما إمَّا واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك ــ حتى عَدَّ سَبْع سماوات ــ ثم فوق السابعة بَحْرٌ بين أسفله وأعلاه مثلُ ما بين سماءٍ إلى سماء، ثم فوقَ ذلك ثمانية أوعالٍ، بين أظلافهم ورُكَبهم مثلُ ما بين سماء إلى سماءٍ، ثم على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوقَ ذلك» .
وأخرجه ابن ماجه والترمذي
(1)
، وقال: حسن غريب، وروى شريك بعض
(1)
أبو داود (4723)، وابن ماجه (193)، والترمذي (3320)، وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» (172، 173)، وابن منده في «التوحيد» (1/ 114)؛ من طرق عن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس.
قال الترمذي: حسن غريب، وصححه الجَورقاني والضياء وابن تيمية، وأعلّه الذهبي وغيره بجهالة حال عبد الله بن عميرة وبقول البخاري فيه:«لا نعلم له سماعًا من الأحنف» . انظر: «الأباطيل والمناكير» (1/ 209 - 211)، و «مجموع الفتاوى» (3/ 192)، و «العلو للعلي العظيم» (1/ 501 - 502)، و «ميزان الاعتدال» (2/ 469)، «الضعيفة» (1247). وأعل الحديث أيضًا بما لا يقدح، وسيأتي ذلك والرد عليه في كلام المؤلف.
هذا الحديث عن سماك فوقفه.
قال ابن القيم رحمه الله: قد رُدَّ هذا الحديث بشيئين:
أحدهما بأن فيه الوليد بن أبي ثور، ولا يحتج به
(1)
.
والثاني بما رواه الترمذي
(2)
من حديث قتادة عن الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هل تدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«هذا العنان، هذه روايا الأرض، يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه» ، ثم قال:«هل تدرون ما فوقكم؟» قالوا الله ورسوله أعلم، قال:«إنها الرقيع، سقف محفوظ، ومَوج مكفوف» . ثم قال: «هل تدرون كم بينكم وبينها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«بينكم وبينها [مسيرة] خمسمائة سنة» ، ثم قال:«هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة» ، حتى عد سبع سماوات، ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض، ثم قال:«هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين» ، ثم قال:«هل تدرون ما الذي تحتكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم،
(1)
به أعله المنذري في «المختصر» (7/ 93)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 10).
(2)
برقم (3298) وضعّفه، وسيذكر المؤلف نصّ كلامه.
قال: «فإنها الأرض» ، ثم قال:«هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟» ، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«فإن تحتها أرضًا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال:«والذي نفس محمد بيده لو أنّكم دَلَّيتم بحبل إلى الأرض السُّفلى لهبط على الله» ، ثم قرأ:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
قالوا: هذا خلاف حديث العباس في موضعين: في ذكر بُعد المسافة بين السماوات، وفي نفي اختصاص الرب بالفوقية.
قال المثبتون: أما ردُّ الحديث الأول بالوليد بن أبي ثور، ففاسد، فإن الوليد لم ينفرد به بل تابعه عليه إبراهيم بن طَهمان، كلاهما عن سِماك، ومن طريقه رواه أبو داود
(1)
.
ورواه أيضًا عمرو بن أبي قيس عن سِماك، ومن حديثه رواه الترمذي
(2)
عن عبد بن حُميد: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن عمرو بن أبي قيس. قال الترمذي: قال عبد بن حميد: سمعت يحيى بن معين يقول: ألا يريدُ
(3)
عبد الرحمن بن سعد أن يحجَّ حتى نسمع منه هذا الحديث؟
ورواه الوليد بن أبي ثور عن سماك، ومن حديثه رواه ابن ماجه في «سننه» ، فأي ذنب للوليد في هذا؟ وأي تعلُّق عليه؟ وإنما ذنبه روايته
(4)
ما
(1)
برقم (4725)، وإبراهيم بن طهمان ثقة من رجال الشيخين.
(2)
وهو عند أبي داود (4724) أيضًا، وعمرو بن أبي قيس صدوق لا بأس به يهم قليلًا.
(3)
في الأصل و (هـ): «يريد بن» ، وفي ط. الفقي:«تريدون» ، وكلاهما تصحيف.
(4)
في الأصل والطبعتين: «راويته» ، تصحيف، وهو على الصواب في (هـ).
يخالف قول الجهمية، وهي علته المؤثرة عند القوم!
وأما معارضته بحديث
(1)
الحسن عن أبي هريرة ففاسدة
(2)
أيضًا، فإن الترمذي ضعّف حديث الحسن هذا، وقال فيه:«غريب» فقط، قال: ويُروى عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة.
قال الترمذي: ففسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما معناه: هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [وعلمُ الله]
(3)
وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه.
وهذا التفسير الذي ذكره الترمذي يشبه التفسير الذي حكاه البيهقي عن أبي حنيفة رحمه الله في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فإنه قال
(4)
: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أخبرنا أبو محمد بن حيان
(5)
، أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر، حدثنا يحيى بن مُعَلَّى
(6)
قال: سمعت
(1)
في الطبعتين: «لحديث» ، ورسم الأصل محتمل، والمثبت من (هـ) أوفق للسياق.
(2)
الأصل: «ففاسد» وله وجه، والمثبت من (هـ).
(3)
ساقط من الأصل و (هـ)، واستدركته من «الجامع» .
(4)
في كتابه «الأسماء والصفات» (2/ 337 - 338).
(5)
رسمه في الأصل يشبه: «حباب» ، وفي ط. الفقي:«الحباب» خطأ، وهو على الصواب في (هـ). وهو الحافظ أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان الأصبهاني (ت 369).
(6)
في الأصل و (هـ) والطبعتين: «بن يعلى» ، وكذا في مطبوعة «الأسماء والصفات» ، وهو تصحيف لأنه لا يوجد في هذه الطبقة أحد بهذا الاسم، ولأنه ذكر المزّي في ترجمة ابن معلَّى أنه يروي عن نعيم بن حماد (ت 228)، وأنه روى عنه بلديّه أحمد بن جعفر بن نصر أبو العبّاس الجمّال (ت 314). «تهذيب الكمال» (8/ 88) ..
نُعَيم بن حماد يقول: سمعت نوح بن أبي مريم يقول: كنا عند أبي حنيفة أوَّل ما ظهر، إذ جاءته امرأة من تِرمِذَ كانت تجالس جهمًا، فدخلت الكوفة ــ فأظنني أقلُّ ما رأيت عليها عشرة آلاف من الناس ــ تدعو إلى رأيها، فقيل لها: إن هاهنا رجلًا نظر في المعقول يقال له: أبو حنيفة فأْتِيه، فأتته وقالت: أنت الذي تعلّم الناس المسائل، وقد تركتَ دينك؟! أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها ثم خرج إلينا وقد وضع كتابًا: إن الله تعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ؟ قال: هو كما تكتب إلى الرجل: إني معك، وأنت غائب عنه
(1)
.
قال البيهقي: فقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله فيما نفى عن الله تعالى من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية، وتبع [ق 243] مطلقَ السمع في
(1)
رواة إسناده ثقات عدا نوح بن أبي مريم، وهو وإن كان متروكًا ذاهب الحديث يقلب الأسانيد ويروي المناكير إلا أنه من خواص أصحاب أبي حنيفة، والحنفية لا يتهمونه فيما ينقل عن إمامهم بل يذكرون أنه أول من جمع فقهه، وأنه كان له مجلس لأقاويل أبي حنيفة، وأنه أحد الاثني عشر من أصحاب الإمام الذين أشار إليهم أنهم يصلحون للقضاء، ولمّا استقضي على مَرْوٍ في حياة شيخه كتب إليه بكتاب فيه موعظة وشروط القضاء. قلت: وعليه فروايته هذه عن شيخه ــ لاسيما وقد تضمّنت قصةً ــ مظنة الصدق والضبط، والله أعلم.
انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 486)، و «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» (1/ 176)، و «بدائع الصنائع» (1/ 270).
قوله: إن الله عز وجل في السماء. هذا لفظه في كتاب «الأسماء والصفات» .
قالوا: وأما اختلاف مقدار المسافة في حديثَي العباس وأبي هريرة، فهو مما يشهد بتصديق كل منهما للآخر، فإن المسافة يختلف تقديرها بحسب اختلاف السير الواقع فيها، فسير البريد مثلًا يُقطَع بقدر سير ركاب الإبل سبع مرات، وهذا معلوم بالواقع، فما تَسِيره الإبل سيرًا قاصدًا في عشرين يومًا يقطعه البريد في ثلاثة، فحيث قدَّر النبي صلى الله عليه وسلم بالسبعين أراد به السير السريع سير البريد، وحيث قدَّر بالخمسمائة أراد به السير الذي يعرفونه سير الإبل والركاب، فكل منهما يصدِّق الآخر ويشهد بصحته، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
572/ 4559 - وعن جُبير بن محمد بن جبير بن مُطْعِم، عن أبيه، عن جده قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ الله، جَهِدَتِ الأنفُس، وضاعت العيالُ، ونُهِكَت الأموالُ، وهَلكت الأنعامُ، فاسْتَسْقِ الله لنا، فإنَّا نَسْتَشْفِعُ بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وَيْحَك! أتدري ما تقول؟» وسَبَّح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يُسبح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال:«وَيحَك! إنه لا يُسْتَشْفَعُ بالله على أحدٍ مِن خَلقه، شأنُ الله أعظمُ من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إنَّ عرشه على سماواته لَهكذا ــ وقال بأصابعه مثلَ القُبَّة عليه ــ وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيط الرَّحل بالراكب» . قال ابن بشَّار في حديثه: «إن الله فوقَ عرشه، وعَرْشُه فوق سمواته
…
» وساق الحديث
(1)
.
(1)
«سنن أبي داود» (4726)، وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (577، 578)، والبزار (3431، 3432)، وابن خزيمة في «التوحيد» (175)، وأبو عوانة في «المستخرج» (2517)، والطبراني في «الكبير» (2/ 128)، والآجري في «الشريعة» (3/ 1091)، والدارقطني في «الصفات» (38)، وابن منده في «التوحيد» (3/ 188) كلهم من طريق ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد به، إلا أنه ورد في بعض الطرق:«يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد» ، وخطّأه أبو داود والبزار والدارقطني، وقالوا: الصواب «يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد» .
قال ابن منده: «هو إسناد صحيح متصل من رسم أبي عيسى والنسائي» ، وقال الذهبي في «العلو» (1/ 413 - 416): «هذا حديث غريب جدًّا فرد، وابن إسحاق حجّة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم أقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أم لا
…
وإنما سقناه لما فيه ممّا تواتر من علو الله تعالى فوق عرشه مما يوافق آيات الكتاب».
قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، إلا من هذا الوجه. ولم يقل فيه محمد بن إسحاق:«حدثني يعقوب بن عتبة» . هذا آخر كلامه.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بوجوه:
أحدها: أن ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن الحديث ولم يصرِّح بالسماع، والمدلس إذا لم يذكر سماعه لم يُحتجّ براويته.
الثاني: أنه لو صرَّح بالسماع، فابن إسحاق لا يحتجُّ بحديثه، وقد كذَّبه مالك وغيره.
الثالث: أنه قد تفرَّد به يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي، ولم يروِ عنه أحد من أهل «الصحيح»
(1)
.
الرابع: أنه رواه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، ولم يروِ عنه أحد من
(1)
بهذين الوجهين (الثاني والثالث) أعلَّه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 319)، وقد نقل المنذري كلامه في «المختصر» . وأعله بهما أيضًا الحافظ ابن عساكر مع الوجه الآتي، كما نقله عنه المنذري، ولعله من جزء له في «حديث الأطيط». انظر:«سير أعلام النبلاء» (20/ 560).
أصحاب «الصحيح» أيضًا.
الخامس: أن الحديث اضطُرب فيه على ابن إسحاق، فقال عبد الأعلى ومحمد بن المُثنَّى ومحمد بن بشَّار: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعتُ محمد بن إسحاق يحدِّث عن يعقوب بن عتبة و جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جدِّه. وقال أحمد بن سعيد الرِّباطي: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعتُ محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده
(1)
.
السادس: أنه اختُلف عليه في لفظه، فرواه يحيى بن معين وغيره فلم يذكروا:«به» ، وقالوا:«إنه لَيَئِطُّ أَطِيطَ الرَّحل»
(2)
. ورواه جماعة فقالوا: «ليئطُّ به»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله: قال أهل الإثبات: ليس في شيء من هذا مُستراح لكم في رد الحديث!
أما حملكم فيه على ابن إسحاق، فجوابه أن ابن إسحاق بالموضع الذي
(1)
كلا الطريقين عند أبي داود في حديث الباب.
(2)
رواية ابن معين أخرجها الدارقطني في «الصفات» (41) وابن منده في «التوحيد» (3/ 188). وممن أخرج الحديث دون هذه اللفظة ابنُ أبي عاصم في «السنة» (587) من رواية عبد الأعلى النَّرْسي ومحمد بن المثنى، كلاهما عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن ابن إسحاق به.
(3)
الكلام السابق من (هـ)، وقد لخّص ورتَّب وعدَّد فيه المؤلف وجوه الإعلال التي ذكرها المنذري في «المختصر» (ق 4/ 146 ــ النسخة البريطانية) ضمن كلام طويل له على الحديث من لفظه ونقلًا عن غيره. إلا الوجه الخامس، فليس عند المنذري بل هومما زاده المؤلف.
جعله الله من العلم والأمانة
(1)
وثناءِ أكابر الأئمة عليه، وردّهم على من طعن عليه واستنكارهم له، وشهادتهم له بالصدق والحفظ والإمامة.
قال علي ابن المديني: حديثه عندي صحيح
(2)
.
وقال شعبة: ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث
(3)
، وقال أيضًا: هو صدوق
(4)
.
وقال علي ابن المديني أيضًا: لم أجد له سوى حديثين منكرين
(5)
. وهذا في غاية الثناء والمدح إذ لم يجد له على كثرة ما روى إلا حديثين منكرين.
وقال علي أيضًا: سمعت ابن عيينة يقول: ما سمعت أحدًا يتكلم في ابن إسحاق إلا في قوله في القدر
(6)
. ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بعدهم.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال الزهري: لا يزال بهذه الحَرَّة علم ما دام بها ذلك الأحوَل، يريد ابن
(1)
في (هـ): «والإمامة» ، والمثبت من الأصل، وسقط منه ما بعدها إلى آخر الفقرة، فاستُدرك من (هـ).
(2)
أسنده الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 27) بإسناد صحيح.
(3)
أسنده الخطيب (2/ 26) من طرق عنه.
(4)
أسنده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1/ 152، 7/ 192).
(5)
ذكره يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 27 - 28)، ومن طريقه أسنده الخطيب (2/ 28).
(6)
أسنده العقيلي في «الضعفاء» (5/ 197).
إسحاق
(1)
.
وقال يعقوب بن شيبة: سألت يحيى بن معين: كيف ابن إسحاق؟ قال: ليس بذاك، قلت: ففي نفسك من حديثه شيء؟ قال: لا، كان صدوقًا
(2)
.
وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: لو كان لي سلطان لأمّرتُ ابن إسحاق على المحدثين
(3)
.
وقال ابن عدي
(4)
: قد فتشت أحاديث ابن إسحاق الكثير
(5)
، فلم أجد في حديثه ما يتهيأ أن يُقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو وهم كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقاتُ والأئمة، وهو لا بأس به.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي
(6)
: ابن إسحاق ثقة.
وقد استشهد مسلم بخمسة أحاديث ذكرها لابن إسحاق في «صحيحه»
(7)
.
(1)
أسنده ابن عدي في «الكامل» (6/ 105).
(2)
«الكامل» (6/ 106).
(3)
«الكامل» (6/ 107)، وأسنده الخطيب (2/ 26) بلفظ:«لو سُوِّد أحد في الحديث، لسُوِّد محمد بن إسحاق» .
(4)
«الكامل» (6/ 112)، وكأن المؤلف صادر عن «الميزان» (3/ 474).
(5)
كذا في الأصل و «الميزان» ، وفي مطبوعة «الكامل»:«الكثيرة» .
(6)
«معرفة الثقات» (2/ 232).
(7)
كذا في «الأسماء والصفات» (2/ 320)، و «ميزان الاعتدال» (3/ 475)، وقد وجدت أنه استشهد به في سبعة أحاديث متابعةً، وهي:(480/ 213)، (830/ 292)، (873/ 52)، (1172/ 6)، (1199/ 78)، (1656/ 28)، (1703/ 31).
وقد روى الترمذي في «جامعه»
(1)
من حديث ابن إسحاق: حدثنا سعيد بن عُبَيد بن السبّاق، عن أبيه، عن سهل بن حُنَيف قال:«كنت ألقى من المذي شدة فأكثِر الاغتسال منه [فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «فيه الوضوء» ، قلتُ: فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: «يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماءٍ فتَنْضحَ به ثوبَك حيث ترى أنه أصابه» ]
(2)
. قال الترمذي: «هذا حديث صحيح، لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق» . فهذا حكم قد تفرد به ابن إسحاق في الدنيا
(3)
، وقد صححه الترمذي.
فإن قيل: فقد كذّبه مالك ويحيى القطان وهشام بن عروة وغيرهم
(4)
، فقال أبو قِلابة الرَّقاشي: حدثني أبو داود سليمان بن داود قال: قال يحيى القطان
(5)
: أشهد أن محمد بن إسحاق كذّاب، قلت: وما يدريك؟ قال: قال لي وهيب
(6)
، فقلت لوهيب: وما يدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس، فقلت لمالك: وما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة، قال: قلت لهشام:
(1)
برقم (115)، وأخرجه أيضًا أحمد (15973)، وأبو داود (210)، وابن خزيمة (291)، وابن حبان (1103)؛ كلهم من طريق ابن إسحاق به.
(2)
ما بين الحاصرتين من (هـ)، وفي الأصل: «
…
الحديث» اختصارًا من المجرّد.
(3)
المراد بالحكم المتفرَّد به هو أن ينضح ثوبه حيث يرى أنه أصابه المذي. وأما الأمر بالوضوء من المذي فليس مما تفرد به، فإنه ثابت في حديث عليٍّ المتفق عليه.
(4)
«ويحيى القطان» إلى هنا ساقط من الأصل، واستدرك من (هـ).
(5)
الأصل: «بن القطان» ، والمثبت من (هـ).
(6)
في الطبعتين هنا وفي الموضع الآتي: «وهب» ، خطأ مخالف للأصل، وإنما هو وهيب بن خالد البصري.
وما يدريك؟ قال: حَدَّث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأُدخِلتْ عليَّ
(1)
، وهي بنت تسع، وما رآها رجل حتى لقيتِ الله
(2)
.
قيل: هذه الحكاية وأمثالها هي التي غرَّت من اتهمه بالكذب، وجوابها من وجوه:
أحدها: أن سليمان بن داود (راويها عن يحيى) هو الشاذَكُوني
(3)
، وقد اتُّهم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل رواية الشاذكوني.
الثاني: أن في الحكاية ما يدل على أنها كذب، فإنه قال: أُدخلتْ عليّ وهي بنت تسع، وفاطمة أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة، ولعلها لم تُزَفّ إليه إلا وقد زادت على العشرين، ولمّا أَخَذ عنها ابنُ إسحاق كان لها نحو بضع وخمسين سنة.
الثالث: أن هشامًا إنما نفى رؤيته لها، ولم ينف سماعه منها، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع. قال الإمام أحمد: لعله سمع منها في
(1)
في الأصل والطبعتين: «أُدخلتُ عليها» ولعله سبق قلم، والتصحيح من «الكامل» ، وسيأتي على الصواب في الوجه الثاني من أوجه الرد على الحكاية.
(2)
أسنده العقيلي في «الضعفاء» (5/ 193) وابن عدي في «الكامل» (6/ 103).
(3)
وكذا جزم به الذهبي في «السير» (7/ 49) فقال: «هذه الخرافة من صنعة سليمان، وهو الشاذكوني ــ لا صبَّحه الله بخير ــ، فإنه مع تقدّمه في الحفظ متَّهم عندهم بالكذب، وانظر كيف قد سلسل الحكاية!» . ويشكل على هذا أن الشاذكوني كنيته: «أبو أيوب» ، والذي ذكر المؤلف في الحكاية:«أبو داود» ، وكذا في «الميزان» (3/ 471)، وهذه كنية الطيالسي الإمام الحافظ صاحب «المسند» (ت 204)، ولكن لعل ذكر الكنية وهمٌ، فإنها لم ترد في «الكامل» ولا في «الضعفاء» .
المسجد، أو دخل عليها فحدثَّتْه من وراء حجاب، فأي شيء في هذا؟ وقد كانت امرأة قد كَبِرت وأسنَّت
(1)
.
وقال يعقوب بن شيبة
(2)
: سألت ابن المديني عن ابن إسحاق؟ قال: حديثه عندي صحيح، قلت: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه ولم يعرفه، وأي شيء حدّث بالمدينة؟! قلت: فهشام بن عروة قد تكلم فيه؟ قال: الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها، فإن حديثه ليتبين فيه الصدق؛ يروي مرة: حدثني أبو الزناد، ومرة: ذكر أبو الزناد، ويقول: حدثني الحسن بن دينار عن أيوب عن عمرو بن شعيب في سلف وبيع، وهو أروى الناس عن عمرو بن شعيب
(3)
.
فصل
وأما قولكم: إنه لم يُصرّح بسماعه من يعقوب بن عتبة، فعلى تقدير ثبوت العلم بهذا النفي لا يخرج الحديث عن كونه حسنًا، فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه، وفي «الصحيح» قطعة من الاحتجاج بعنعنة المدلس، كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار، ونظائر [ق 244] كثيرة لذلك.
وأما قولكم: تفرد به يعقوب بن عتبة، ولم يرو عنه أحد من أصحاب
(1)
ذكره الذهبي في «الميزان» (3/ 470) بأتم منه.
(2)
أسنده عنه الخطيب في «تاريخه» (2/ 27 - 28).
(3)
يعني أنه لو لم يكن من أهل الصدق لأسقط الواسطتين ــ لاسيما الحسن بن دينار فإنه متروك ــ وجعله عن عمرو بن شعيب مباشرة.
«الصحيح» ؛ فهذا ليس بعلة باتفاق المحدثين، فإن يعقوب ثقة لم يضعّفه أحد، وكم من ثقة قد احتُجّ به وهو غير مخرَّج عنه في «الصحيحين» .
وهذا هو الجواب عن تفرد محمد بن جبير به
(1)
، فإنه ثقة
(2)
.
وأما قولكم: إن ابن إسحاق اضطرب فيه
…
إلى آخره، فقد اتفق ثلاثة من الحفاظ ــ وهم: عبد الأعلى وابن المُثنَّى وابن بشّار ــ على وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق أنه حدّث به عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد عن أبيه، وخالفهم أحمد بن سعيد الرِّباطي
(3)
فقال: عن وهب بن جرير عن أبيه: سمعتُ محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير= فإما أن يكون الثلاثة أولى، وإما أن يكون يعقوب رواه عن جبير بن محمد، فسمعه منه ابن إسحاق، ثم سمعه من جبير نفسه، فحدث به على الوجهين.
وقد قيل
(4)
: إن الواو غلط، وإن الصواب:«عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد، عن أبيه» ، والله أعلم.
وأما قولكم: إنه اختلف لفظُه، فبعضهم قال:«ليئط به» ، وبعضهم لم
(1)
في الأصل والطبعتين: «عنه» ، خطأ.
(2)
الذي سبق في الوجه الرابع من وجوه الإعلال: تفرُّد جُبير بن محمد بن جُبير بن مطعم به، وهو ابن المذكور هنا، فإنه قد تفرّد به عن أبيه. ولم أجد مَن وثَّقه سوى ابن حبان، إلا إذا اعتبرنا أن إيراد ابن خزيمة له في «التوحيد» توثيق له بناء على ما رسم لنفسه في مقدمة كتابه.
(3)
في الأصل والطبعتين: «الدمياطي» ، تحريف.
(4)
قاله أبو داود والبزار والدارقطني، كما سبق في تخريج حديث الباب.
يذكر لفظة «به» ؛ فليس في هذا اختلافٌ يوجب رد الحديث، فإذا زاد بعض الحفاظ لفظةً لم ينفِها غيرُه ولم يرو ما يخالفها، فإنها لا تكون موجبةً لردّ الحديث.
فهذا جواب المنتصرين لهذا الحديث. قالوا: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير حديث ابن إسحاق، فقال محمد بن عبد الله الكوفي المعروف بمُطَيَّن: حدثنا عبد الله بن الحكم وعثمان قالا: حدثنا يحيى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر قال: أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: ادعُ الله أن يُدخلني الجنة، فعظَّم أمرَ الرب ثم قال: «إن كرسيَّه فوقَ السماوات والأرض، وإنه يقعُد عليه، فما يفضل منه مقدارُ أربع أصابع ــ ثم قال بأصابعه فجمعها ــ وإن له أطيطا كأطيط الرحل
…
» الحديث
(1)
.
(1)
أخرجه من طريق مطيّن: ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2718) ــ ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 4) والدَّشتي في «إثبات الحدّ لله» (36) ــ، والضياء في «المختارة» (1/ 264 - 265). وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (586)، وعبد الله في «السنة» (570، 571)، والبزار (325)، وابن خزيمة في «التوحيد» (181)، والضياء في «المختارة» (1/ 263 - 265)، من طرق عن أبي إسحاق به، على اختلاف في رفعه ووقفه وإرساله، والموقوف أشبه.
والحديث صححه الإمام أحمد موقوفًا وحدّث به ابنَه محتجًّا به كما في «السنة» لعبد الله، وصححه الضياء مرفوعًا، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 159): رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن خليفة الهمداني وهو ثقة.
وأعله ابن خزيمة بالإرسال، وابن الجوزي بأمور لا تقدح (وسيأتي الرد على بعضها)، وابن كثير في «تفسيره» (آية الكرسي) بأن عبد الله بن خليفة ليس بذاك المشهور وأن في سماعه من عمر نظرًا.
فإن قيل: عبد الله بن الحكم وعثمان لا يُعرفان
(1)
.
قيل: بل هما ثقتان مشهوران عثمان بن أبي شيبة، وعبد الله بن الحكم القطواني، وهما من رجال الصحيح
(2)
.
وفي «الصحيحين»
(3)
من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي غلبت غضبي» .
وفي لفظ البخاري
(4)
: «وهو وَضْعٌ عنده على العرش» . وفي لفظ له
(5)
أيضًا: «فهو مكتوب فوق العرش» . و «وضْع» بمعنى موضوع، مصدر بمعنى المفعول، كنظائره.
وفي «صحيح البخاري»
(6)
أيضًا من حديث حماد بن زيد عن ثابت البُناني عن أنس قال: كانت زينب تفخَر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكنّ أهاليكنّ وزوجني الله من فوق سبع سماوات!
وفي لفظ للبخاري
(7)
: كانت تقول: أنكحني الله في السماء.
(1)
قاله ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 6).
(2)
عثمان بن أبي شيبة من رجال «الصحيحين» ، وأما عبد الله بن الحكم فروى عنه ابن خزيمة في «صحيحه» وأصحاب السنن عدا النسائي.
(3)
البخاري (3194) ومسلم (2751).
(4)
برقم (7404).
(5)
برقم (7554).
(6)
برقم (7420).
(7)
برقم (7421).
وفي «الصحيحين»
(1)
من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تصدّق بعدل تمرةٍ من كسب طيب، ــ ولا يصعَد إلى الله إلا الطيب ــ فإن الله يتقبّلها بيمينه، ثم يُربّيها لصاحبها كما يُربّي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل» ، لفظ البخاري.
وفي «الصحيحين»
(2)
من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يَعرُج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» .
ورواه البيهقي
(3)
بإسناد الصحيح وقال: «ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم» ، وقال: أخرجاه في «الصحيح» .
(1)
البخاري (7430)، ومسلم (1014).
(2)
البخاري (555، 7429، 7486)، ومسلم (632).
(3)
في «الأسماء والصفات» (2/ 332) من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزناد به، ثم قال:«أخرجاه في «الصحيح» من وجهٍ آخر عن أبي الزناد». قلتُ: وهذا اللفظ: «ثم يَعرُج إليه» ــ أي بزيادة «إليه» ــ صحيح ثابت في هذا الحديث، فقد صحّ من رواية همام بن منبّه عن أبي هريرة، كما في «صحيفته» (8)، ومن طريقه عند أحمد (8120) وابن حبان (1736) والبيهقي في «الصفات» (1/ 520)؛ وثبت أيضًا من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، رواها عنه ثلاثة: شعيب بن أبي حمزة عند البخاري (3223)، وموسى بن عقبة عند النسائي في «الكبرى» (11872) والبيهقي كما سبق، وابن أبي الزناد عند أبي يعلى (6342).
وفي «الصحيحين»
(1)
قصة سعد بن معاذ وحكمِه في بني قريظة، وقولِ النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد حكمتَ فيهم بحكم المَلِك» . ورواه البيهقي
(2)
من حديث سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه، وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد حكم فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات» .
وقال ابن إسحاق
(3)
في حديثه: «لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبعة أرقعة» . والرقيع من أسماء السماء، وقد تقدم.
وروى الترمذي والإمام أحمد
(4)
من حديث الحسن عن عمران بن
(1)
البخاري (3043) ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
«الأسماء والصفات» (2/ 321) عن شيخه أبي عبد الله الحاكم، وهو عنده في «المستدرك» (2/ 124)، ومن قبلهما النسائي في «الكبرى» (5906)؛ من طريق محمد بن صالح التمّار عن سعد بن إبراهيم به.
محمد بن صالح التمّار ثقة ولكن ليس بذاك القوي، وقد خالفه شعبة في إسناده ومتنه فرواه عن سعد بن إبراهيم، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد الخدري، وهي رواية «الصحيحين» السابقة، قال أبو حاتم: وهو أشبه وذلك خطأ. «العلل» لابنه (971). وانظر: «العلل» للدارقطني (573، 605).
(3)
في «المغازي» (2/ 240 - سيرة ابن هشام) ــ ومن طريقه إبراهيم الحربي في «الغريب» (3/ 1030) والطبري في «تفسيره» (19/ 78 - 79) ــ، قال: ثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مرسل جيّد، رواته ثقات وعلقمة من كبار التابعين.
(4)
أخرجه الترمذي (3483)، وكذلك البزار (3579)، والطبراني في «الكبير» (18/ 174) و «الأوسط» (1985)، كلهم من طريق شبيب بن شيبة، عن الحسن به. شبيب فيه لين، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن عمران بن حُصَين من غير هذا الوجه» . وأخرجه ابن أبي خيثمة في «تاريخه ــ السفر الثاني» (570) بإسناد صحيح إلى الحسن قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ.
وأما أحمد فلم يُخرجه من رواية الحسن، وإنما أخرجه هو (19992)، والنسائي في «الكبرى» (10764 - 10766)، وابن حبان (899)، والحاكم (1/ 510)، من طرق عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعي بن حراش، عن عمران بقصة إسلام أبيه وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياه الدعاء، وليس فيه موضع الشاهد.
حُصَين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: «يا حُصَين كم تعبد اليوم إلهًا؟» قال أبي: سبعة، ستة في الأرض وواحدًا في السماء، قال:«فأيهم تُعدّ لرغبتك ورهبتك؟» قال: الذي في السماء، قال:«يا حصين أما إنك لو أسلمتَ علّمتك كلمتين تنفعانك» . قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله علِّمْني الكلمتين اللَّتَين وعدتني، قال:«قُل: اللهم ألهمني رشدي، وأَعِذني مِن شرّ نفسي» .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهد للجارية بالإيمان حيث أقرت بأن الله في السماء، وحديثها في «صحيح مسلم»
(1)
.
وثبت عنه في «الصحيح»
(2)
أنه جعل يشير بإصبعه إلى السماء في خطبته في حجة الوداع ويَنْكُتها إلى الناس ويقول: «اللهم اشهد» ، وكان مستشهدًا بالله حينئذ، لم يكن داعيًا حتى يقال: السماء قبلة الدعاء
(3)
.
(1)
برقم (537) من حديث معاوية بن حكم السُّلمي. وانظر لتخريجه الموسّع والرد على الطاعنين في صحته: «تكحيل العين بجواز السؤال عن الله بأين» لصادق بن سَليم بن صادق.
(2)
«صحيح مسلم» (1218/ 147) ضمن حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
يشير المؤلف إلى قول نفاة العلو من الجهمية وأفراخهم الذين إذا احتجّ عليهم بأن الناس على اختلاف مللهم ونحلهم يتوجّهون بقلوبهم ووجوههم وأيديهم إلى السماء عند الدعاء= أجابوا بأن السماء قبلة الدعاء. انظر لقولهم: «الاقتصاد في الاعتقاد» للغزالي (ص 44)، و «أساس التقديس» للرازي (ص 97 - 98)، وللرد الموسّع عليه:«بيان تلبيس الجهمية» لشيخ الإسلام (4/ 529 - 560).
وفي «الصحيحين»
(1)
من حديث عبد الرحمن بن أبي نُعْم قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله [ق 245] عليه وسلم من اليمن بذُهَيبةٍ في أَدِيم مقروظٍ لم تُحَصَّل من ترابها، فقسمها بين أربعة نفر، بين عُيَينةَ بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن عُلاثة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا أحقَّ بهذا من هؤلاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: «ألا تأمنوني، وأنا أمين مَن في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء» .
وسيأتي إن شاء الله
(2)
حديث أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ربنا الله الذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرُك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء
…
» الحديث. رواه أبو داود في الطب
(3)
.
(1)
البخاري (4351) ومسلم (1064/ 144).
(2)
كذا، وكتاب الطب متقدم على هذا الموضع، ولعل المؤلف هذّب هذا الباب وعلق عليه قبل الأبواب المتقدمة عليه، ومما قد يدل على هذا قوله في البيوع (2/ 502) بصيغة الماضي:«وقد استوفينا الكلام عليه [يعني ابن إسحاق] في الرد على الجهمية من هذا الكتاب» .
(3)
برقم (3892)، وأخرجه النسائي في «الكبرى» (10809)، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 386)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 197)، والحاكم (4/ 218 - 219)، وإسناده ضعيف، فيه زيادة بن محمد الأنصاري منكر الحديث، وأغرب الحاكم فقال: صحيح الإسناد!
وأخرجه أحمد (23957) من حديث فضالة بن عُبَيد، والنسائي في «الكبرى» (10807) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلا الإسنادين لين، ولكن بمجموعهما يرتقي الحديث إلى درجة الحسن إن شاء الله.
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ارحموا مَن في الأرض يَرحمْكم من في السماء» . رواه الترمذي
(1)
وقال: حديث حسن صحيح. وسيأتي في كتاب الأدب.
وفي «صحيح ابن حبان»
(2)
عن أبي عثمان النَّهدي عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربكم حَييّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفرًا» .
وقد روى الترمذي والبيهقي
(3)
من حديث حماد بن سلمة عن يعلى بن
(1)
برقم (1924)، وأبو داود (4941).
(2)
برقم (876، 880)، وأخرجه أحمد (23714)، وأبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن أبي شيبة (30170)، ووكيع في «الزهد» (504)، والحاكم (1/ 496)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 220 - 223) من طرق عن أبي عثمان النهدي به، إلا أنه اختُلف فيه رفعًا ووقفًا، والموقوف أشبه.
(3)
الترمذي (3109)، والبيهقي في «الصفات» (2/ 235 - 236، 303). وأخرجه أحمد (16188)، وابن ماجه (182)، وابن أبي عاصم (625) وعبد الله (431) كلاهما في «السنة» ، وابن حبان (6140).
قال الترمذي: «حديث حسن» ، وكذا حسّن إسناده الذهبي في «العلو» (1/ 274)، وصححه ابن حبان، وضعَّفه ابن قتيبة وغيره بجهالة حال وكيع بن حُدُس ــ ويقال: عُدُس ــ، وتُعقِّب بأن ابن حبان قال عنه في «مشاهير علماء الأمصار» (ص 200):«مِن الأثبات» ، وصحّح له هو والترمذي وابن خزيمة والحاكم كما في «التذييل على كتب الجرح والتعديل» (ص 339 - 340)، وعليه فمثله لا ينحط حديثه عن درجة الحسن إن شاء الله.
عطاء عن وكيع بن حُدُس
(1)
عن أبي رَزِين العُقَيلي قال قلت: يا رسول الله أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: «كان في عَمَاءٍ
(2)
ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه». هذا لفظ البيهقي. وهذا الإسناد صححه الترمذي في موضع وحسنه في موضع، فصحّحه في الرؤيا
(3)
:
حدثنا الحسن بن علي
(4)
الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا
(5)
شعبة عن، يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدُس، عن عمه أبي رَزِين العُقَيلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءًا من النبوة، وهي على رِجلِ طائرٍ ما لم يتحدّث بها فإذا تحدّث بها
(1)
في الطبعتين: «عدس» خلافًا للأصل، وقد نصَّ الترمذي عقب الحديث أن حماد بن سلمة يقول:«حُدُس» ، ويقول شعبة وغيره:«عدس» . والحديث هنا من طريق حماد، وسيأتي من طريق شعبة.
(2)
فسّره يزيد بن هارون (وهو الراوي عن حماد) فقال: العماء: أي ليس معه شيء. وفسّره إسحاق بن راهويه وأئمة اللغة: الأصمعي وأبو عبيد والأزهري بأنه السحاب. قال الأزهري: ويقوي هذا القول قولُ الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . انظر: «كتاب السنة من مسائل حرب» (350)، و «تهذيب اللغة» (عمى).
(3)
برقم (2278، 2279) واللفظ المذكور لأوّلهما والإسناد للثاني .. وأخرجه أيضًا أحمد (16182، 16183، 16191)، وأبو داود (5020)، وابن حبان (6049)، والحاكم (4/ 390)، من طرق عن يعلى بن عطاء به.
(4)
«علي» سقط من الأصل، واستدرك من (هـ).
(5)
في الطبعتين: «حدثنا» خلافًا للأصل ولجامع الترمذي.
سقطت»، قال: وأحسبه قال: «لا تحدّث بها إلا لبيبًا أو حبيبًا» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال ابن القطان
(1)
: فيلزمه تصحيح الحديث الأول أو الاقتصار على تحسين الثاني؛ يعني لأن الإسناد واحد.
قال: فإن قيل لعله حسّن الأول لأنه من رواية حماد بن سلمة، وصحح الثاني لأنه من رواية شعبة، وفَضْل ما بينهما في الحفظ بيّن= قلنا: قد صحح من أحاديث حماد بن سلمة ما لا يُحصى، وهو موضع لا نظر فيه عنده ولا عند أحد من أهل العلم، فإنه إمام، وكان عند شعبة من تعظيمه وإجلاله ما هو معلوم.
وروى البيهقي
(2)
عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصَّغاني
(3)
، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، عن أبي يزيد
(1)
في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 618 - 619).
(2)
«الأسماء والصفات» (2/ 322)، وأخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 54) وفي «الرد على بشر المريسي» (1/ 316 - 317) من طريق موسى بن إسماعيل التبوذكي عن جرير بن حازم به. قال الذهبي في «العلو» (1/ 610): هذا إسناد صالح فيه انقطاع، أبو يزيد لم يلحق عمر. وبنحوه قال ابن كثير في «التفسير» (المجادلة: 1).
(3)
في الأصل وط. الفقي: «الصنعاني» تصحيف، وأصلحه محقق ط. المعارف إلى:«الصاغاني» ، وهو وجه صحيح أيضًا في النسبة إلى «صغانيان» (ولاية عظيمة بما وراء النهر) التي منها محمد بن إسحاق هذا، وهو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن إسحاق بن جعفر الصَّغاني ثم البغدادي (ت 270). انظر:«معجم البلدان» (3/ 409) و «السير» (12/ 592).
المديني: أن عمر بن الخطاب مرّ في ناس من أصحابه فلقيتْه عجوزٌ واستوقفته فوقف عليها فوضع يده على منكبيها حتى
(1)
قضت حاجتها، فلما فرغت قال له رجل: حبستَ رجالات قريش على هذه العجوز! قال: ويحك! تدري من هذه؟ هذه عجوز سمع الله عز وجل شكواها من فوق سبع سماوات، والله لو استوقفتني إلى الليل لوقفتُ عليها إلا أن آتي صلاة ثم أعود إليها
(2)
».
قال البيهقي
(3)
: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عبد الله محمد بن علي الجوهري، حدثنا إبراهيم بن الهيثم، حدثنا محمد بن كثير المِصّيصي قال: سمعتُ الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
وقال البخاري في «الصحيح»
(4)
: قال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}
(1)
في الأصل و (هـ): «ثم» ، تصحيف.
(2)
في الأصل: «عليها» ، تصحيف، والتصحيح من (هـ).
(3)
«الأسماء والصفات» (2/ 304)، ومن طريقه الجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (1/ 212)، والذهبي في «تذكرة الحفّاظ» (1/ 181 - 182) و «السير» (7/ 120 - 121). إسناده مسلسل بأئمة أعلام، على لين في حديث بعضهم؛ وقد صحح إسناده شيخ الإسلام في «الفتوى الحموية» (5/ 39 - مجموع الفتاوى»، والذهبي في «التذكرة» (1/ 136)، والمؤلف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 186)، وجوّده الحافظ في «الفتح» (13/ 406).
(4)
كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . وقول أبي العالية وصله ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 75)، وقول مجاهد وصله الفريابي في «تفسيره» ــ كما في «التغليق» (5/ 345) ــ عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه.
[البقرة: 29] ارتفع، {فَسَوَّى}:
(1)
خَلَقهنّ، وقال مجاهد:{اسْتَوَى} علا.
وقال أبو الحسن علي بن مهدي
(2)
الطبري من كبار أصحاب أبي الحسن الأشعري: «والله في السماء فوقَ كل شيء، مستوٍ على عرشه بمعنى أنه عالٍ عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول: استويتُ على ظهر الدابة، واستويتُ على السطح بمعنى علوتَه، واستوت الشمسُ على رأسي واستوى الطيرُ على قمة رأسي بمعنى علا، تعني علا في الجو فوُجِد فوق رأسي؛ فالقديم سبحانه عالٍ على عرشه، لا قاعد ولا قائم ولا مماسّ ولا مباين عن العرش» . هذا كلامه حكاه عنه البيهقي
(3)
.
قال
(4)
: وروى [أبو] الحسن بن مهدي الطبري عن أبي عبد الله نِفطويه
(1)
كذا في الأصل بالاقتصار على الفعل دون ضمير النصب من قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ} ، وهكذا هو في «الصحيح» برواية أبي ذر عن الحَمُّويي والمستملي، وفي باقي روايات «الصحيح»:{فَسَوَّاهُنَّ} .
(2)
ط. الفقي: «محمد» خلافًا للأصل، وهو هنا منسوب إلى جده فإنه علي بن محمد بن مهدي الطبري، الفقيه المتكلم، ألف «كتاب تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات». انظر:«طبقات الشافعية الكبرى» (3/ 466). وقد أورد البيهقي في مواضع من كتابه «الأسماء والصفات» (2/ 172، 412، 421 وغيرها) كلامًا لأبي الحسن الطبري في تأويل (= تحريف) أحاديث الصفات من كتابه المذكور، ولعل النقل الآتي منه أيضًا، وإنما نقله المؤلف لما فيه من موافقة الحق.
(3)
«الأسماء والصفات» (2/ 308).
(4)
أي البيهقي في كتابه (2/ 314). وأخرجه اللالكائي في «السنة» (3/ 442 - 443) من طريق نفطويه ومن طريق آخر أيضًا عن ابن الأعرابي، وإسناد كليهما صحيح.
قال: أخبرني أبو سليمان قال: كنا عند ابن الأعرابي
(1)
فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله ما معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قال: إنه مستوٍ على عرشه كما أخبر، فقال الرجل: إنما معنى {اسْتَوَى} استولى، فقال له ابن الأعرابي: ما يُدريك؟ العربُ لا تقول: استولى على الشيء فلانٌ حتى يكون له فيه مُضاد، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له، فهو على عرشه كما أخبر.
وقال يحيى بن إبراهيم الطُّلَيطِلي
(2)
في كتاب «سِيَر الفقهاء» : حدثني عبد الملك بن حبيب، عن عبد الله بن المغيرة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم قال:«كانوا يكرهون قول الرجل: يا خيبة الدهر، وكانوا يقولون الله هو الدهر؛ وكانوا يكرهون قول الرجل: رَغِم أنفي لله، وإنما يرغم أنف الكافر؛ وكانوا يكرهون قول الرجل: لا والذي [ق 246] خاتمه على فمي، وإنما يختم على فم الكافر؛ وكانوا يكرهون قول الرجل: واللهِ حيث كان، أو: إن الله بكل مكان»
(3)
، قال أصبغ: «وهو مستوٍ على عرشه، وبكلّ مكان علمه
(1)
أبو سليمان هو داود بن علي الظاهري، كما جاء مصرّحًا في رواية اللالكائي، وابن الأعرابي هو إمام اللغة في زمانه محمد بن زياد ابن الأعرابي (ت 231).
(2)
هو المعروف بابن مُزَين، من أهل «طُلَيطِلة» بلدة عظيمة بالأندلس، كان حافظًا للموطأ فقيهًا فيه، وله حظ من علم العربية، وله «تفسير الموطأ» وغيره من التآليف الحسان، توفي سنة 259. انظر:«ترتيب المدارك» (4/ 238). وقد وصف المؤلفُ كتابَه «سِيَر الفقهاء» في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 202) بأنه «كتاب جليل غزير العلم» .
(3)
إسناده ضعيف لضعف عبد الملك بن حبيب القرطبي وعبد الله بن المغيرة. انظر: «لسان الميزان» (5/ 255، 20)، وقد رويت الجملة الأخيرة عند ابن أبي شيبة (12539) من طريق آخر عن إبراهيم بلفظ:«كان يكره أن يقول: وإني سآتيك واللهِ حيث كان، قال: فإن الله بكل مكان» . وعلى هذا يكون ما هنا تصحيفًا، ويؤيّده أن إبراهيم أعقب كل مكروه بذكر علة الكراهة، فتكون الجملة الأخيرة كذلك، وأيضًا فإن ابن مُزَين أعقبه بذكر قول شيخه أصبغ بن الفَرَج (ت 225) لتأويل كلام إبراهيم بأن معنى كونه في كل مكان: علمُه وإحاطتُه. والله أعلم.
وإحاطته».
وقال ابن عبد البر في «التمهيد» و «الاستذكار»
(1)
: قال مالك: «الله في السماء وعلمه في كل مكان» .
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري
(2)
في رسالته المشهورة التي سماها «رسالة الحُرَّة
(3)
»: «وأن الله سبحانه شاءٍ مريدٌ كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] و: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
(1)
لم أجده في «الاستذكار» ، وإنما أسنده في «التمهيد» (7/ 138) من طريق عبد الله بن الإمام أحمد ــ وهو عنده في «السنة» (11) ــ عن أبيه، عن سريج بن النعمان، عن عبد الله بن نافع، عن مالك. وإسناده صحيح مسلسل بالأئمة إلى عبد الله.
ورواه أيضًا صالح (2/ 397) وأبو داود (ص 253) في «مسائلهما» عن الإمام أحمد به، ومن طريق أبي داود أخرجه الآجُرِّي في «الشريعة» (3/ 1077).
(2)
هو الباقلّاني (ت 403)، قال شيخ الإسلام: هو أفضل المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثلُه، لا قبلَه ولا بعده. «مجموع الفتاوى» (5/ 98).
(3)
رسمه في الأصل: «الحده» ، وفي ط. الفقي:«الحيدة» ، والتصحيح من ط. المعارف. وهذه الرسالة مطبوعة باسم «الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به» ، وهذا النقل فيه (ص 24)، وإنما سُمّيت «رسالة الحرّة» لأنه ألّفها استجابةً لِما «التمستْه الحرّةُ الفاضلة الديّنة
…
مِن ذكر جُمَلِ ما يجب على المكلّفين اعتقادُه ولا يسع الجهل به
…
». (ص 13).
بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وأن الله مستوٍ على عرشه ومستول على جميع خلقه، كما قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، بغير مماسة ولا كيفية ولا مجاورة».
وقال حافظ الغرب إمامُ السنة في وقته أبو عمر ابنُ عبد البرِّ في كتابيه
(1)
«التمهيد» و «الاستذكار» في شرح حديث مالك عن ابن شهاب عن الأغرِّ وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا
…
» الحديث، قال أبو عمر ــ وهذا لفظه في «الاستذكار»
(2)
ــ: فيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماواتٍ كما قالت الجماعة، وهو مِن حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان وليس على العرش. والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]
(3)
،
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، وقوله تعالى:{إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}
(1)
في الأصل: «كتابه» ، والمثبت من ط. الفقي.
(2)
بل هذا لفظه في «التمهيد» (7/ 129 - 134)، وإليه عزاه المؤلف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 204 - 213) ثم قال:«وذكر هذا الكلام أو قريبًا منه في كتاب الاستذكار» ، قلتُ: هو فيه (8/ 148 - 151) مختصرًا.
(3)
هذه الآية ساقطة من الأصل، واستُدركت من (هـ) و «التمهيد» ..
[فاطر: 10]، وقوله:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]، وقال:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وهذا من العلو، وكذلك قوله:{الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].
وقال جل ذكره: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقوله:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقوله لعيسى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقال:{فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت: 38]، وقال:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]، وقال:{لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 2 - 3]، والعروج هو الصعود.
وأما قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، فمعناه: مَن على السماء، يعني على العرش، وقد تكون «في» بمعنى «على» ، ألا ترى إلى قوله:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2] أي: على الأرض، وكذلك قوله:{لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: على جذوع النخل. وهذا كله يعضده قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وما كان مثلَه مما تلونا من الآيات في هذا الباب. وهذه الآيات كلها واضحة في إبطال قول المعتزلة.
وأما ادعاؤهم المجازَ في الاستواء، وقولُهم:{اسْتَوَى} بمعنى استولى= فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد. ومِن حقِّ الكلام أن يحمَل على حقيقته، حتى تتفق الأمة
(1)
أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أُنزِل إلينا من ربِّنا إلا على ذلك، وإنما يوجَّه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدّعٍ ما ثبت شيء من العبارات، وجلّ اللهُ أن يخاطِب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين.
والاستواء في اللغة معلوم مفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة
(2)
: في قوله تعالى {اسْتَوَى} ، قال: علا، وتقول العرب: استويتُ فوق الدابة، واستويت فوق البيت.
قال أبو عمر: و [الاستواء:]
(3)
الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل في كتابه فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28].
(1)
ط. الفقي: «حتى يكون اتفاق من الأمة» خلافًا لما في الأصل و «التمهيد» ، ولهذا التغيير نظائر في هذا النص المنقول لا نُمِلُّ القارئ بذكرها.
(2)
انظر: «مجاز القرآن» له (1/ 273، 2/ 15).
(3)
ساقط من الأصل و (هـ)، واستدركته من «التمهيد» .
وقال الشاعر
(1)
:
فأوردتُهم ماءً بفَيفاءَ قفرةٍ
…
وقد حلّق النجمُ اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى، لأن النجم لا يستولي.
وقد ذكر النَّضْر بن شُمَيل ــ وكان ثقةً مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة ــ، قال: حدثني الخليل ــ وحسبك بالخليل ــ قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان مِن أعلم مَن رأيتُ، فإذا هو على سطح، فسلَّمنا فردَّ علينا السلام وقال لنا: استووا، فبَقِينا متحيّرين ولم ندرِ ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو مِن قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، فصعدنا إليه.
وأما من نزع منهم بحديث عبد الله بن واقد الواسطي بإسناده
(2)
عن ابن عباس: «{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: استولى على جميع بريَّته، فلا يخلو منه مكان» = فالجواب أن هذا حديث منكر ونَقَلَته مجهولون ضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقلوا أو أنصفوا؟!
أما سمعوا الله عز وجل حيث يقول: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
(1)
البيت بلا نسبة في «تهذيب اللغة» (4/ 265) ومنه في «اللسان» (صبح)، والرواية فيهما:«وصَبَّحْتُهم» أي أوردتهم صباحًا.
(2)
إسناده كما في «التمهيد» (7/ 132): عبد الله بن واقد الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس.
[ق 247] كَاذِبًا} [غافر]، فدلَّ على أن موسى كان يقول إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبًا.
وقال أمية
(1)
:
فسبحان من لا يقدر الخلقُ قدرَه
…
ومن هو فوق العرش فرد موحَّدُ
مليك على عرش السماء مهيمن
…
لعزته تعنو الوجوهُ وتسجدُ
قال أبو عمر: وإن احتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وبقوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وبقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية [المجادلة: 7] = قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء، فوجب حمل هذه الآية على المعنى الصحيح
(2)
المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود مِن أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش، والاختلاف في ذلك ساقط، وأسعدُ الناس به من ساعده الظاهر.
وأما قوله: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ، فالإجماع والاتفاق قد بيَّن المراد أنه معبود مِن أهل الأرض، فتدبّر هذا فإنه قاطع.
(1)
في داليته المعروفة، في «ديوانه» (ص 367 - 374)، و «روائع التراث» لشيخنا محمد عزير شمس (ص 232).
(2)
في الأصل: «صحيح» دون لام التعريف، سبق قلم.
ومن الحجة أيضًا على أنه تبارك وتعالى على العرش فوق السماوات: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمرٌ أو نزلت بهم شدة، رفعوا أيديهم ووجوههم إلى السماء فيستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يُحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يُوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة
(1)
التي أراد مولاها عتقَها، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت مؤمنة، فقال لها:«أين الله؟» فأشارت إلى السماء، ثم قال لها:«من أنا؟» قالت: رسول الله، قال:«أَعْتِقْها فإنها مؤمنة» ، فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم برفعها رأسها إلى السماء واستغنى بذلك عما سواه. هذا لفظ أبي عمر في «الاستذكار» ، وذكره في «التمهيد» أطول منه
(2)
.
وقال البيهقي
(3)
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هارون بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله قال: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء
(1)
بعده في (هـ): «السوداء» ، وليس في الأصل و «التمهيد» .
(2)
سبق التنبيه على أن هذا لفظ «التمهيد» وأنه في «الاستذكار» بأخصر منه.
(3)
«الأسماء والصفات» (2/ 290)، وأخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 55) و «الرد على بشر المريسي» (1/ 422)، وابن خزيمة في «التوحيد» (178)، وابن أبي الزمنين في «أصول السنة» (39)، والطبراني في «الكبير» (9/ 228)، من طرق عن حماد بن سلمة به.
قال الذهبي في «العلو» (1/ 617): إسناده صحيح، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 86): رجاله رجال الصحيح.
خمسمائة عام، وبين [السماء] السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والكرسي
(1)
فوق الماء، والله عز وجل فوق الكرسي ويعلم ما أنتم عليه».
قال
(2)
: ورواه عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: «ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، ثم بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغِلَظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والكرسي
(3)
فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم».
وقال الشافعي ــ في كتاب «الأم» ، ورُوِّيناه في «مسنده»
(4)
ــ: أخبرنا
(1)
هكذا في الأصل وكتاب البيهقي هنا وفي الجملة التالية، والصواب أن العرش هو الذي فوق الماء، والله سبحانه وتعالى فوق العرش، كما هو في سائر مصادر هذا الحديث.
(2)
البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 291 - 292). وإسناده إلى عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي ضعيف، وممّا يدل على ضعفه قوله:«عن أبي وائل عن عبد الله» فإنه خطأ، والصواب:«عن زرّ عن عبد الله» ، كما في رواية حماد بن سلمة السابقة، وكما في رواية المسعودي نفسه عند ابن خزيمة في «التوحيد» (787) وأبي الشيخ في «العظمة» (2/ 565) من طريقين عنه.
(3)
كذا في الأصل وكتاب البيهقي، والصواب: العرش، وسبق التنبيه على نظيره.
(4)
«الأم» (2/ 432 - 433)، و «مسند الشافعي» بترتيب سنجر (461) وبترتيب السندي (374). وإسناده ضعيف جدًّا، إبراهيم بن محمد الأسلمي متروك الحديث، وموسى بن عبيدة الرَّبَذي ضعيف يحدّث بمناكير.
إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله
(1)
بن عبيد بن عمير، أنه سمع أنس بن مالك يقول: «أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بمرآةٍ بيضاء فيها نكتة
(2)
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذه؟ فقال: هذه الجمعة فُضِّلت بها أنت وأمتك، والناس لكم فيها تبع: اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل وما يوم المزيد؟ فقال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديًا أفيح فيه كُثُب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابرُ من نور عليها مقاعدُ للنبيين، وحَفَّ تلك المنابر بمنابرَ من ذهبٍ مُكلَّلة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكُثُب، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم قد صدَقتُكم وعدي فسلوني أُعطِكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لِما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك تبارك وتعالى على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة».
قال الشافعي
(3)
: «وأخبرنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران إبراهيم بن
(1)
في الأصل و (هـ): «عبيد الله» ، تصحيف.
(2)
كذا في الأصل والكتب الأخرى للمؤلف كـ «اجتماع الجيوش» (ص 115) و «زاد المعاد» (النسخ الخطية)، والذي في «الأم» و «مسند الشافعي» و «معرفة السنن والآثار» (4/ 426):«وَكْتة» ، وهما بمعنى، وقد ورد في بعض الطرق الأخرى للحديث:«نكتة سوداء» .
(3)
في «الأم» (2/ 433)، وإسناده واهٍ أيضًا، فيه علاوة على إبراهيم بن محمد الأسلمي: أبو عمران إبراهيم بن الجعد، قال أبو حاتم: شيخ ضعيف الحديث. «الجرح والتعديل» (2/ 91).
الجعد، عن أنس بن مالك شبيهًا به». احتج به الشافعي في فضل الجمعة، وكان حسنَ القول في إبراهيم بن محمد شيخه، والحديث له طرق عديدة
(1)
.
ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع
(2)
، حدثنا صفوان قال: قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاني جبريل
…
» فذكره.
ورواه محمد بن شعيب عن عمر مولى غُفْرة
(3)
عن أنس بن مالك عن النبي [ق 248]صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
أكثرها واهية أو معلّة، وأجودها طريقُ خالد بن مخلد القطواني، عن عبد السلام بن حفص المدني، عن أبي عمران الجَوني، عن أنس. أخرجه الطبراني في «الأوسط» (2084)، ومن طريقه اختاره الضياء (6/ 272). وقال الذهبي في «العلو» (1/ 347، 365 ــ بتصّرف يسير): «هذا حديث مشهور وافر الطرق، وهي يعضد بعضها بعضًا، رزقنا الله وإياكم النظر إلى وجهه الكريم» . آمين!
(2)
وعنه محمد بن خالد بن خَلِيّ، كما في «حادي الأرواح» (2/ 657) للمؤلف، ولم أجد من أخرج الحديث من هذا الطريق. وفي إسناده انقطاع، صفوان ــ وهو ابن عمرو السكسكي ــ لم يسمع من أنس.
(3)
في الطبعتين: «عفرة» بالعين المهملة، خطأ.
(4)
من هذا الطريق أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 90) و «الرد على المريسي» (1/ 420)، والدارقطني في «الرؤية» (65)، وابن منده في «التوحيد» (3/ 41)، وإسناده ضعيف، عمر مولى غُفرة فيه لين، وقال أبو حاتم:«لم يلقَ أنس بن مالك» . «المراسيل» (ص 137).
ورواه أبو طيبة عن عثمان بن عمير عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقد جمع أبو بكر بن أبي داود طرقه وقال
(2)
: أبو طَيبة اسمه رجاء بن الحارث ثقة، وعثمان بن عمير يكنى أبا اليقظان.
وقد تواترت الأحاديث الصحيحة التي أجمعت الأمة على صحتها وقبولها بأن النبي صلى الله عليه وسلم عُرج به إلى ربه، وأنه جاوز السماوات السبع، وأنه تردد بين موسى وبين الله عز وجل مرارًا في شأن الصلاة وتخفيفها
(3)
. وهذا من أعظم الحجج على الجهمية، فإنهم لا يقولون: عُرج به إلى ربه، وإنما يقولون: عرج به إلى السماء.
وقد تواترت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ رواه بضعة وعشرون صحابيًا
(4)
.
(1)
من هذا الطريق أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (442)، والبزّار (7527)، والآجري في «الشريعة» (2/ 1022 - 1026)، وابن منده في «التوحيد» (399)، وغيرهم. وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (5560)، وابن أخيه في «العرش» (88)، والدارقطني في «الرؤية» (59، 60، 62، 63)، وابن منده في «التوحيد» (397) من طرق أخرى عن عثمان بن عمير به. وعثمان هذا مُجمَع على ضعفه، وقيل: إنه لم يسمع من أنس. انظر: «تهذيب التهذيب» (7/ 145).
(2)
كما في «الشريعة» للآجري (2/ 1027)، والمؤلف صادر عنه.
(3)
أخرجه البخاري (349، 3887) ومسلم (263، 264) من حديث أبي ذر وحديث مالك بن صعصعة رضي الله عنهما.
(4)
المراد بهذا العدد جملة مَن روي عنه حديثٌ في النزول سواء كان ذلك كل ليلة، أو في ليلة النصف من شعبان، أو عشية عرفة. وهو ظاهر إطلاق الذهبي في «كتاب العرش» (2/ 82)، وذكر أنه أفرد لذلك جزءًا، وقد خرَّجه محقق الكتاب محمد بن خليفة التميمي في الهامش عن واحد وعشرين صحابيًّا، اثنا عشر منها في النزول كل ليلة. وانظر:«النزول» للدارقطني، فإنه أتى على جلّ ما في الباب.
وفي «مسند الإمام أحمد» و «سنن ابن ماجه»
(1)
من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة» . قال: «وذلك قوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]» ، قال:«فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .
وفي «الصحيحين»
(2)
عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
قال أبو عبد الله الحاكم في «علوم الحديث»
(3)
في النوع العشرين:
(1)
لم أجده في «المسند» ولا في «أطرافه» ، وإنما أخرجه ابن ماجه (184)، وأيضًا الآجري في «الشريعة» (2/ 1028)، والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 269)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 13)، كلهم من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي، عن محمد بن المنكدر به. وإسناده واهٍ، فإن الفضل ضعيف منكر الحديث، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 592)، وهو بـ «العلل المتناهية» أشبه.
(2)
كذا، وإنما أخرجه مسلم (179) فقط.
(3)
(ص 285 - 286).
سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يُقرّ بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواتٍ فهو كافر به، يستتاب فإن تاب وإلا ضُرِبت عنقه وأُلقي على بعض المزابل حيث لا يتأذّى المسلمون ولا المعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئًا لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن الضحاك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7]، قال:«هو الله عز وجل على العرش وعلمه معهم» . ذكره البيهقي
(1)
.
وبهذا الإسناد قال مقاتل بن حيَّان: «بلغنا ــ والله أعلم ــ في قوله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ
…
} [الحديد: 3]: {الْأَوَّلُ} قبل كل شيء، {وَالْآخِرُ} بعد كل شيء، {وَالظَّاهِرُ} فوق كل شيء، {وَالْبَاطِنُ} أقرب من كل شيء، وإنما يعني بالقرب: بعلمه وقدرته، وهو فوق عرشه، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ». ذكره البيهقي
(2)
أيضًا.
(1)
في «الأسماء والصفات» (2/ 341 - 342) بإسناده. وأخرجه أيضًا عبد الله في «السنة» (577)، والطبري في «التفسير» (22/ 468)، والآجري في «الشريعة» (3/ 1079)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2619). قال الذهبي: إسناده جيّد. «العلو» (2/ 918).
(2)
«الأسماء والصفات» (2/ 342) من طريق أبي خالد يزيد بن صالح اليشكري، عن بكير به. وإسناده جيّد ولم يُصب محققه في تضعيفه بناءً على تجهيل أبي حاتم ليزيد بن صالح، فقد وثَّقه غيره، وكان ورعًا كبير القدر، وصحح له ابن حبان والحاكم. انظر:«سير النبلاء» (10/ 479)، و «لسان الميزان» (8/ 498).
قال
(1)
: وبهذا الإسناد عن مقاتل بن حيان في قوله: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7]، يقول: علمه، وذلك قوله:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فيعلم نجواهم ويسمع كلامهم ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، وهو فوق عرشه وعلمه معهم.
وقال الحاكم: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت محمد بن نعيم يقول: سمعت الحسن بن الصباح البزار يقول: سمعت علي بن الحسن بن شقيق يقول: سألت عبد الله بن المبارك قلت: كيف نعرف ربنا؟ قال: «في السماء السابعة على عرشه» .
قال الحاكم: وأخبرنا أبو بكر محمد بن داود الزاهد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن السَّامي، حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّويه المروزي قال: سمعت علي بن الحسن بن شقيق [يقول]: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى، بائن من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا ــ وأشار إلى الأرض ــ
(2)
.
(1)
البيهقي في الموضع السابق.
(2)
أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 335 - 336) عن الحاكم بالإسنادين المذكورين. وأخرجه أيضًا الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 47) وعبد الله في «السنة» (22، 202)، وابن المقرئ في «معجمه» (291)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2694، 2695)، وابن منده في «التوحيد» (3/ 308)، والثعلبي في «تفسيره» (9/ 231)، من طرق عن علي بن الحسن بن شقيق به.
إسناده في غاية الصحة، علي بن الحسن بن شقيق هو الإمام الحافظ شيخ خراسان، لزم ابن المبارك وروى عنه تصانيفه، واحتج الشيخان بروايته عن ابن المبارك، وقد صححه شيخ الإسلام في مواضع من مؤلفاته، والذهبي في «العلو» (2/ 986)، و «العرش» (2/ 188 - 189).
وقال عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب فيما حكاه عنه أبو بكر بن فُورَك
(1)
: «وأخرج من النظر والخبر قولُ من قال: لا هو داخل العالم ولا خارجه فنفاه نفيًا مستويًا، لأنه لو قيل له: صِفْه بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورَدَّ أخبارَ الله نصًّا، وقال في ذلك بما لا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم هو
(2)
الإثبات الخالص، وهم
(3)
عند أنفسهم قَيَّاسُون». هذا حكاية لفظه.
وقال الخطَّابي في كتاب «شعار الدين»
(4)
: القول في أن الله تعالى مستوٍ على العرش: هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض ولا يصل إليها الدليل من غير هذا الوجه، وقد نطق به الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة فقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير
(1)
في كتابه «المجرّد» الذي جمع فيه مقالات ابن كلّاب، كما في «اجتماع الجيوش الإسلامية» للمؤلف (ص 433)، وهو غير «مجرّد مقالات أبي الحسن الأشعري» له، بل ألّفه بعده على غراره، كما في خطبة كتابه التي نقلها شيخ الإسلام في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 69 - 75).
(2)
في الأصل وط. الفقي: واو العطف، والتصحيح من (هـ) و «اجتماع الجيوش» .
(3)
في الأصل: «وهو» تصحيف، والتصحيح من (هـ) و «اجتماع الجيوش» .
(4)
ذكر هذا التأليف للخطابي أبو عمرو ابن الصلاح في «طبقات الفقهاء الشافعية» (1/ 469 - 470) وذكر أنه صرح فيه بأن الله في السماء. ونقل هذا الموضع منه شيخ الإسلام في «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 491 - 494) بأطول مما هنا. ونقل في «مجموع الفتاوى» (3/ 262) و «بيان التلبيس» (1/ 172)، (3/ 388)، (4/ 283) موضعًا آخر منه في أن الله تعالى على عرشه بائن من جميع خلقه.
جائز، وقد قال مالك:«الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة» ، فمن التوقيف الذي جاء به الكتاب قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59].
وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15].
وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16 - 17].
وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158].
وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10].
وقال حكاية عن فرعون أنه قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ
(1)
إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37]، فوقع قصد الكافر إلى الجهة التي أخبره موسى عنها، ولذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها، ولم ينزل إلى طبقات الأرض سفلًا.
فدل ما تلوناه من هذه الآي على أن الله سبحانه في السماء مستوٍ على
(1)
في الأصل و (هـ): «لعلي أطلع إلى إله موسى» سهو، كأن المؤلف أو الناسخ اشتبهت عليه هذه الآية بآية سورة القصص:{فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)} .
العرش، ولو كان بكلّ مكان لم يكن لهذا التخصيص معنى ولا فيه فائدة، وقد جرت عادة المسلمين خاصّتهم وعامّتهم
(1)
بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء، وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه
(2)
. ثم ذكر قول من فسّر الاستواء بالاستيلاء وبيّن فساده.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب «مقالات المصلين»
(3)
له في باب ترجمته: «باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان، أم لا في مكان، أم في كل مكان؟ وهل حملة العرش ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة؟ اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة» . ثم قال: وقال أهل السنة والحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فلا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف، وإن له وجهًا كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، وإن له يدين كما قال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وإن له عينين كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وإنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئًا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى.
(1)
الأصل: «خاصّهم وعامّهم» ، والمثبت من (هـ).
(2)
هنا ينتهي النقل من «شعار الدين» للخطابي.
(3)
(ص 210 - 211) تحقيق هلموت ريتر.
وقال بعد ذلك في حكاية قول أهل السنة والحديث
(1)
: هذه حكاية جملة قول
(2)
أصحاب الحديث وأهل السنة. جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرارُ بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا، وأنه تعالى إله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، وأن له وجهًا كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].
ثم ذكر مذهبَ عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب
(3)
فقال
(4)
: «كان يقول: إن القرآن كلام الله
…
» وساقه إلى أن قال: «وإنه مستوٍ على عرشه كما قال، وإنه تعالى فوق كل شيء» . هذا كله لفظه في «المقالات» .
(1)
«مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» (ص 290).
(2)
في الأصل و (هـ): «قول جملة» ، لعله انقلب سهوًا، وسيأتي على الصواب قريبًا.
(3)
كذا في الأصل وهو محض الصواب، وزعم محقق ط. المعارف أنه سهو شديد فغيّر «بن كلّاب» إلى «بن القطّان» وقال:«شتّان ما بينهما» ، وليس كما زعم، بل هو هو، فعبد الله بن سعيد هو «القطّان» ، وهو المشهور بـ «ابن كلّاب». انظر:«سير النبلاء» (11/ 174)، و «لسان الميزان» (4/ 486).
(4)
«مقالات الإسلاميين» (ص 298 - 299).
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله أيضًا في كتاب «الموجز»
(1)
: فإن قالوا: أفتزعمون أن الله في السماء؟ قيل له: قد نقول: إن الله عال فوق العرش مستوٍ عليه، والعرش فوق السماء، ولا نَصِفه بالدخول في الأمكنة والمباينة لها. وأما قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، فإن معناه أنه إله أهل الأرض وأهل السماء، وقد جاءت الأخبار أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا، فكيف يكون
(2)
فيها وهو ينزل إليها؟! كما جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا.
فهذا الذي استقر عليه مذهب أبي الحسن في كل كتبه كـ «الموجز» و «المقالات» و «المسائل» و «رسالته إلى الثغر»
(3)
و «الإبانة» : أن الله تعالى فوق عرشه مستوٍ عليه. ولا يُطلِق عليه لفظ المباينة لأنها عنده من لوازم الجسم والله تعالى منزّه عن الجسمية، فظن بعض أتباعه أنَّ نفيه للمباينة نفي للعلو والاستواء بطريق اللزوم، فنسبه إليه وقوّله ما هو قائل بخلافه، وهذا بيِّن لكل منصف تأمل كلامه وطالع كتبه.
[وختم أبو داود
(4)
هذا الباب بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن
(1)
مفقود، ذكره ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» (ص 129)، ولم أجد هذا النقل منه في كتب شيخ الإسلام المطبوعة.
(2)
في الأصل: «يقول» سبق قلم.
(3)
كذا في الأصل، وفي الطبعتين:«إلى أهل الثغر» ، وعلى كلا الوجهين وسمها شيخ الإسلام في تآليفه. وانظر (ص 232 - 234) منها لكلامه في إثبات العلو.
(4)
برقم (4727)، وصححه الذهبي وابن كثير وابن حجر في آخرين.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِن لي أن أُحدِّث عن ملَك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شَحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام» ]
(1)
.
وفي كتاب «السنة»
(2)
لعبد الله بن أحمد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات السبع إلى كرسيّه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك» .
(3)
من حديث ابن أبي مليكة عن ذكوان: استأذن ابن عباس على عائشة، فقالت: لا حاجة لي بتزكيته، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: يا أختاه
(4)
إن ابن عباس من صالحي بَنِيك جاء يعودك، قالت: فأذنْ له، فدخل عليها، فقال: يا أُمَّهْ أبشري، فوالله ما بينكِ
(1)
ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم يذكره المجرّد.
(2)
لم أجده فيه، وقد ذكره عن عبد الله: ابن قدامة في «العلو» (64) وساق إسناده، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في «العرش» (16)، وأبو الشيخ في «العظمة» (1/ 212، 241)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2690)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 46)، كلهم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير به. وحسّن الذهبي إسناده في «العرش» (2/ 134)، وجوّده الحافظ في «الفتح» (13/ 383).
(3)
ومن طريقه أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (7108) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 45)، إلا أنه لم يذكرا فيه ذكوان حاجب عائشة. وأخرجه أيضًا أحمد (2496، 3262) وأبو يعلى (2648) من طرق عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن ابن أبي مُلَيكة بطوله، وإسناده جيد.
وأخرجه البخاري في «صحيحه» (4753) من طريق آخر عن ابن أبي مليكة مختصرًا، ولفظ الشاهد فيه:«ونزل عُذرك من السماء» .
(4)
ط. المعارف: «أمتاه» ، خطأ.
وبين أن تلقَي محمَّدًا والأحبة إلا أن يفارق روحُك جسدَك، كنتِ أحبَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيِّبًا. قالت: أيضًا
(1)
. قال: هلكت قلادتُك بالأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها، فلم يجدوا ماءً فأنزل الله عز وجل:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وكان ذلك بسببك وبركتك ما أنزل
(2)
الله تعالى لهذه الأمة من الرخصة
(3)
، وكان من أمر مِسطَحٍ ما كان فأنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فليس مسجد يذكر الله فيه إلا وبراءتك تُتلى فيه آناءَ الليل وأطراف النهار.
وقال أبو عمر بن عبد البر
(4)
: رُوينا من وجوه عن عمر بن الخطاب أنه خرج ومعه الناس [فمرَّ بعجوزٍ فاستوقفته، فوقف لها وجعل يحدِّثها وتحدِّثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبستَ الناس على هذه العجوز، قال: ويلك! تدري من هذه؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات ــ وذكر الحديث ــ]
(5)
.
(1)
كذا في الأصل و (هـ) و «صحيح ابن حبان» و «الحلية» ، وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «إيهًا» أي كُفَّ عنّي هذا الثناء ودعني منه. ويدل عليه أنها قالت في آخر القصة:«يا ابن عباس دعني منك ومن تزكيتك، فواللهِ لوددتُ أني كنت نسيًا منسيًّا» .
(2)
في الأصل و (هـ): «فأنزل» ، والمثبت من «صحيح ابن حبان» و «الحلية» .
(3)
في الأصل والطبعتين: «الرخص» ، والمثبت من المصدرين السابقين.
(4)
في «الاستيعاب» (4/ 1830)، وقد سبق (ص 244 - 245) نقل القصة بتمامها من «الأسماء والصفات» للبيهقي، فانظر تخريجها ثَمّ.
(5)
هذه الفقرة سقطت من الأصل ــ ولعله بانتقال النظر ــ، واستُدرك طرفها الأول من (هـ)، وكان في آخر الورقة، والتي تليها ساقطة، فما بين الحاصرتين من «اجتماع الجيوش» (ص 167) للمؤلف، وفيه النقلان عن ابن عبد البر على التوالي أيضًا.
وقال أبو عمر بن عبد البر
(1)
: رُوينا من وجوه صحاح
(2)
أن عبد الله بن رواحة مشى ليلة إلى أَمةٍ له فنالها، فرأته امرأته فلامته فجحدها، فقالت
(3)
: إن كنتَ صادقًا فاقرأ القرآن، [ق 250] فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال:
شهدتُ بأن وعد الله حق
…
وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ
…
وفوق العرش رب العالمينا
فقالت امرأته: آمنت بالله وكذّبتُ عيني! وكانت لا تحفظ القرآن.
وفي «تاريخ البخاري»
(4)
: حدثنا
(5)
محمد بن فضيل، عن فضيل بن
(1)
في «الاستيعاب» (3/ 900 - 901).
(2)
ولكنها كلها مرسلة، أخرجها ابن أبي شيبة (26547)، والدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 56)، وابن عساكر في «تاريخه» (28/ 112 - 118) من مرسل نافع، ويزيد بن الهاد، وقدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، وعن عبد العزيز بن الماجشون بلاغًا. وأخرجه الدارقطني (432) وابن عساكر (28/ 116 - 118) من مرسل عكرمة، ولكن ليس في أبياته موضع الشاهد.
وضعّف القصة عبد الحق الإشبيلي والنووي. «الأحكام الوسطى» (1/ 205)، و «المجموع» (2/ 183).
(3)
في الأصل: «فقال» ، خطأ.
(4)
(1/ 201 - 202)، وأخرجه ابن أبي شيبة (38176) ــ وعنه الدارمي في «الرد» (ص 53) و «النقض» (1/ 518 - 519) ــ، والبزار (103)، من طرق عن محمد بن فضيل به. إسناده جيد، رواته ثقات من رجال الجماعة، وقد صححه الذهبي في «العلو» (1/ 600)، والقصة في «صحيح البخاري» من حديث ابن عباس وعائشة، إلا أنه ليس فيها الشاهد:«في السماء» .
(5)
كذا، والذي في «التاريخ الكبير» أن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى هو الذي سمعه من محمد بن فضيل به. والبخاري لم يُدرك ابن فضيل (ت 195) بله أن يكون قد سمع منه.
غزوان، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل أبو بكر فأكبّ عليه وقبّل جبهته، وقال:«بأبي أنت وأمي، طِبتَ حيًّا وميتًا» ، وقال:«من كان يعبد محمَّدًا فإن محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت» .
وفي «مغازي الأموي»
(1)
عن البَكَّائي، عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن سنان، عن سعيد بن الأجيرد
(2)
الكندي، عن العُرْس بن قيس الكندي، عن عدي بن عميرة قال: خرجتُ مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثًا طويلًا وفيه: فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم، ويزعمون أن إلههم في السماء، فأسلمتُ وتبعتُه.
وفي «مسند أحمد»
(3)
عن يزيد بن هارون: حدثنا المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة أن
(1)
ومن طريقه أخرجه ابن قدامة في «العلو» (7)، ثم من طريقه الذهبي في «العلو» (1/ 373). وهو «حديث غريب» كما قال الذهبي (1/ 325)، فإن في إسناده من لا يُعرف: يزيد بن سنان، وسعيد بن الأجيرد.
(2)
في الأصل: «الأجرد» ، والتصويب من كتابي «العلو» .
(3)
برقم (7906) وما بين الحاصرتين منه، وأخرجه أيضًا أبو داود (3284)، وابن خزيمة في «التوحيد» (220)، والطبراني (2598)، من طرق عن المسعودي به.
إسناده حسن كما قال الذهبي في «العلو» (1/ 260)، والمسعودي وإن كان قد اختلط ولكن فيمن رواه عنه من سمع منه قبل الاختلاط. وله طريق آخر عند ابن خزيمة (219) والطحاوي في «بيان المشكل» (4991) من حديث محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه، وإسناده حسن أيضًا.
رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية فقال: يا رسول الله، إن عليَّ رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أين الله؟» فأشارت بإصبعها إلى السماء، فقال لها:«من أنا؟» فأشارت بإصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، [أي:] أنت رسول الله، فقال:«أعتقها» ــ وهذه غير قصة معاوية بن الحكم التي في «صحيح مسلم» ــ، فقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان لمن شهد أن الله في السماء، وشهد عليه الجهمية بالكفر!
وقال أحمد في «مسنده»
(1)
:
حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميّت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرُجي أيتها النفس الطيّبة
(2)
، اخرجي حميدة، وأبشري برَوحٍ وريحان، وربٍّ غير غضبان، فلا يزال يُقال لها ذلك حتى تخرُج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقولون: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب
(1)
برقم (8769)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4262)، والنسائي في «الكبرى» (11378، 11925)، والطبري في تفسير (الأعراف: 40)، وابن خزيمة في «التوحيد» (214)، وابن منده في «الإيمان» (2/ 968)، وقوام السنّة في «الحجّة» (2/ 98)، من ثمانية طرق عن ابن أبي ذئب به، كلها بلفظ:«حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله» ــ وهو الشاهد هنا ــ، إلا رواية ابن وهب عن ابن أبي ذئب عند النسائي من طريقين عنه، فلفظها:«إلى السماء السابعة» ، فالظاهر أنها رواية بالمعنى.
والحديث صححه على شرط الشيخين: أبو نعيم الأصبهاني ــ كما في «شرح حديث النزول» لابن تيمية (5/ 445 - الفتاوى) ــ، والذهبي في «العرش» (2/ 36).
(2)
الأصل وط. الفقي: «المطمئنة» ، تصحيف ويأتي على الصواب بعد ثلاثة أسطر.
غير غضبان، فلا يزال يقال ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله
…
» وذكر الحديث.
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها» .
وفي «مسند الحارث بن أبي أسامة»
(2)
من حديث عبادة بن نُسيّ عن عبد الرحمن بن غَنْم
(3)
عن معاذ بن جبل يرفعه: «إن الله ليكره في السماء أن يُخطّأ أبو بكر في الأرض» .
ولا تعارض بين هذا وبين تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم له في بعض تعبيره الرؤيا
(4)
(1)
برقم (1436/ 121) من طريق يزيد بن كيسان، عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث عند البخاري (3237) ومسلم (1436/ 122) من طرق عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ:«لعنتها الملائكة حتى تُصبح» ، وهذا اللفظ أشبه، فإن الأعمش أحفظ وأثبت من يزيد بن كيسان، ولأنه تابعه عليه قتادة عن زُرارة بن أوفى عن أبي هريرة عند مسلم (1436/ 120).
(2)
كما في «بغية الباحث» (956) و «المطالب العالية» (3861)، وإسناده تالف، فيه محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة، ولذا قال الذهبي في «العلو» (1/ 546) بعد أن أخرجه من طريق الحارث:«الخبر غير صحيح، وعلى باغض الصديق اللعنة» . وله طريق آخر عند الطبراني في «الكبير» (20/ 67)، ولكنه تالف أيضًا. انظر:«الضعيفة» (3136).
(3)
في الأصل: «عبد الرحمن بن نسي عن عبادة بن غنم» مقلوبًا، وفي الطبعتين مثله مع تحريف «غنم» إلى «تميم» .
(4)
أخرجه البخاري (7046) ومسلم (2269)، وقد سبق (ص 160).
لوجهين:
أحدهما: أن الله يكره تخطئة غيره من آحاد الأمة له، لا تخطئة الرسول له في أمر ما، فإن الصواب والحق مع الرسول صلى الله عليه وسلم قطعًا، بخلاف غيره من الأمة فإنه إذا خطأ الصديق لم يتحقق أن الصواب معه، بل ما تنازع الصديق وغيره في أمرٍ إلا كان الصواب مع الصديق.
الثاني: أن التخطئة هنا من نسبته إلى «الخِطْء»
(1)
الذي هو الإثم، دون «الخطأ» الذي هو ضد التعمد، والله أعلم.
وروى شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس يرفعه: «إن العبد لَيُشْرِف على حاجة من حاجات الدنيا، فيذكره الله من فوق سبع سماوات، فيقول: ملائكتي إن عبدي هذا قد أشرف على حاجة من حاجات الدنيا، فإن فتحتُها له فتحتُ له بابًا من أبواب النار، ولكن ازْوُوها عنه، فيصبح العبد عاضًّا على أنامله يقول: من دهاني؟ من سبقني؟ وما هي إلا رحمة رحمه الله بها» . ذكره أبو نعيم
(2)
.
(1)
تحرّفت العبارة في ط. الفقي إلى: «أن التخطئة هنا مرة منسوبة إلى الخطأ» .
(2)
في «الحلية» (3/ 304 - 305) ــ ومن طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 100 - 101) ــ، وأخرجه أيضًا ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 317)؛ من طريق صالح بن بيان عن شعبة به. وإسناده واهٍ، صالح بن بيان قال عنه الدارقطني: متروك، وقد تفرّد به عن شعبة، ولذا قال أبو نعيم:«غريب من حديث شعبة» .
وقد روي نحوه عن ابن مسعود موقوفًا عليه، أخرجه أبو داود (191) وهنّاد (404) كلاهما في «الزهد» ، واللالكائي في «السنة» (4/ 739)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (9971)، وفي إسناده إرسال، خيثمة لم يسمع من ابن مسعود.
وفي «الثقفيّات»
(1)
من حديث جابر بن سليم أبي جُرَيّ قال: ركبت قَعُودًا لي فأتيت المدينة فأنخت بباب المسجد ــ فذكر حديثا طويلًا وفيه: ــ فقال رجل: يا رسول الله ذكرتَ إسبال الإزار، فقد يكون بالرجل القَرْح
(2)
، أو الشيء فيستخفي
(3)
(4)
.
(1)
ط. الفقي: «التعقبات» ، تحريف. و «الثقفيات» هي «الفوائد العوالي المنتقاة من أصول سماعات القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي (ت 489)» برواية أبي طاهر السِّلَفي عنه، وهي في عشرة أجزاء ولا تزال مخطوطة. انظر:«سير أعلام النبلاء» (19/ 8 - 11)، «برنامج ابن جابر الوادي آشي» (ص 240)، «تجريد أسانيد الكتب» لابن حجر (ص 252).
(2)
في الطبعتين: «العَرَج» ، خطأ.
(3)
كذا في الأصل، وفي مصادر التخريج:«يستحيي» .
(4)
أخرجه الدارمي في «النقض» (ص 336 - 337)، والطبراني في «الكبير» (6384)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1532)، وقوام السنة في «الحجّة» (2/ 125 - 126). وإسناده ضعيف، فيه أبو الخليل عبد السلام بن عجلان، قال أبو حاتم: شيخ يُكتب حديثه، وقال ابن حبان: يخطئ ويخالف؛ وقد تفرّد بزيادة قصة المتبختر في حديث أبي جُرَي رضي الله عنه، فإن حديثه الطويل في وفوده على النبي صلى الله عليه وسلم مروي من طرق، وليس في شيء منها هذه الزيادة إلا هذا الطريق. انظر طرق الحديث وألفاظه في «المسند» (20632 - 20636) مع تخريج المحققين عليه، و «سنن أبي داود» (4084) وقد سبق معنا برقم (3925)، و «المعجم الكبير» للطبراني (6383 - 6390)، و «معجم الصحابة» للبغوي (467 - 475).
وقال ابن أبي شيبة
(1)
: حدثنا عَبْدة بن سليمان عن أبي حيّان
(2)
عن حبيب بن أبي ثابت أن حسان بن ثابت أنشد النبي صلى الله عليه وسلم:
شهدت بإذن الله أنّ محمدًا
…
رسول الذي فوق السماوات من علُ
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما
…
له عمل في دينه متقبَّلُ
وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم
…
يقول بذات الله فيهم ويعدلُ
وفي حديث الشفاعة الطويل من رواية زائدة بن أبي الرُّقاد، عن زياد النُّمَيري، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث وفيه:«فأدخل على ربي عز وجل [ق 251] وهو على عرشه»
(3)
. وفي لفظ للبخاري
(4)
وفي لفظ آخر: «فآتي تحت العرش فأخر ساجدًا لربي»
(5)
.
وفي حديث عبد الله بن أنيس الذي رحل إليه جابر شهرًا حتى سمعه
(1)
في «مصنفه» (26540)، وأخرجه أبو يعلى (2653) أيضًا من طريق عبدة به، وهو مرسل. وأخرجه ابن سعد في الطبقات» (4/ 323)، والأزرقي في «أخبار مكة» (1/ 128 - 129) من مرسل عبد الملك بن عمير.
(2)
ط. الفقي: «أبي جناد» ، ورسمه في الأصل يشبه:«أبي حباب» ، والتصحيح من مصادر التخريج.
(3)
أخرجه ابن قدامة في «العلو» (ص 111)، ومن طريقه الذهبي في «العلو» (1/ 381) وقال:«زائدة ضعيف، والمتن بنحوه في «الصحيح» للبخاري من حديث قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
»، فذكر لفظ البخاري الآتي.
(4)
برقم (7440).
(5)
أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة في حديث الشفاعة.
منه في القِصاص: «ثم يناديهم الله تعالى وهو قائم على عرشه
…
» وذكر الحديث
(1)
.
واستشهد البخاري ببعضه
(2)
.
وفي «سنن ابن ماجه» و «مسند أحمد»
(3)
من حديث الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة» ، قال:«وذلك قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]» قال: «فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .
وروى الوليد بن القاسم عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي
(1)
أخرجه الخطيب في «الرحلة في طلب الحديث» (ص 115) وابن قدامة في «العلو» (ص 112) بإسنادين واهيين عن مقاتل بن حيان، عن أبي الجارود عن جابر. أبو الجارود لم أهتد إليه، وقال الحافظ في «الفتح» (1/ 174):«وفي إسناده ضعف» .
وقد روي الحديث من طريقين آخرين عن جابر، وليس فيهما موضع الشاهد. أخرجه أحمد (16042)، والبخاري في «الأدب المفرد» (970)، والحاكم (2/ 437 - 438) من أحدهما، والطبراني في «مسند الشاميين» من الآخر.
(2)
في موضعين من «صحيحه» ، أولهما في العلم (باب الخروج في طلب العلم):«ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد» ، والثاني في التوحيد (باب قول الله تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ): «ويُذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب: أنا الملك، أنا الديّان» .
(3)
ابن ماجه (184)، وليس في «المسند» ، وقد سبق تخريجه (259).
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصًا إلا صَعِدت لا يردّها حجاب، فإذا وصلت إلى الله نظر إلى قائلها، وحقٌّ على الله أن لا ينظر إلى مُوحِّدٍ إلا رحمه»
(1)
.
(2)
من حديث أبي جعفر الرازي عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ألقي إبراهيمُ عليه السلام في النار قال: اللهم أنت واحد في السماء، وأنا في
(1)
أخرجه الترمذي (3590)، والنسائي في «الكبرى» (10601)، وابن بشران في «الأمالي» (398، 563) وهذا لفظه، ومن طريقه الخطيب في «تاريخه» (13/ 331) وابن قدامة في «العلو» (ص 127 - 128)، ثم من طريقه الذهبي في «معجم شيوخه» (1/ 352) و «العلو» (1/ 398). ولفظ الترمذي والنسائي: «
…
إلا فتحت له أبواب السماء حتى تُفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر»، وهو أشبه.
قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وقال الذهبي: حديث غريب تفرد به الوليد هذا وما هو بالقوي. وانظر: «الضعيفة» (919، 6617).
(2)
وأخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 52)، والبزار (9047)، ومن طريق الحسن بن سفيان أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 19)، ثم من طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 139)، والذهبي في «الميزان» (4/ 68)؛ كلهم من طريق محمد بن يزيد الرفاعي، عن إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي به. إسناده لين لضعف محمد بن يزيد الرفاعي، وقد أورد الذهبي الحديث في ترجمته وقال: غريب جدًّا، ولكنه حسّن إسناده في «العلو» (1/ 290) وقال: رواه جماعة عن إسحاق. قلتُ: لم أجده من غير طريق الرفاعي، وقد قال البزار: لم نسمعه إلا منه.
وأخرج الطبري (16/ 306)، وابن أبي حاتم (9/ 3047 - 3048) في «تفسيريهما» نحوه عن السدّي فيما جمعه من التفسير عن أشياخه: عن أبي مالك الغفاري، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الأرض واحدٌ أَعبدُك».
ولمَّا أُنشِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت
(1)
:
مَجِّدوا الله فَهْوَ للمجد أهل
…
ربّنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الخلـ
…
ـق وسوى فوق السماء سريرا
شرجع ما يناله بصر العَيْـ
…
ـنِ ترى دونه الملائكَ صُوْرا
(2)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قلبه»
(3)
. وروى عاصم عن زر عن
(1)
شعره في «تأويل مختلف الحديث» للقُتَبي (ص 119، 396)، و «المجالسة وجواهر العلم» (1221)، و «ديوانه» المجموع (ص 399 - 400).
(2)
الشرجع: الطويل، والمراد هنا العالي المرتفع، وهو وصف للسرير، ولذا ورد منصوبًا في المصادر. وصُوْر: جمع أصور، وهو المائل العنق، والمراد حملة العرش، فقد روي عن عكرمة أنه قال: حملة العرش كلهم صور. أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» (13/ 20).
(3)
لم أجده هكذا ــ أي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لمّا أُنشِد هذه الأبيات بعينها ــ إلا عند الذهبي في «العلو» (1/ 443) و «العرش» (2/ 59 - 60) معلقًا، وتبعه المؤلف، وهو وهم منشؤه أن ابن قدامة ذكر في «العلو» (ص 147) ــ وعنه صدر الذهبي ــ هذه الأبيات الثلاثة على أنها مما اشتهر من شعر أمية ثم قال:«وقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمن شعره وكفر قلبه» ، ولم يَقُل ابن قدامة: إن هذه الأبيات بعينها أُنشِدها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما استدل بعموم مدحه صلى الله عليه وسلم لشعره الذي منه هذه الأبيات، وهو استدلال لطيف، لكنه أوهم من بعده فيما ترى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره
…
» مطلقًا دون ذكرٍ لأبيات معيّنة أُنشِدها النبي صلى الله عليه وسلم= أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (3/ 203) وابن عبد البرّ في «التمهيد» (4/ 7) بإسنادين واهيين بمرّة. وقد صحّ عند مسلم (2255) وغيره استحسانُ النبي صلى الله عليه وسلم لشعر أمية واستنشاده حتى أنشده الشريد بن سويد رضي الله عنه مائة بيت منه، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن كاد ليُسلم» أو «فلقد كاد يُسلم في شعره» .
عبد الله بن مسعود قال: «ما بين السماء القصوى وبين الكرسي
…
» إلى قوله: «والله فوق ذلك» ، وقد تقدم.
وقال إسحاق بن راهويه
(1)
:
حدثنا إبراهيم بن حكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]، قال:[قال ابن عباس:]
(2)
«لم يستطع أن يقول: من فوقهم، عَلِم أن الله من فوقهم» .
وقال علي بن الأقمر: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرّأةُ من فوق سبع سماوات
(3)
.
(1)
في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (3011)، ومن طريقه اللالكائي في «السنة» (3/ 440)، ثم من طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 155).
ذكره الذهبي في «العرش» (2/ 137 - 138) وقال: رواه إبراهيم بن الحكم بن أبان، وهو ضعيف. قلتُ: وقد تابعه حفص بن عمر العدني ــ وهو ضعيف أيضًا ــ، عن الحكم به، إلا أنه قال: «
…
لأن الرحمة تنزل من فوقهم». أخرجه الطبري (10/ 101).
(2)
ساقط من الأصل، وهو في جميع مصادر التخريج.
(3)
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5411)، وابن قدامة في «العلو» (ص 160) ومن طريقه الذهبي في «السير» (2/ 181) و «التاريخ» (2/ 508 - 509)؛ من طريقين ضعيفين عن علي بن الأقمر به. وصححه الذهبي في «العلو» (2/ 868).
وصحّ نحوه من وجهين آخرين عن مسروق، إلا أنه ليس فيهما موضع الشاهد. أخرجهما سعيد بن منصور (1556، 1557 - التفسير)، وابن سعد في «الطبقات» (10/ 64، 66) وغيرهما.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثني أبي، عن عكرمة قال: «بينما رجل مستلقٍ على مُثُلِه
(1)
في الجنة، فقال في نفسه لم يحرّك شفتيه: لو أن الله يأذن لي لزرعت في الجنة، فلم يعلم إلا والملائكة على أبواب جنته قابضين على أكفّهم، فيقولون: سلام عليك، فاستوى قاعدًا فقالوا له: يقول لك ربك: تمنيتَ شيئًا في نفسك فقد علمتُه، وقد بعث معنا هذا البَذْر يقول: ابذُرْ، فألقى يمينًا وشمالًا وبين يديه وخلفه، فخرج أمثال الجبال على ما كان تمنى وأراد، فقال له الرب من فوق عرشه: كُلْ يا ابن آدم، فإن ابن آدم لا يشبع»
(2)
. وأصله في «صحيح البخاري»
(3)
.
وفي «تفسير سُنَيد»
(4)
شيخ البخاري
(5)
عن مقاتل بن حيَّان عن الضحاك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، قال:
(1)
المُثُل: جمع المِثال، وهو الفراش. انظر:«النهاية» (مثل).
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 334) ومن طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 160 - 161). في إسناده إبراهيم بن الحكم بن أبان وهو ضعيف كما سبق قريبًا، ولذا قال الذهبي في «العلو» (2/ 895): إسناده ليس بذاك.
(3)
برقم (2348، 7519) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه موضع الشاهد.
(4)
عزاه إليه ابن عبد البرّ في «التمهيد» (7/ 139)، عن ابن عبد البر نقله ابن قدامة في «العلو» (ص 163). وأخرجه عبد الله في «السنة» (577)، والطبري في «التفسير» (22/ 468)، والآجري (3/ 1079)، من طريق بكير بن معروف، عن مقاتل به. إسناده جيّد، كما قال الذهبي في «العلو» (2/ 918) و «العرش» (2/ 158).
(5)
كذا، ولعله بناءً على ما ورد في بعض نسخ «صحيح البخاري» في حديث لابن عباس برقم (4584)، وأكثر النسخ على خلافه. انظر:«تهذيب الكمال» (3/ 319). أو لأنه رأى في بعض الكتب رواية «محمد بن إسماعيل» عن سُنيد فظنّه البخاري، كما وقع له في «الأعلام» (1/ 117)، وإنما هو الصائغ المكي.
هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا.
(1)
: حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن صدقة التيمي
(2)
قال: سمعت سليمان التيمي يقول: لو سئلتُ أين الله؟ لقلت: في السماء.
وقال حنبل
(3)
: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4]، {هُوَ رَابِعُهُمْ}؟ قال: علمه، عالم الغيب والشهادة، علمه محيط بكل شيء، يعلم الغيب وهو على العرش.
(1)
ليس في القدر المطبوع، ومن طريقه أخرجه اللالكائي في «شرح السنة» (3/ 444 - 445)، ثم من طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 165)، وعلّقه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 41) عن ضمرة به. قال الذهبي في «العرش» (2/ 159): إسناده صحيح.
(2)
كذا جاءت نسبته في الأصل: «التيمي» ، ولم يُنسب في شيء من مصادر التخريج، وفي شيوخ ضمرة بن ربيعة اثنان بهذا الاسم: صدقة بن يزيد الخراساني ثم الدمشقي، صدوق له مناكير؛ وصدقة بن المنتصر أبو شُعبة الشيباني، ثقة. ويترجّح هنا أنه صدقة بن يزيد، لأن سليمان بن طرخان التيمي بصريٌّ، وقد ذكروا في ترجمة صدقة بن يزيد روايته عن بصريين من طبقته، كقتادة وأيوب وأبان بن أبي عياش، بخلاف صدقة بن المنتصر فجلُّ روايته عن أهل الشام، ولم يروِ عن أحد من البصريين من تلك الطبقة.
(3)
في «كتاب السنة» ــ كما في «شرح حديث النزول» (5/ 496 - الفتاوى) ــ، وذكره عن حنبل: اللالكائي (3/ 446)، وابن قدامة في «العلو» (ص 167)، والذهبي في «العلو» (2/ 1116) و «العرش» (2/ 246).
وقال يوسف بن موسى
(1)
: قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائنٌ من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال نعم، على العرش، لا يخلو منه مكان
(2)
.
وقال الأثرم
(3)
: حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قلتُ لأحمد بن حنبل: يُحكى عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف نعرف ربَّنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه، قال أحمد: هكذا هو عندنا.
وذكر أبو [محمد] عبدُ الرحمن بن أبي حاتم في «كتاب السنة»
(4)
عن
(1)
أخرجه عنه الخلّال في «السنة» ــ كما في «اجتماع الجيوش» للمؤلف (ص 302) ــ، وذكره عن يوسف بن موسى: ابنُ بطة في «الإبانة الكبرى» (2697)، واللالكائي (3/ 445)، وابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (2/ 568)، وابن قدامة (ص 167) والذهبي (2/ 1113) كلاهما في «العلو» .
(2)
كذا في الأصل وأكثر النسخ الخطية من «العلو» لابن قدامة، والمقصود واضح، وعند اللالكائي:«وعلمه لا يخلو منه مكان» ، وهو أوضح، وفي بقية المصادر و «اجتماع الجيوش»:«لا يخلو شيء من علمه» .
(3)
أسنده عنه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2695) ــ ومن طريقه الدَّشتي في «إثبات الحد» (15) ــ، وابن قدامة في «العلو» (ص 171). وروي نحوه من طرق أخرى عن الإمام أحمد. انظر:«إثبات الحد» (16 - 19).
(4)
وهو المعروف أيضًا بكتاب «الرد على الجهمية» ، وصفه الذهبي في «التاريخ» (7/ 534) بأنه «في مجلد كبير يدل على تبحّره في السنّة» . وفي كون مقولة الشافعي فيه= نظر لأمرين، الأول: أن ابن قدامة أسنده في «العلو» (ص 180) إلى ابن أبي حاتم من طريق أبي الحسن الهكّاري (ت 486)، وهو في كتابه «اعتقاد الإمام الشافعي» (ص 16 - 18). والهكّاري على زهده وفضله وكونه معروفًا بـ «شيخ الإسلام» = مغموز في روايته، ولذا قال الذهبي بعد أن عزاه إليه في «العلو» (2/ 1055 - 1057): إسناده واهٍ.
الثاني: الذهبي كان قد اطلع على «كتاب السنة» لابن أبي حاتم، كما يدل عليه ما في «سير النبلاء» (13/ 264)، وهو ينقل منه آثارًا في «العلو» بأسانيدها، فلو كانت مقولة الشافعي فيه، لما عزاها إلى الهكّاري ووهّى إسنادها.
ولعل المؤلف نظر في كتاب ابن قدامة فظن أن ابن أبي حاتم ذكره في «السنة» فأسنده إليه.
الإمام أبي عبد الله الشافعي ــ قدس الله روحَه، ورضي عنه ــ قال: «السنّة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها
(1)
ــ أهل الحديث الذين رأيتهم فأخذت
(2)
عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما ــ: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يَقْرُب من خلقه كيف يشاء، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء
…
» وذكر كلامًا طويلًا.
وقال عبد الرحمن
(3)
أيضًا: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدون من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل، يزيد [ق 252] وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدَر خيره وشره من الله، وأن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
(1)
«عليها» ساقطة من ط. المعارف، ومُزَحْلَقة في ط. الفقي إلى ما بعد:«رأيتهم» الآتية.
(2)
في الأصل والطبعتين: «فأحلف» تصحيف، والتصحيح من كتاب الهكّاري و «العلو» لابن قدامة.
(3)
ابن أبي حاتم، وأسنده عنه اللالكائي (1/ 197 - 201) مطوّلًا، وابن قدامة (ص 182 - 184) والذهبي (2/ 1155 - 1158) كلاهما في «العلو» مختصرًا، بأسانيد صحيحة.
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقال أبو القاسم الطبري
(1)
في كتاب «شرح السنة» له: وجدت في كتاب أبي حاتم الرازي: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين مِن بعدهم، والتمسكُ بمذاهب أهل الأثر مثلِ أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد القاسم، والشافعي رحمهم الله، ولزومُ الكتاب والسنة
…
ونعتقد أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وفي كتاب «الإبانة»
(2)
لأبي الحسن الأشعري رحمه الله ــ ذكره أبو القاسم ابن عساكر
(3)
وعدَّه
(4)
من كتبه، وحكى كلامه فيه مبيّنًا عقيدته والذب عنه ــ قال: «ذِكرُ الاستواء على العرش. إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قال نقول له: إن الله مستو على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، [وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]]
(5)
، وقال:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}
(1)
هو هبة الله اللالكائي (ت 418)، ساقه في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (1/ 202 - 204) مطوّلًا، واقتصر المؤلف على نقل موضع الشاهد منه.
(2)
(ص 105 - 109) ت. فوقية حسين.
(3)
في «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» (ص 28، 152 - 163، 389).
(4)
في الأصل وط. المعارف: «في عدة» ، ولعله تصحيف، والمثبت من ط. الفقي أشبه.
(5)
هذه الآية ساقطة من الأصل و (هـ)، واستدركتها من «الإبانة» ، وهي موجودة عند المؤلف في هذا النقل عن الأشعري في «اجتماع الجيوش» (ص 451).
[السجدة: 5]، وقال حكاية عن فرعون:{يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] كذَّب موسى في قوله إن الله فوق السماوات.
وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]، فالسماوات فوقها العرشُ، فلما كان العرشُ هو فوقَ السماوات، وكل ما علا فهو سماء= فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات؛ ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] ولم يُرِد أن القمر يملؤهن جميعًا؟
ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحوَ السماء، لأن الله تعالى مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها إذا دعوا نحو الأرض».
ثم قال: «فصل: وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنه استولى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة.
ولو كان هذا كما قالوا لكان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها، وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فالله تعالى لو كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء فهو ــ
علا وعز ــ مستوٍ على الأشياء كلها، على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش، وعلى الأقذار ــ تعالى الله ــ، لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها. وإذا كان قادرا على الأشياء كلها، ولم يَجُز عند أحد من المسلمين أن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية= لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاءَ الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها». ثم ذكر دلالات من القرآن والحديث والعقل والإجماع».
وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري في «كتاب الإبانة»
(1)
له أيضًا: فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان. قيل له: معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]. قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يُرغَب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خُلِق منها ما لم يكن، وينقصَ بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصحَّ
(2)
أن نرغب إليه نحوَ الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وإلى شمالنا؛ وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه.
(1)
ونقله منه شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (5/ 98 - 99)، و «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 486 - 487)، و «درء التعارض» (6/ 206 - 207)، والذهبي في «العلو» (2/ 1298)، والمؤلف في «اجتماع الجيوش» (ص 465 - 466) باختصار.
(2)
الطبعتين: «يصحّ» ، ورسم الأصل محتمل، والمثبت موافق لكتب شيخ الإسلام.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في «عقيدته»
(1)
: طريقتنا طريقة المتبعين لكتاب الله والسنة وإجماع الأمة فيما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه، ولا يحُلُّ فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه.
وقد تقدم حكاية كلام أبي عمر بن عبد البر في «كتاب الاستذكار»
(2)
. وقال في «التمهيد»
(3)
لما ذكر حديث النزول: «هذا حديث ثابت النقل من جهة الإسناد ولم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قال الجماعة، وهو من حجّتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله بكل مكان» . ثم ذكر الاحتجاج لقول الجماعة وأطال.
[ق 253] وفي «كتاب السنة»
(4)
لعبد الرحمن بن أبي حاتم عن سعيد بن
(1)
نعتها شيخ الإسلام بـ «المشهورة عنه» ونقل منها هذا النص في «درء التعارض» (6/ 252)، كما نقله في «الحموية الكبرى» (5/ 60 - الفتاوى)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 212)، ونقله الذهبي في «العلو» (2/ 1305) بأطول منه.
(2)
ما تقدَّم بطوله هو من «التمهيد» ، وقد سبق التنبيه على وهم المؤلف في عزوه إلى «الاستذكار» .
(3)
(7/ 128 - 129).
(4)
ساق الذهبيّ في «العلو» (2/ 1033) إسناده: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حُدِّثتُ عن سعيد بن عامر الضُّبَعي. وعلّقه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 26) عن سعيد.
عامر الضُّبَعي ــ إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من شيوخ الإمام أحمد
(1)
ــ أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى مع المسلمين أن الله على العرش. وقالوا هم: ليس عليه
(2)
شيء.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم أيضًا في «كتاب الرد على الجهمية»
(3)
: قال عبد الرحمن بن مهدي: أصحاب جهم يعتقدون أن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وأن الله ليس على العرش، أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا.
وحكي عن عاصم بن علي ــ شيخ الإمام أحمد والبخاري
(4)
ــ قال: ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا
(5)
.
(1)
وحدّث عنه أيضًا ابن المديني، وإسحاق، وابن معين، وأئمة آخرون. كان ثقة مأمونًا صالحًا زاهدًا، روى له الجماعة، توفي سنة 208 عن نيّفٍ وثمانين سنة. انظر:«تهذيب الكمال» (3/ 176)، و «سير النبلاء» (9/ 385).
(2)
الطبعتين: «على العرش» خلافًا للأصل.
(3)
نقله منه شيخ الإسلام في «الحموية» (5/ 53 - الفتاوى)، وفي «درء التعارض» (6/ 261 - 262) وصحح إسناده، وقال الذهبي في «العلو» (2/ 1038) و «العرش» (2/ 200): رواه غير واحدٍ بإسناد صحيح. قلتُ: ومنهم عبد الله بن أحمد في «السنة» (130) بنحوه.
(4)
هو عاصم بن علي بن عاصم الواسطي، من أئمة المحدّثين، كان ممّن ذبّ عن الإسلام في محنة الجهمية. توفي بواسط سنة 221 هـ. انظر:«سير النبلاء» (9/ 262).
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب «الرد على الجهمية» ، كما في «الحموية» (5/ 53) و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 525 - 526).
وعلّق البخاري نحوه عن والده (علي بن عاصم بن صهيب) في «خلق أفعال العباد» (ص 28) إلا أن فيه مناظرته لجهم بن صفوان نفسه لا لأحد أتباعه.
ووقع في «السنة» لعبد الله (176): «علي بن عاصم بن علي» ، فإما أنه مقلوب عن اسم الابن (عاصم بن علي بن عاصم)، أو خطأ في اسم جدّ أبيه (علي بن عاصم بن صهيب). والله أعلم.