الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1539] باب معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»
[سئل الإمام]:
هناك من يقول: إذا عارض الحديث آية من القران، فهو مردود مهما كانت درجة صحته، وضرب مثالاً لذلك بحديث:«إن الميت ليُعذب ببكاء أهله عليه» (1)، واحتج بقول عائشة في ردها الحديث بقول الله عز وجل:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (فاطر18) ، فكيف يُرد على من يقول ذلك؟
[فأجاب الإمام] رد هذا الحديث هو من مشاكل رد السنة بالقرآن، وهو يدل على انحراف ذلك الخط.
أما الجواب عن هذا الحديث - وأخص به من تمسك بحديث عائشة رضي الله عنها فهو:
أولاً: من الناحية الحديثية: فإن هذا الحديث لا سبيل لرده من الناحية الحديثية لسببين اثنين:
أ - أنه قد جاء بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ب - أن ابن عمر رضي الله عنه لم يتفرد به، بل تابعه على ذلك عمر بن الخطاب وهو وابنه لم يتفردا به، فقد تابعهما المغيرة ين شُعبة، وهذا مما يحضرني في هذه الساعة بأن هذه الروايات عن هؤلاء الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم في الصحيحين.
(1)"صحيح الجامع"(1970). [منه].
أما لو أن الباحث بحث بحثاً خاصاً في هذا الحديث فيسجد له طرقاً أخرى، وهذه الأحاديث الثلاثة كلها أحاديث صحيحة الأسانيد فلا تُرد بمجرد دعوى التعارض مع القران الكريم.
ثانياً: من الناحية التفسيرية: فإن هذا الحديث قد فسره العلماء بوجهين اثنين:
الوجه الأول:
أن هذا الحديث إنما ينطبق على الميت الذي كان يعلم في قيد حياته أن أهله بعد موته سيرتكبون مخالفات شرعية، ثم لم ينصحهم ولم يوصهم أن لا يبكوا عليه؛ لأن هذا البكاء يكون سبباً لتعذيب الميت.
و" ال " التعريف في لفظ " الميت " هنا ليست للاستغراق والشمول، أي: ليس الحديث بمعنى أن كل ميت يُعذب ببكاء أهله عليه، وإنما " ال " هنا للعهد، أي: الميت الذي لا ينصح بألا يرتكبوا بعد وفاته ما يخالف الشرع، فهذا الذي يعذب ببكاء أهله عليه، أما من قام بواجب النصيحة، وواجب الوصية الشرعية بألا ينوحوا عليه، وألا يأتوا بالمنكرات التي تُفعل خاصة في هذا الزمان، فإنه لا يُعذب وإذا لم يُوص ولم يَنصح عُذب.
هذا التفصيل هو الذي يجب أن نفهمه من التفسير الأول لكثير من العلماء المعروفين والمشهورين؛ كالنووي وغيره، وإذا عرفنا هذا التفصيل، وضح ألا تعارض بين هذا الحديث وبين قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (فاطر18) ، إنما يظهر التعارض فيما لو فُهم أن " ال " في لفظ " الميت " إنما هي للاستغراق والشمول، أي: كل ميت يُعذب، حينئذٍ يُشكل الحديث ويتعارض مع الآية الكريمة، أما إذا عرفنا المعنى الذي ذكرناه آنفا، فلا تعارض ولا إشكال، لأن الذي
يُعذب إنما يُعذب بسبب عدم قيامه بواجب النصح والوصية، هذا الوجه الأول مما قيل في تفسير هذا الحديث لدفع التعارض.
أما الوجه الثاني: فهو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض مصنفاته، أن العذاب هنا ليس عذاباُ في القبر، أو عذاباً في الآخرة، وإنما هو بمعنى التألم وبمعنى الحزن، أي: إن الميت إذا سمع بكاء أهله عليه، أسف وحزن لحزنهم هم عليه.
هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا لو صح لاستأصل شأفة الشبهة.
لكني أقول: أن هذا التفسير يتعارض مع حقيقتين اثنتين لذلك لا يسعنا إلا أن نعتمد على التفسير الأول للحديث:
الحقيقة الأولى: أن في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الذي أشرت إليه آنفاً زيادة تبين أن العذاب ليس بمعنى التألم، وإنما هو بمعنى العذاب المتبادر، أي: عذاب النار، إلا أن يعفو الله تبارك وتعالى، كما هو صريح قوله عزوجل {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء48)، ففي رواية المغيرة قال:«إن الميت ليُعذب ببكاء أهله يوم القيامة» ، فهذا صريح بأن الميت يُعذب بسبب بكاء أهله عليه يوم القيامة، وليس في القبر، وهو الذي فسره ابن تيمية بالألم والحزن.
الحقيقة الأخرى: هي أن الميت إذا مات لا يحس بشيء يجري من حوله، سواء أكان هذا الشيء خيراً أو شراً - كما تدل عليه أدلة الكتاب والسنة - اللهم إلا في بعض المناسبات التي جاء ذكرها في بعض الأحاديث، إما كقاعدة لكل ميت، أو لبعض الأموات، حيث أسمعهم الله عزوجل بعض الشيء الذي يتألمون به.
فمن الأول: الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه -حتى إنه سمع قرع نعالهم - أتاه ملكان» (1) ، ففي هذا الحديث الصحيح إثبات سمع خاص للميت في وقت دفنه، وحين ينصرف الناس عنه، أي: في الوقت الذي يُجلسه الملكان أُعيدت الروح إليه، فهو في هذه الحالة يسمع قرع النعال، فلا يعني الحديث بداهةً أن هذا الميت وكل الأموات تُعاد إليهم أرواحهم، وأنهم يظلون يسمعون قرع نعال المارة بين القبور إلى يوم يبعثون! لا.
إنما هذا وضعٌ خاص وسماع خاص من الميت، لأنه أُعيدت روحه إليه، وحينئذٍ لو أخذنا بتفسير ابن تيمية رحمه الله، وسعنا دائرة إحساس الميت بما يجري حوله، سواءً عند نعشه قبل دفنه، أو بعد وضعه في قبره، ومعنى ذلك: أن يسمع بكاء الأحياء عليه وهذا يحتاج إلى نص، وهو مفقود. هذا أولاً.
وثانياً: بعض نصوص الكتاب والسنة الصحيحة تدل على أن الموتى لا يسمعون، وهذا بحث طويل، ولكني سأذكر حديثاً واحداً، وأنهي الجواب عن السؤال وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» (2)، وقوله " سياحين " أي: طوافين على المجالس، فكلما صلى مسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهناك ملك موكَّلٌ يُوْصِلُ السلام من ذاك المسلم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو كان الأموات يسمعون، لكان أحق هؤلاء الأموات أن يسمع هو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، لما فضله الله تبارك وتعالى، وخصه بخصائص على كل الأنبياء والرسل والعالمين، فلو كان أحدٌ يسمع لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع شيئا بعد موته،
(1)"صحيح الجامع"(1675)[منه].
(2)
"صحيح الجامع"(2174). [منه].