الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1474] باب تحقيق أن الموتى لا يسمعون
[قال الإمام في مقدمة تحقيق "الآيات البينات في عدم سماع الأموات "الآلوسي]:
اعلم أن كون الموتى يسمعون أو لا يسمعون إنما هو أمر غيبي من أمور البرزخ التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، فلا يجوز الخوض فيه بالأقيسة والآراء، وإنما يوقف فيه مع النص إثباتاً ونفياً، وسترى المؤلف رحمه الله تعالى ذكر في الفصل الأول كلام الحنفية في أنهم لا يسمعون، وفي الفصل الثاني نقل عن غيرهم مثله، وحكى عن غير هؤلاء أنهم يسمعون، وليس يهمني أن هؤلاء قلة وأولئك الكثرة فالحق لا يعرف بالكثرة ولا بالقلة وإنما بدليله الثابت في الكتاب والسنة مع التفقه فيهما وهذا ما أنا بصدده إن شاء الله تعالى؛ فأقول:
استدل الأولون بقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} (فاطر: 22) وقوله: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} (النمل:80 والروم 52) وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز وأنه ليس المقصود «الموتى» بـ «من في القبور» الموتى حقيقة في قبورهم وإنما المراد بهم الكفار الأحياء شبهوا بالموتى " والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر " كما قال الحافظ ابن حجر على ما يأتي في الرسالة (ص 72).
فأقول: لا شك عند كل من تدبر الآيتين وسياقهما أن المعنى هو ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى (1) وعلى ذلك جرى علماء التفسير لا خلاف بينهم في
(1) وقد بين ذلك بياناً شافياً العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان "(6/ 416 - 421). [منه].
ذلك فيما علمت، ولكن ذلك لا يمنع الاستدلال بهما على ما سبق؛ لأن الموتى لما كانوا لا يسمعون حقيقة وكان ذلك معروفاً عند المخاطبين شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع فدل هذا التشبيه على أن المشبه بهم - وهم الموتى في قبورهم - لا يسمعون، كما يدل مثلاً تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أن الأسد شجاع بل هو في ذلك أقوى من زيد ولذلك شبه به، وإن كان الكلام لم يسق للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه وإنما عن زيد، وكذلك الآيتان السابقتان وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشبهوا بموتى القبور فذلك لا ينفي أن موتى القبور لا يسمعون، بل إن كل عربي سليم السليقة لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أن هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم كما في المثال السابق، وإذا الأمر كذلك فموتى القبور لا يسمعون.
ولما لاحظ هذا بعض المخالفين لم يسعه إلا أن يسلم بالنفي المذكور ولكنه قيده بقوله: " سماع انتفاع " يعني أنهم يسمعون ولكن سماعا لا انتفاع فيه (1) وهذا في نقدي قلب للتشبيه المذكور في الآيتين حيث جعل المشبه به مشبهاً فإن القيد المذكور يصدق على موتى الأحياء من الكفار فإنهم يسمعون حقيقة ولكن لا ينتفعون من سماعهم كما هو مشاهد فكيف يجوز جعل المشبه بهم من موتى القبور مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم، مع أن المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقاً، ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيتين الكريمتين فبطل القيد المذكور.
ولقد كان من الممكن القول بنحو القيد المذكور في موتى القبور لو كان
(1) انظر (ص 45 - 46) من كتاب " الروح " المنسوب لابن القيم رحمه الله تعالى فإن فيه غرائب وعجائب من الروايات والآراء كما سنرى شيئا من ذلك فيما يأتي: وانظر (ص 87). [منه].
هناك نص قاطع على أن الموتى يسمعون مطلقاً إذن لوجب الإيمان به والتوفيق بينه وبين ما قد يعارضه من النصوص كالآيتين مثلاً، ولكن مثل هذا النص مما لا وجود له بل الأدلة قائمة على خلافه وإليك البيان:
الدليل الأول: قوله تعالى في تمام الآية الثانية: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} فقد شبههم الله تعالى - أعني موتى الأحياء من الكفار بالصم أيضاً فهل هذا يقتضي في المشبه بهم " الصم" أنهم يسمعون أيضاً ولكن سماعاً لا انتفاع فيه أيضاً، أم أنه يقتضي أنهم لا يسمعون مطلقاً كما هو الحق الظاهر الذي لا خفاء فيه. وفي التفسير المأثور ما يؤيد هذا الذي نقول فقال ابن جرير في "تفسيره" (21/ 36) لهذه الآية:
هذا مَثَلٌ معناه: فإنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم فسلبهم فَهْمَ ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله، كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبهم الله أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعاً، وقوله:{ولا تسمع الصم الدعاء} يقول: كما لا تقدر أن تسمع الصم الذين قد سلبوا السمع إذا ولوا عنك مدبرين؛ كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء الذين قد سلبهم الله فَهْمَ آيات كتابه لسماع ذلك وفهمه.
ثم روى بإسناد الصحيح عن قتادة قال:
هذا مَثَلٌ ضربه الله للكافر فكما لا يسمع الميت الدعاء كذلك لا يسمع الكافر {ولا تسمع الصم الدعاء. .. } يقول: لو أن أصم ولى مدبراً ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما سمع.
وعزاه في " الدرر "(5/ 114) لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم،
دون ابن جرير، وقد فسر القرطبي (13/ 232) هذه الآية بنحو ما سبق عن ابن جرير وكأنه اختصره منه.
فثبت من هذه النقول عن كتب التفسير المعتمدة أن الموتى في قبورهم لا يسمعون كالصم إذا ولوا مدبرين، وهذا هو الذي فهمته السيدة عائشة رضي الله عنها واشتهر ذلك عنها في كتب السنة وغيرها، ونقله المؤلف عنها في عدة مواضع من رسالته فانظر (ص 54، 56، 58، 68، 69، 71) وفاته هو وغيره أنه هو الذي فهمه عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة لما نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل القليب على ما يأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {ذلك الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير. إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} (فاطر 13 و14).
قلت: فهذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذي كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلونهم في تماثيل وأصنام لهم يعبدونهم فيها وليس لذاتها، كما يدل على ذلك آية سورة (نوح) عن قومه:{وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ولا يعوق ونسرا} ففي التفسير المأثور عن ابن عباس وغيره من السلف: أن هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم (أي علم تلك الصور بخصوصها) عبدت. رواه البخاري وغيره. ونحوه قوله تعالى:{والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3) فإنها صريحة في أن
المشركين كانوا يعبدون الصالحين ولذلك اتخذوهم وسائط بينهم وبين الله تعالى قائلين: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} .
ولاعتقادهم بصلاحهم كانوا ينادونهم ويعبدونهم من دون الله توهما منهم أنهم يسمعون ويضرون وينفعون، ومثل هذا الوهم لا يمكن أن يقع فيه أي مشرك مهما كان سخيف العقل لو كان لا يعتقد فيمن يناديه الصلاح والنفع والضر كالحجر العادي مثلاً، وقد بين هذا العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فقال في كتابه " إغاثة اللفهان " (2/ 222 - 223):
وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم؛ فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتخذين على القبور المساجد، ونهى عن الصلاة إلى القبور (1) صلى الله عليه وآله وسلم. . فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلاً وإما عناداً لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا. وهذا السبب هو لغالب على عوام المشركين.
وأما خواصهم فإنهم اتخذوها - بزعمهم - على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجاباً وحجباً وقرباناً ولم يزل هذا في الدنيا قديماً وحديثاً (ثم بين مواطن بيوت هذه الأصنام وذكر عباد الشمس والقمر وأصنامهم وما اتخذوه من الشرائع حولها ثم قال 2/ 224): فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائباً منابه وقائماً مقامه، إلا فمن المعلوم أن عاقلاً لا ينحت خشبة
(1) انظر كتابي: " تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد "[منه].
أو حجراً بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده ".
قلت: ومما يؤيد أن المقصود بقوله في الآية المتقدمة {لا يسمعوا دعاءكم} إنما هم المعبودون من دون الله أنفسهم وليست ذوات الأصنام تمام الآية: {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} والأصنام لا تبعث؛ لأنها جمادات غير مكلفة كما هو معلوم، بخلاف العابدين والمعبودين فإنهم جميعا محشورون قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيل، قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (الفرقان:17 - 18) وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُون} (سبأ:40 - 41) وهذا كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الآية (المائدة:116) وخير ما فسر به القرآن إنما هو القرآن والسنة وليس فيهما - فيما أعلم - ما يدل على أن الله يحشر الجمادات أيضا فوجب الوقوف عند هذه الآية الصريحة فيما ذكرنا.
وقد يقول قائل: إن هذا الذي بينته قوي متين ولكنه يخالف ما جرى عليه كثير من المفسرين في تفسير آية سورة (فاطر) وما في معناها من الآيات الأخرى فقالوا: إن المراد بها الأصنام نفسها وبناء على ذلك عللوا قوله تعالى فيها: {لا يسمعوا دعاءكم} بقولهم: "لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع" فأقول: لا شك أن هذا بظاهره ينافي ما بينت، ولكنه لا ينفي أن يكون لهم قول آخر يتماشى مع ما حققته فقال القرطبي (14/ 336) عقب التعليل المذكور آنفا وتبعه الشوكاني
(4/ 333) وغيره ما معناه: ويجوز أن يرجع {والذين تدعون من دونه. . .} وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين، والمعنى أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقاًّ، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى عليه السلام بقوله:{ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وقد ذكرا نحوه في تفسير آية (الزمر) المتقدمة.
قلت: وهو أولى من تفسيرهما السابق؛ لأنه مدعم بالآيات المتقدمة، بخلاف تفسيرهما المشار إليه فإنه يستلزم القول بحشر الأصنام ذاتها، وهذا مع أنه لا دليل عليه فإنه يخالف الآيات المشار إليها ولهذا قال الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - في كتابه " قرة عيون الموحدين " (ص 107 - 108) في تفسير آيتي (فاطر) ما نصه:
ابتدأ تعالى هذه الآيات بقوله: {ذلكم الله ربكم له الملك} يخبر الخبير أن الملك له وحده، والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره، ولهذا قال:{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سوى الله تعالى وتقدس بل يجب إخلاص الدعاء - الذي هو أعظم أنواع العبادة - له، وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئاً، وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم أي: ينكرونه، ويتبرؤون ممن فعله معهم، فهذا الذي أخبر به الخبير الذي {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} وأخبر أن ذلك الدعاء شرك به وأنه لا يغفره لمن لقيه فأهل الشرك ما صدقوا الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع بل قالوا: إن الميت يسمع ومع سماعه ينفع، فتركوا الإسلام والإيمان رأساً كما ترى عليه
الأكثرين من جهلة هذه الأمة".
فتبين مما تقدم وجه الاستدلال بقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} على أن الصالحين لا يسمعون بعد موتهم وغيرهم مثلهم بداهة، بل ذلك من باب أولى كما لا يخفى فالموتى كلهم إذن لا يسمعون. والله الموفق.
الدليل الثالث: حديث قليب بدر وله روايات مختصرة ومطولة أجتزئ هنا على روايتين منها:
الأولى: حديث ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قليب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول» فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهم الآن يعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» ثم قرأت: {إنك لا تسمع الموتى} حتى قرأت الآية.
أخرجه البخاري (7/ 242 - فتح الباري) والنسائي (1/ 693) وأحمد (2/ 31) من طريق أخرى عن ابن عمر وسيأتي بعضه في الكتاب (ص 68، 71).
والأخرى: حديث أبي طلحة: أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان: ويا فلان ابن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» . قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً
وتصغيراً ونقمةً وحسرةً وندماً.
أخرجه الشيخان وغيرهما وقد خرجته في التعليق الآتي (ص 54) من الكتاب.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح بملاحظة أمرين:
الأول: ما في الرواية الأولى منه من تقييده صلى الله عليه وآله وسلم سماع موتى القليب بقوله: «الآن» (1) فإن مفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت، وهو المطلوب. وهذه فائدة هامة نبه عليها العلامة الآلوسي - والد المؤلف رحمهما الله - في كتابه " روح المعاني "(6/ 455) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبإسماع الله تعالى إياهم خرقاً للعادة ومعجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي في الكتاب (ص 56، 59) عن بعض العلماء الحنفية وغيرهم من المحدثين. وفي " تفسير القرطبي "(13/ 232):
قال ابن عطية (2): فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين".
(1) ولها شاهد صحيح في حديث عائشة الآتي (ص 70) عند المؤلف رحمه الله تعالى " [منه].
(2)
هو عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي مفسر فقيه أندلسي عارف بالأحكام والحديث. توفي سنة (542) له المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " طبع منه جزءان في المغرب ثم علمت الآن وأنا في زيارة الدوحة - قطر (أوائل ربيع الأول سنة 1401 هـ) من فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري أنه يقوم بطبع الكتاب طبعة جديدة وقد تم حتى اليوم. طبع أربع مجلدات منه يسر الله تمامه ". [منه].
قلت: ولذلك أورده الخطيب التبريزي في " باب المعجزات " من " المشكاة "(ج 3 رقم 5938 - بتخريجي).
والآمر الآخر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون، بعضهم أومأ إلى ذلك إيماءً، وبعضهم ذكر صراحة، لكن الأمر بحاجة إلى توضيح فأقول:
أما الإيماء فهو في مبادرة الصحابة لما سمعوا نداءه صلى الله عليه وآله وسلم لموتى القليب بقولهم: " ما تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ " فإن في رواية أخرى عن أنس نحوه بلفظ " قالوا " بدل: "قال عمر " كما سيأتي في الكتاب (ص 71 - 73) فلولا أنهم كانوا على علم بذلك سابق تلقوه منه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان لهم أن يبادروه بذلك، وهب أنهم تسرعوا وأنكروا بغير علم سابق فواجب التبليغ حينئذ يوجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم أن اعتقادهم هذا خطأ، وأنه لا أصل له في الشرع، ولم نر في شيء من روايات الحديث مثل هذا البيان وغاية ما قال لهم:" ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ". وهذا - كما ترى - ليس فيه تأسيس قاعدة عامة بالنسبة للموتى جميعا تخالف اعتقادهم السابق، وإنما هو إخبار عن أهل القليب خاصة، على أنه ليس ذلك على إطلاقه بالنسبة إليهم أيضاً إذا تذكرت رواية ابن عمر التي فيها " إنهم الآن يسمعون " كما تقدم شرحه، فسماعهم إذن خاص بذلك الوقت، وبما قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، فهي واقعة عين لا عموم لها؛ فلا تدل على أنهم يسمعون دائماً وأبداً، وكل ما يقال لهم، كما لا تشمل غيرهم من الموتى مطلقاً، وهذا واضح إن شاء الله تعالى. ويزيده ووضوحا ما يأتي.
وأما الصراحة فهي فيما رواه أحمد (3/ 287) من حديث أنس رضي الله عنه قال: ". . . . فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث؟ وهل
يسمعون؟ يقول الله عز وجل: {إنك لا تسمع الموتى} فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع [لما أقول] منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا ". وسنده صحيح على شرط مسلم (1). فقد صرح عمر رضي الله عنه أن الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة وأنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب فيه، ولذلك أشكل عليهم الأمر فصارحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ليزيل إشكالهم؟ وكان ذلك ببيانه المتقدم.
ومنه يتضح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر الصحابة - وفي مقدمتهم عمر - على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب؛ وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلقاً سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك، ولكن بين لهم ما كان خافياً من شأن القليب وأنهم سمعوا كلامه حقًّا، وأن ذلك أمر مستثنى من الآية معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم كما سبق.
هذا وإن مما يحسن التنبيه عليه وإرشاد الأريب إليه أن استدلال عائشة المتقدم بالآية يشبه تماماً استدلال عمر بها، فلا وجه لتخطئتها اليوم بعد تبين إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر عليه، اللهم إلا في ردها على ابن عمر في روايته لقصة القليب بلفظ السماع، وتوهيمها إياه؛ فقد تبين من اتفاق جماعة من الصحابة على روايتها كروايته هو أنها هي الواهمة، وإن كان من الممكن الجمع بين روايتهم وروايتها كما سيأتي بيانه في التعليق على " الرسالة "(ص 7 - 8) فخطؤها ليس في الاستدلال بالآية وإنما في خفاء القصة عليها على حقيقتها ولولا ذلك لكان
(1) وأصله عنده (8/ 163 - 164) والزيادة له وهو رواية لأحمد (3/ 219 - 220) والحديث عزاه في " الدر "(5/ 157) لمسلم وابن مردويه وكأنه يعني أن أصله لمسلم وسياقه لابن مردويه ولا يخفى ما فيه من إيهام وتقصير. [منه].
موقفها موقف سائر الصحابة منها، ألا وهو الموقف الجازم بها، على ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم واعتبارها مستثناةً من الآية.
فتنبه لهذا، واعلم أن من الفقه الدقيق الاعتناء بتتبع ما أقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمور، والاحتجاج به؛ لأن إقراره صلى الله عليه وآله وسلم حق كما هو معلوم، وإلا فبدون ذلك قد يضل الفهم عن الصواب في كثير من النصوص، ولا نذهب بك بعيداً فهذا هو الشاهد بين يديك فقد اعتاد كثير من المؤلفين وغيرهم أن يستدلوا بهذا الحديث - حديث القليب - على أن الموتى يسمعون متمسكين بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» غير منتبهين لإقراره صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة على اعتقادهم بأن الموتى لا يسمعون، وأنه لم يرده عليهم إلا باستثناء أهل القليب منه معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم، فعاد الحديث بالتنبه لما ذكرنا حجة على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل فلا يجوز الخروج عنه إلا بنص كما هو الشأن في كل نص عام. والله تعالى الموفق.
وقد يجد الباحث من هذا النوع أمثلة كثيرة ولعله من المفيد أن أذكر هنا ما يحضرني الآن من ذلك وهما مثالان:
الأول: حديث جابر عن أم مبشر رضي الله عنهما أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول عن حفصة: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها» . قالت: بلى يا رسول الله فانتهرها. فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها} فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} ".
رواه مسلم وغيره وهو مخرج في " الصحيحة "(2160) و"تخريج السنة"(860 - طبع المكتب الإسلامي).
أقول: ففي استدلال السيدة حفصة رضي الله عنها بآية الورود دليل على أنها فهمت (الورود) بمعنى الدخول وأنه عام لجميع الناس الصالح والطالح منهم، ولذلك أشكل عليها نفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخول النار في حق أصحاب الشجرة، فأزال صلى الله عليه وآله وسلم إشكالها بأن ذكرها بتمام الآية:{ثم ننجي الذين اتقوا} ففيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقرها على فهمها المذكور، وأنه على ذلك أجابها بما خلاصته أن الدخول المنفي في الحديث هو غير الدخول المثبت في الآية، وأن الأول خاص بالصالحين ومنهم أهل الشجرة، والمراد به نفي العذاب، أي أنهم يدخلونها مرورا إلى الجنة دون أن تمسهم بعذاب، والدخول الآخر عام لجميع الناس ثم هم فريقان: منهم من تمسه بعذاب ومنهم على خلاف ذلك وهذا ما وضحته الآية نفسها في تمامها وراجع لهذا " مبارق الأزهار "(1/ 250) و" مرقاة المفاتيح "(5/ 621 - 632)
قلت: فاستفدنا من الإقرار المذكور حكما لولاه لم نهتد إلى وجه الصواب في الآية، وهو أن الورود فيها بمعنى الدخول وأنه لجميع الناس، ولكنها بالنسبة للصالحين لا تضرهم بل تكون عليهم برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، وقد روي هذا صراحةً مرفوعاً في حديث آخر لجابر لكن استغربه الحافظ ابن كثير وبينت علته في " الأحاديث الضعيفة "(4761)، لكن حديثه هذا عن أم مبشر يدل على صحة معناه، وقد مال إليه العلامة الشوكاني في تفسيره للآية (3/ 333) واستظهره من قبله القرطبي (11/ 138 - 139) وهو المعتمد.
والآخر: حديث " الصحيحين " والسياق للبخاري نقلا من " مختصر البخاري " بقلمي لأنه أتم جمعت فيه فوائده وزوائده من مختلف مواضعه قالت عائشة:
دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندي جاريتان [من جواري الأنصار 3/ 3]
(وفي رواية: قينتان 4/ 266] [في أيام منى تدففان وتضربان 4/ 161] تغنيان بغناء (وفي رواية: بما تقاولت (وفي أخرى تقاذفت) الأنصار يوم) بعاث (1). [وليستا بمغنيتين] فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر [والنبي صلى الله عليه وآله وسلم متغش بثوبه 2/ 11] فانتهرني) وفي رواية: فانتهرهما) وقال: مزمارة (وفي رواية: مزمار) الشيطان عند (وفي رواية: أمزامير الشيطان في بيت) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[(مرتين)]؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وفي رواية: فكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وجهه) فقال:
دعهما [يا أبا بكر [ف] إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا] ". فلما غفل غمزتهما فخرجتا ". (رقم 508 من المختصر ").
قلت: فنجد في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر قول أبي بكر الصديق في الغناء بالدف أنه " مزمار الشيطان " ولا نهره لابنته أو للجاريتين بل أقره على ذلك فدل إقراره إياه على أن ذلك معروف وليس بمنكر فمن أين جاء أبو بكر بذلك؟ الجواب: جاء به من تعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديثه الكثيرة في تحريم الغناء وآلات الطرب، وقد ذكر طائفة منها العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان "(1/ 258 - 267) وخرجت بعضها في " الصحيحة "(91) و" المشكاة "(3652) ولولا علم أبي بكر بذلك وكونه على بينة من الأمر ما كان له أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي بيته بمثل هذا الإنكار الشديد، غير أنه كان خافياً عليه أن هذا الذي أنكره يجوز في يوم عيد فبينه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:" دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " فبقي إنكار أبي بكر العام مسلماً به
(1) بالصرف وعدمه وهو اسم حصن وقعت الحرب عنده بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بثلاث سنين. [منه].
لإقراره صلى الله عليه وآله وسلم إياه، ولكنه استثنى منه الغناء في العيد فهو مباح بالمواصفات الواردة في هذا الحديث.
فتبين أنه صلى الله عليه وآله وسلم كما أقر عمر على استنكاره سماع الموتى، كذلك أقر أبا بكر على استنكاره مزمار الشيطان، وكما أنه أدخل على الأول تخصيصاً، كذلك أدخل على قول أبي بكر هذا تخصيصاً اقتضى إباحة الغناء المذكور في يوم العيد، ومن غفل عن ملاحظة الإقرار الذي بَيَّنَّا؛ أخذ من الحديث الإباحة في كل الأيام كما يحلو ذلك لبعض الكتاب المعاصرين وسلفهم فيه ابن حزم، فإنه استدل به على الإباحة مطلقا جموداً منه على الظاهر فإنه قال في رسالته في الملاهي (ص 98 - 99): وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول أبي بكر: مزمار الشيطان " فأنكر عليه ولم ينكر على الجاريتين غناءهما ".
والواقع أنه ليس في كل روايات الحديث الإنكار المذكور وإنما فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر: " دعهما. . . " وفرق كبير بين الأمرين فإن الإنكار الأول لو وقع لشمل الآخر ولا عكس كما هو ظاهر، بل نقول زيادة على ذلك: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر قول أبي بكر المذكور كما سبق بيانه وقد قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " بعد أن ذكر الحديث (1/ 257):
فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان وأقرهما؛ لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد.
وأما أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على الجاريتين فحق، ولكن كان ذلك في يوم عيد فلا يشمل غيره أولا. وثانياًّ: لما أمر صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر بأن لا ينكر عليهما بقوله: " دعهما "
أتبع ذلك بقوله: " فإن لكل قوم عيداً. . . " فهذه جملة تعليلية تدل على أن علة الإباحة هي العيدية إذا صح التعبير، ومن المعلوم أن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإذا انتفت هذه العلة بأن لم يكن يوم عيد لم يبح الغناء فيه كما هو ظاهر، ولكن ابن حزم لعله لا يقول بدليل العلة كما عرف عنه أنه لا يقول بدليل الخطاب، وقد رد عليه العلماء ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية في غير ما موضع من " مجموع الفتاوى " فراجع المجلد الثاني من " فهرسه ".
لقد طال الكلام على حديث عائشة في سماع الغناء ولا بأس من ذلك إن شاء الله تعالى؛ فإن الشاهد منه واضح ومهم، وهو أن ملاحظة طالب العلم إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمرٍ ما يفتح عليه باباً من الفقه والفهم ما كان ليصل إليه بدونها، وهكذا كان الأمر في حديث القليب فقد تبين بما سبق أنه دليل صريح على أن الموتى لا يسمعون، وذلك من ملاحظتنا إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاستنكار عمر سماعهم واستدلاله عليه بالآية {إنك لا تسمع الموتى} فلا يجوز لأحد بعد هذا أن يلتفت إلى أقوال المخالفين القائلين بأن الموتى يسمعون، فإنه خلاف القرآن الذي بينه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الدليل الرابع:
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» (1).
أقول: ووجه الاستدلال به أنه صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع سلام المسلمين عليه؛ إذ لو كان يسمعه بنفسه لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه كما هو
(1) وهو حديث صحيح. [منه].
ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى.
ثم إن الحديث مطلق يشمل حتى من سلم عليه صلى الله عليه وآله وسلم عند قبره، ولا دليل يصرح بالتفريق بينه وبين من صلى عليه بعيدا عنه، والحديث المروي في ذلك موضوع كما سيأتي بيانه في التعليق (ص 80).
وهذا الاستدلال لم أره لأحد قبلي فإذا كان صواباً - كما أرجو - فهو فضل من الله ونعمة وإن كان خطأ فهو من نفسي، والله تعالى أسأل أن يغفره لي وسائر ذنوبي.
أدلة المخالفين:
فإن قيل: يظهر من النقول التي ستأتي في الرسالة عن العلماء أن المسألة خلافية فلا بد أن المخالفين فيها أدلة استندوا إليها.
فأقول: لم أر فيها من صرح بأن الميت يسمع سماعاً مطلقاً عاماً كما كان شأنه في حياته، ولا أظن عالماً يقول به، وإنما رأيت بعضهم يستدل بأدلة يثبت بها سماعاً لهم في الجملة، وأقوى ما استدلوا به سندا حديثان:
الأول: حديث قليب بدر المتقدم وقد عرفت مما سبق بيانه أنه خاص بأهل القليب من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقاً للعادة فلا داعي للإعادة.
والآخر: حديث: «إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا» . وفي رواية: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه
ملكان
…
» الحديث (انظر ص 55، 56، 57، 82) من " الآيات".
وهذا كما ترى خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله " فلا عموم فيه، وعلى ذلك حمله العلماء كابن الهمام وغيره كما سيأتي في " الآيات " (ص 56، 59، 73).
ولهم من هذا النوع أدلة أخرى ولكن لا تصح أسانيدها، وفي أحدها التصريح بأن الموتى يسمعون السلام عليهم من الزائر، وسائرها ليس في السماع، وبعضها خاص بشهداء أحد، وكلها ضعيفة، وبعضها أشد ضعفا من بعض كما ستراه في التعليق (ص 69).
وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم رحمه الله في " الروح "(ص8) تحت المسألة الأولى: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه:
ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائراً، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائراً؛ فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره (!) هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضا فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال (!) وقد عَلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: سلام عليكم أهل الديار.
وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلم الرد ".
أقول وبالله تعالى التوفيق:
رحم الله ابن القيم فما كان أغناه من الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي
الذي لا مجال له في أمر غيبي كهذا، فوالله لو أن ناقلاً نقل هذا الكلام عنه ولم أقف أنا بنفسي عليه لما صدقته؛ لغرابته وبعده عن الأصول العلمية والقواعد السلفية التي تعلمناها منه ومن شيخه الإمام ابن تيمية، فهو أشبه شيء بكلام الآرائيين والقياسيين الذين يقيسون الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، وهو قياس باطل فاسد طالما رد ابن القيم أمثاله على أهل الكلام والبدع، ولهذا وغيره فإني في شك كبير من صحة نسبة " الروح " إليه أو لعله ألفه في أول طلبه للعلم. والله أعلم.
ثم إن كلامه مردود في شطريه بأمرين:
الأول: ما ثبت في " الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت في الحج وأنه كان وهو في المدينة يزور قباء راكباً وماشياً ومن المعلوم تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة. فهل من أحد يقول: بأن البيت وقباء يشعر كل منهما بزيارة الزائر أو أنه يعلم بزيارته؟
وأما الآخر: فهو مخاطبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة بقولهم: " السلام عليكم أيها النبي. . . . " وهم خلفه قريباً منه وبعيداً عنه في مسجده وفي غير مسجده، أفيقال: إنه كان يسمعهم ويشعر بهم حين يخاطبونه به وإلا فالسلام عليه محال؟ اللهم غفراً. وانظر التعليق الآتي على الصفحة (95 - 96).
وإذا كان لا يسمع هذا الخطاب في قيد حياته أفيسمعه بعد وفاته وهو في الرفيق الأعلى لا سيما وقد ثبت أنه يبلغه ولا يسمعه كما سبق بيانه في الدليل الرابع (ص 36)؟
ويكفي في رد ذلك أن يقال: إنه استدلال مبني على الاستنباط والنظر، فمثله
قد يمكن الاعتداد به إذا لم يكن مخالفا للنص والأثر، فكيف وهو مخالف لنصوص عدة، واحد منها فقط فيه كفاية وغنية كما سلف، وبخاصة منها حديث قليب بدر، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعمر أن الموتى لا يسمعون، فلا قيمة إذن للاستنباط المذكور فإن الأمر كما قيل:" إذا جاء الأثر بطل النظر، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ".
وقد يتساءل القارئ - بعد هذا - عن وجه مخاطبة الموتى بالسلام وهم لا يسمعونه؟ وفي الإجابة عنه أحيل القارئ إلى ما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى فيما يأتي من الرسالة وما علقته عليها (ص 95 - 96) فإن في ذلك كفاية وغنية عن الإعادة.
وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم - كما ستراه في الكتاب مبسوطاً - على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلاً فيقال إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم (1) كلا فإنها قضايا جزئية لا تشكل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثني منه على قاعدة استثناء الأقل من الأثر، أو الخاص من العام، كما هو المقرر في علم أصول الفقه ولذلك قال العلامة الآلوسي في " روح المعاني " بعد بحث مستفيض في هذه المسألة (6/ 455):
والحق أن الموتى يسمعون في الجملة فيقتصر على القول بسماع ما ورد
(1) انظر " الأضواء "(6/ 425). [منه].