الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك. وهؤلاء جهال ضلال: فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجةً إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. وهو سبحانه كما قال:"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم، وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساءوا فلها. لهم ما كسبوا، وعليهم ما اكتسبوا، {من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} ". انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله منقولا من " مجموعة الفتاوى " (8/ 70 - 71) ومثله في " مفتاح دار السعادة " لتلميذه المحقق العلامة ابن قيم الجوزية (ص 9 - 10) و"تجريد التوحيد المفيد " (ص 36 - 43) للمقريزي.
"الصحيحة"(6/ 1/195، 198 - 200).
[1762] باب هل استطاعة العبد مقرونة بفعله أم سابقة له
؟
[قال الإمام معلقا على قول صاحب الطحاوية: «والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب وهو كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 286)»]:
[قال الإمام]:
والأُولى قال بها الأشاعرة والأخرى قال بها المعتزلة، والصواب القول بهما معاً على التفصيل الذي ذكره المؤلف رحمه الله تعالى وقد بين ذلك شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله بياناً شافياً لا بأس من نقله بتمامه لأهميته؛ قال رحمة الله عليه في «مجموع الفتاوى» (8/ 371 - 376): قد تكلم الناس من أصحابنا وغيرهم في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله؟ وجعلوها قولين متناقضين؛ فقوم جعلوا الاستطاعة مع الفعل فقط وهذا هو الغالب على مثبتة القدر المتكلمين من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم.
وقوم جعلوا الاستطاعة قبل الفعل وهو الغالب على النفاة من المعتزلة والشيعة، وجعل الأولون القدرة لا تصلح إلا لفعل واحد إذ هي مقارنة له لا تنفك عنه، وجعل الآخرون الاستطاعة لا تكون إلا صالحة للضدين ولا تقارن الفعل أبداً، والقدرية أكثر انحرافاً فإنهم يمنعون أن يكون مع الفعل قدرة بحال، فإن عندهم أن المؤثر لا بد أن يتقدم على الأثر لا يقارنه بحال سواء في ذلك القدرة والإرادة والأمر. والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة أن الاستطاعة متقدمة على الفعل ومقارنة له أيضا وتقارنه أيضاً استطاعة أخرى لا تصلح لغيره، فالاستطاعة نوعان: متقدمة صالحة للضدين، ومقارنة لا تكون إلا مع الفعل، فتلك هي المصححة للفعل المجوزة له وهذه هي الموجبة للفعل المحققة له؛ قال الله تعالى في الأولى:{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران:97) ولو كانت هذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج، ولا كان الحج واجباً على أحد قبل الإحرام به، بل قبل فراغه وقال تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 16) فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحد من التقوى إلا ما فعل فقط؛ إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 286) و (الوسع): الموسوع وهو الذي تسعه
وتطيقه فلو أريد به المقارن لما كلف أحد إلا الفعل الذي أتى به فقط دون ما تركه من الواجبات. . . ونظائر هذا متعددة فإن كل أمر علق في الكتاب والسنة وجوبه بالاستطاعة وعدمه بعدمها لم يرد به المقارنة وإلا لما كان الله قد أوجب الواجبات إلا على من فعلها وقد أسقطها عمن لم يفعلها فلا يأثم أحد بترك الواجب المذكور.
وأما الاستطاعة المقارنة الموجبة فمثل قوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} (هود: 20) فهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة إذ الأخرى لابد منها في التكليف؛
فالأولى: هي الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس.
والثانية: هي الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل، فالأولى للكلمات الأمريات الشرعيات، والثانية للكلمات الخلقيات الكونيات كما قال:{وصدقت بكلمات ربها وكتبه} (التحريم: 12).
وقد اختلف الناس في قدرة العبد على خلاف معلوم الحق أو مراده، والتحقيق أنه قد يكون قادراً بالقدرة الأولى الشرعية المتقدمة على الفعل فإن الله قادر أيضاً على خلاف المعلوم والمراد وإلا لم يكن قادراً إلا على ما فعله، وليس العبد قادراً على ذلك بالقدرة المقارنة للفعل فإنه لا يكون إلا ما علم الله كونه وأراد كونه فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك قول الحواريين:{هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} (المائدة: 112) إنما استفهموا عن هذه القدرة. وكذلك ظن يونس {أن لن نقدر عليه} (الأنبياء: 87) أي فسر بالقدرة كما يقال للرجل هل تقدر أن تفعل كذا؟ أي هل تفعله؟ وهو مشهور في كلام الناس.
ولما اعتقدت القدرية أن الأولى (الاستطاعة قبل الفعل) كافية في حصول الفعل وأن العبد يحدث مشيئته جعله مستغنياً عن الله حين الفعل، كما أن الجبرية لما اعتقدت أن الثانية موجبة للفعل وهي من غيره رأوه مجبوراً على الفعل وكلاهما خطأ قبيح؛ فإن العبد له مشيئة وهي تابعة لمشيئة الله كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع من كتابه.
فإذا كان الله قد جعل العبد مريداً مختاراً شائياً امتنع أن يقال: هو مجبور مقهور مع كونه قد جعله مريداً، وامتنع أن يكون هو الذي ابتدع لنفسه المشيئة فإذا قيل: هو مجبور على أن يختار، مضطر إلى أن يشاء، فهذا لا نظير له وليس هو المفهوم من الجبر بالاضطرار ولا يقدر على ذلك إلا الله.
ولهذا افترق القدرية والجبرية على طرفي نقيض وكلاهما مصيب فيما أثبته دون ما نفاه.
وابن الخطيب ونحوه من الجبرية يزعمون أن العلم بافتقار رجحان فعل العبد على تركه إلى مرجح من غير العبد ضروري؛ لأن الممكن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ما، وكلا القولين صحيح، ولكن دعوى استلزام أحدهما نفي الآخر ليس بصحيح؛ فإن العبد محدث لأفعاله كاسب لها وهذا الإحداث مفتقر إلى محدث فالعبد فاعل صانع محدث، وكونه فاعلاً صانعاً محدثاً بعد أن لم يكن لابد له من فاعل كما قال:{لمن شاء منكم أن يستقيم} (التكوير: 28) فإذا شاء الاستقامة صار مستقيماً ثم قال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} (التكوير: 29).
فما علم بالاضطرار وما دلت عليه الأدلة السمعية والعقلية كله حق، ولهذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله والعبد فقير إلى الله فقراً ذاتياً له في ذاته وصفاته