الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعدم ورودها بطريق التواتر - زعموا - وتارة في دلالتها كما تقدم بيانه، فكان من الواجب أن يقوم أهل العلم بواجبهم؛ فيبينوا للأمة ما حدثهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فتنة الدجال وقتل عيسى عليه الصلاة والسلام إياه؛ بنفس الطريق التي تتلقى الأمة به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ما يتعلق بدينها - من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وغيرها، ألا وهو الحديث النبوي - وبذلك يقضى على السبب المشار إليه، ويعود الناس فيذكرون الدجال وفتنته فيتخذون الأسباب لاتقائها، فلا يغترون بأضاليله وتحاريفه التي لا يصدق بإمكان وقوعها من مِثله إلا المؤمن - الذي لا يرتاب أدنى ارتياب فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أخباره - لعلمه بأن الله تعالى يبتلي عباده بما شاء من أنواع الفتن، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص:68).
"قصة المسيح الدجال"(ص30 - 31).
[1587] باب ذكر أسباب العصمة من فتنة الدجال
[قال الإمام في مقدمة كتابه: " قصة المسيح الدجال]:
فإذا علم المؤمن بذلك وآمن به [أي بعقيدة خروج الدجال]؛ اتخذ الأسباب التي تعصمه من فتنته؛ وهي:
أولاً: الاستعاذة بالله تعالى من شر فتنته، والإكثار منها؛ لا سيما في التشهد الأخير في الصلاة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(1) انظر: "صفة الصلاة"(ص 199 - الطبعة السابعة). [منه].
وثبت في "الصحيحين" وغيرهما عن جمع من الصحابة - منهم عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعيذ من فتنته.
بل إنه أمر بالاستعاذة من فتنته أمراً عاماً؛ كما في حديث زيد بن ثابت قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له - ونحن معه - إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أَقْبُرُ ستة أو خمسة أو أربعة، فقال:"من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ ".
فقال رجل: أنا.
قال: " فمتى مات هؤلاء؟ ".
قال: ماتوا في الإشراك (وفي رواية: في الجاهلية).
فقال:"إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه"، ثم أقبل بوجهه فقال:"تعوذوا بالله من عذاب النار". قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: "تعوّذوا بالله من عذاب القبر". قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: "تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ". قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال:
"تعوذّوا بالله من فتنة المسيح الدجال". قالوا نعوذ بالله من فتنة الدجال (1).
ثانياً: أن يحفظ عشر آيات من سورة (الكهف)، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«من حفظ عشر آيات من أول سورة (الكهف)؛عصم من [فتنة] الدجال» .
(1) أخرجه مسلم (8/ 161)، وأحمد (5/ 190). [منه].
رواه مسلم وغيره عن أبي الدرداء (1).
ثالثاً: أن يبتعد عنه، ولا يتعرض له؛ إلا إن كان يعلم من نفسه أنه لن يضره؛ لثقته بربه، ومعرفته بعلاماته التي وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:
«من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله؛ إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه؛ مما يبعث به من الشبهات» .
أخرجه أحمد وغيره عن عمران بن حصين (2).
رابعاً: أن يسكن مكة والمدينة، فإنهما حرمان آمنان منه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
"يجيء الدجال فيطأ الأرض إلا مكة والمدينة، فيأتي المدينة؛ فيجد بكل نقب من نقابها صفوفاً من الملائكة ".
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه (3).
ومثلهما المسجد الأقصى والطور؛ كما يأتي في الفقرة (24 - السياق).
واعلم أن هذه البلاد المقدسة إنما جعلها الله عصمة من الدجال لمن سكنها وهو مؤمن ملتزم بما يجب عليه من الحقوق والواجبات تجاه ربها، وإلا فمجرد استيطانها - وهو بعيد في حياته عن التأدب بآداب المؤمن فيها - فَمِمَّا لا يجعله
(1) رواه مسلم وغيره، وفي رواية له:"آخر الكهف"، وهي شاذة؛ كما حقيقته في "الصحيحة" رقم (2651). ويشهد للرواية الأولى حديث النواس الآتي في الفقرة (5) - تخريج فقرات القصة، وحديث أبي أمامة في الفقرة (14). . [منه].
(2)
وهو مخرّج في "المشكاة "(5488)، ورواه حنبل أيضاً في "الفتن"(ق46/ 2). . [منه].
(3)
وهو مخرّج في "الصحيحة"(2457). [منه].
في عصمة منه، فسيأتي في الفقرة (25 - أبو أمامة، 30 - السياق) أن الدجال - عليه لعائن الله - حين يأتي المدينة النبوية وتمنعه الملائكة من دخولها؛ ترجف بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إليه.
فهؤلاء المنافقون والمنافقات - وقد يكون نفاقهم عمليًّا - لم يَعْصِمْهُمْ من الدجال سكنهم المدينة النبوية؛ بل خرجوا إليه، وصاروا من أتباعه كاليهود! وعلى العكس من ذلك؛ فمن كان فيها من المؤمنين الصادقين في إيمانهم؛ فهم مع كونهم في عصمة من فتنته؛ فقد يخرج إليه بعضهم متحدياً وينادي في وجهه: هذا هو الدجَّال الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا حديثه
…
كما سيأتي في الفقرة (31 - السياق).
فالعبرة إذن بالإيمان والعمل الصالح، فذلك هو السبب الأكبر في النجاة، وأما السكن في دار الهجرة وغيرها؛ فهو سبب ثانوي، فمن لم يأخذ بالسبب الأكبر؛ لم يفده تمسكه بالسبب الأصغر، وقد أشار إلى هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله للذي سأله عن الهجرة:
"ويحك! إن شأن الهجرة لشديد! فهل لك من إبل؟ ". قال: "فهل تؤتي صدقتها؟ ". قال: نعم. قال: "فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يَتِرَك من عملك شيئاً"(1).
وما أحسن ما روى الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 235) عن يحيى بن سعيد:
(1) أخرجه البخاري (7/ 207 - فتح)، ومسلم (6/ 28)، وأبو داود (1/ 388)، والنسائي (2/ 182)، وأحمد (3/ 64). [منه].