الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقضاء وقدر، كما قال عليه السلام:«حتى العجز والكيس» .
وهذا بحث طويل جداً، ونحن تكلمنا عنه مراراً وتكراراً، لكني أقول: كلمة قضاء الله وقدره عقيدة إسلامية، وإن عجز مسلم ما أن يجمع في ذهنه بين اعتقاده: إن الإنسان والله مخير؛ لأنه لو كان مسيراً مثل ما بيقولوا الجهلة ما يقال له:
افعل أو لا تفعل، مثل ما قال هاداك الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً ثم قال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
لو وصف إنسان رجلاً بهذا الوصف الذي وصف هذا الشاعر به لنسبه إلى الظلم، إنسان لو وصف ملكاً أو رئيساً بهذا الوصف لوصفه ظالماً، ما بعده ظلم، فما باله وهو يصف رب العالمين: خلقه وألقاه في اليم مكتوفاً ثم قال له: إياك إياك أن تبتل بالماء، حاشا لله، وإنما قال:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29)، وقال:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد:10)، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:10)، إلى آخره.
إذن كل من المذهبين: المعتزلة والجبرية باطل والحق بينهما.
الإنسان فيما كان مخيراً فيه هو مأجور أو مأزور، وفيما وقع منه رغم أنفه فهو غير مسؤول.
"الهدى والنور"(529/ 18: 11: 00)
[1800] باب بيان معتقد الجبرية والرد عليهم
سؤال: نرجو من فضيلتكم إيضاح معتقد الجبرية وكيفية الرد عليهم بشبهة أن الله قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بزمن بعيد، فكيف يقال بأن الإنسان مخير في أعماله كالطاعة والنسيان؟
الشيخ: المسألة في الحقيقة سهلة عند من أحاط معرفةً بتقادير الله عز وجل السابقة للحوادث، فإذا نحن درسنا أي حادثة من الحوادث وقعت فلا نشك أن هذا الواقع هو الذي سبق في اللوح المحفوظ وسجل قبل أن يقع، لنضرب على ذلك بعض الأمثلة: القاتل العمد والقاتل الخطأ، والمجتهد المصيب والمجتهد المخطئ، فلان قتل عامدًا، ترى! في اللوح المحفوظ ما الذي كتب؟ أنه سيقتل عامدًا، والآخر قتل خطأً، ترى! ما الذي كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ؟ يقتل عامدًا أم يقتل خطأً؟ لا شك أن القدر الإلهي سابق للحوادث وهو بعلمه تبارك وتعالى الأزلي السابق يكتشف هذه الحوادث وسجلها في اللوح المحفوظ قبل وقوعها، فهي كما وقعت سجلت، وحينئذٍ نقول: القاتل العمد قتل باختياره أم باضطراره، وعلى العكس القاتل الخطأ قتل أيضًا باختياره أم رغم أنفه؟ سيأتي الجواب: القاتل الأول قتل باختياره، والقاتل الثاني قتل رغم أنفه ليس باختياره، فهل نحن لأنه ربنا تبارك وتعالى بالقدر الذي سبق أن سجل المخلوقات كلها؛ لأننا علمنا هذه الحقيقة، هل معرفتنا بهذه الحقيقة تضطرنا نحن أن نغير علمنا بهذا الواقع، قلنا: أن أحد القاتلين قتل باختياره، فهل نقول: إنه قتل رغم أنفه؛ لأننا اعتقدنا أنه سبق في كتاب الله عز وجل أنه سيقتل؟ كان جوابنا: سبق في كتاب الله أنه سيقتل باختياره، فإذًا الاختيار ثابت في القدر كالاضطرار تمامًا، ولذلك كان كنتيجة بدهية جدًا أن الله عز وجل يعذب القاتل العمد ولا يعذب القاتل الخطأ؛ لأن القاتل العمد قتل باختياره، فالاختيار لا يمكن إنكاره لمجرد اعتقاد أن هذا القتل سجل في اللوح المحفوظ، لكن ينبغي أن نتذكر أن الذي سجل في اللوح المحفوظ سيقع بكل دقة.
وقد قلنا أن الذي وقع وقع باختياره، فهذا مطابق القدر الإلهي أو مخالف؟
كان مطابق للقدر الإلهي، ولهذا فالذين يقولون بالجبر هم يخالفون القدر الإلهي، ويريدون أن يسووا بين ما كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ وفي القدر الإلهي بالاختيار أو بالاضطرار، من أجل هذا فرق الشرع والقانون والعقل بين من كان مختارًا في شيء، وبين من كان غير مختار، فمناط التكليف إنما هو بوجود الاختيار، فإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف، فالقول بالجبر ينفي القدر، بينما هم يريدون من إثبات الجبر بأنه ثبت في القدر، القدر قسمان: مسجل بالاختيار أنه سيفعل كذا ومسجل بالاضطرار أنه سيفعل كذا، فإذًا يعود قولهم بالجبر مستميلين إلى القضاء والقدر تعود الحجة عليهم على خلاف ما يزعمون.
وهناك نكتة لبعض الظرفاء: إذا قال لك الجبري: كل شيء يفعله الإنسان فإنما هو مضطر؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ وأنه لا بد أن يقع، قل له: فهل المضطر مؤاخذ ومكلف؟ سيقول لك: لا، فما عليك بعد أن يقول هذه الدلالة إلا أن تصفعه صفعة في خده مثلًا، فهو سيقول: أخ لماذا ضربتني؟ قل له: مضطر، مضطر كلام من أسخف ما يكون والإنسان خلقه الله عز وجل في أحسن تقويم.
أنا أقول مثلًا: أين الاضطرار؟ أنا الآن أتكلم معكم يا ترى! مختارًا أو مجبورًا؟ إذا قلت: مجبورًا هه .. [سكت الشيخ] هه مجبور عن السكوت هه سأتكلم معكم، أين الاضطرار المزعوم، فالله عز وجل أحكم الحاكمين خلق الإنسان ومكنه من عمل الخير كما مكنه من عمل الشر، ولذلك قال:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29) فالمشيئة البشرية تحمل الخير والشر ..
[صوت مختلط لا يفهم]
ربنا عز وجل قد فرق بين من كفر اختيارًا وبين من كفر اضطرارًا: {إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل:106) ولقد روى بعض علماء التفسير كابن حجر وكابن جرير الطبري وغيره أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حيث عذبه المشركون كما عذبوا بلالًا، ثم يظهر أنهم شعروا منهم شيئًا من الضعف والارتخاء فعرضوا عليه أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن يقول فيه: إنه كذاب .. إنه ساحر .. إنه شاعر، قالوا له: إن قلت هذا أطلقنا سراحك، .. فقال هذه الكلمات فأطلقوه، فجاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فبعد هذه الراحة التي وجدها عاد إليه رشده فأنبته نفسه كيف أنا قلت فيمن هداني الله بسببه: إنه كذاب .. إنه ساحر .. إنه شاعر، فشكا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعله ترتاح نفسه مما بدر منه من الخطأ، فقال له عليه الصلاة والسلام:«كيف تجد قلبك؟» أي: هذه الكلمات التي هي الكفر بعينه هل أنت مطمئن إليها، ومنكر صدقي ونبوتي وإلى آخره؟ قال: أجد قلبي مطمئن بالإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام:«فإن عادوا فعد» (1).
فالآن: مَن مِن العقلاء ممن أوتي ذرة من عقل ولب يسوي بين كفر عمار بن ياسر وكفر أبي لهب وأبي جهل، هل يستويان مثلًا؟ الجواب: لا، لكنهما كل من الكفرين مسجل في اللوح المحفوظ، لأن الله قال:{مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:38) لكن هذا المسجل هو الذي وقع، فلماذا هؤلاء الجبريون يتخذون إذًا الكتابة السابقة دليلًا على أن المقصود مجبور عليه صاحبه، والمكتوب فيه تفصيل تارةً قد يكتب مجبوراً، وتارًة قد يكتب مختارًا، فالقدر نفسه مطابق الواقع له، فما كان جبرًا فلا مؤاخذة كما في قصة عمار بن ياسر، وما كان اختيارًا كما في قصة أبي لهب وأبي جهل وأمثاله من الكفرة، فبهذا يمكن الرد على هؤلاء الجبرية، ويكفي أن تعرفوا خطورة مذهبهم وسخافة عقولهم ما قاله الشاعر
(1)"مستدرك الحاكم"(2/ 389)"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 208).
في حقهم ممثلًا لهم كيف اعتقدوا في ربهم الظن الذي يترفع عنه أظلم الناس حيث وصفوا ربهم بقولهم كما قال الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفًا ثم قال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
هل يغلله بالأغلال ثم يرميه في البحر ويقول له: إياك يصيبك رشاش الماء، أظلم الناس ما يفعل هذا، أما هم فقد وصفوا ربهم بما لا يليق بأظلم الناس وأفجر الناس:
ألقاه في اليم مكتوفًا ثم قال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
أما الله عز وجل فقد صرح بأنه لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وفي الحديث القدسي، قال الله تبارك وتعالى:«يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! لو اجتمع أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على صعيد واحد فسألني كل واحد مسألته فأعطيته إياها ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي! - وهنا الشاهد - إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرًا فليحمد لله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (1).
(1)"صحيح مسلم"(رقم 6737).