الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1460] باب ما ينتفع به الميت بعد موته
[قال الإمام]:
ينتفع الميت من عمل غيره بأمور:
أولاً: دعاء المسلم له، إذا توفرت فيه شروط القبول، لقول الله تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} (سورة الحشر:10).
وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» أخرجه مسلم (8/ 86،87) والسياق له، وأبو داود (1/ 240) وأحمد (6/ 452) من حديث أبي الدرداء بل، إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك، لأن غالبها دعاء للميت واستغفار له
…
ثانياً: قضاء ولي الميت صوم النذر عنه، وفيه أحاديث:
الأول: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» .أخرجه البخاري (4/ 156) ومسلم (3/ 155) وأبو داود (1/ 376)، ومن طريقه البيهقي (6/ 279) والطحاوي في "مشكل الآثار"(3/ 140،141) وأحمد (6/ 69).
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه: " أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرا، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها [إما أختها أو ابنتها] إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:
[أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى]، [فـ] اقض [عن أمك]). أخرجه أبو داود (2/ 81) والنسائي (2/ 143) والطحاوي (3/ 140) والبيهقي (4/ 255،256،10/ 85) والطيالسي (2630) وأحمد (1861،1970،3137،3224،3420) والسياق مع الزيادة الثانية له، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والزيادة الأولى لأبي داود والبيهقي.
وأخرجه البخاري (4/ 158 - 159) ومسلم (3/ 156) والترمذي (2/ 42 - 43) وصححه، وابن ماجه (1/ 535) بنحوه، وفيه عندهم جميعاً الزيادة الثانية، وعند مسلم الأخيرة.
الثالث: عنه أيضا: "أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: اقضه عنها ".أخرجه البخاري (5/ 400، 494) ومسلم (6/ 76) وأبو داود (2/ 81) والنسائي (2/ 130،144) والترمذي (2/ 375) وصححه البيهقي (4/ 256،6/ 278،10/ 85) والطيالسي (2717) وأحمد (1893،3049، 6/ 47)
ثالثاً: قضاء الدين عنه من أي شخص ولياًّ كان أو غيره، وفيه أحاديث كثيرة
…
رابعاً: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره، دون أن ينقص من أجره شيء، لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله عز وجل يقول:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» .أخرجه أبو داود (2/ 108) والنسائي (2/ 211) والترمذي (2/ 287) وحسنه، والدارمي (2/ 247) وابن ماجه (2/ 2 - 430) والحاكم (2/ 46) والطيالسي (1580) وأحمد (6/ 41،126،127،162،173،193،201،202)
وقال الحاكم: " صحيج على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي، وهو خطأ من وجوه لا يتسع المجال لبيانها، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو.
رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد (2/ 179،204،214) بسند حسن.
ويؤيد ما دلت عليه الآية والحديث، أحاديث خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل ولده الصالح كالصدقة والصيام والعتق ونحوه، وهي هذه:
الأول: عن عائشة رضي الله عنها:" أن رجلا قال: إن أمي افتلتت (1) نفسها [ولم توص]، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها [ولي أجر]؟ قال: نعم، [فتصدق عنها] " أخرجه البخاري (3/ 198،5/ 399 - 400) ومسلم (3/ 81،5/ 73) ومالك في (الموطأ)(2/ 228) وأبو داود (2/ 15) والنسائي (2/ 129) وابن ماجه (2/ 160) والبيهقي (4/ 62،6/ 277 - 278) وأحمد (6/ 51).
والسياق للبخاري في إحدى روايتيه، والزيادة الأخيرة له في الرواية الأخرى، وابن ماجه، وله الزيادة الثانية، ولمسلم الأولى.
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه:" أن سعد بن عبادة-أخا بني ساعدة-توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف (2) صدقة عليها".أخرجه البخاري (5/ 297،301،307) وأبو داود (2/ 15) والنسائي (2/ 130) والترمذي (2/ 25) والبيهقي (6/ 278) وأحمد
(1) بضم المثناة وكسر اللام، أي سلبت، على ما لم يسم فاعله، أي ماتت فجأة. [منه]
(2)
أي المثمر، سمي بذلك لما يخرف منه أي يجي من الثمرة. [منه]
(3080 - 3504 - 3508) والسياق له.
الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم ". أخرجه مسلم (5/ 73) والنسائي (2/ 129) وابن ماجه (2/ 160) والبيهقي (6/ 278) وأحمد (2/ 371).
الرابع: عن عبد الله بن عمرو: «أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، قال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، وإن هشاماً أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنه لو كان مسلما فأعتقتم أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك، (وفي رواية): فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك» . أخرجه أبو داود في آخر"الوصايا"(2/ 15) والبيهقي (6/ 279) والسياق له، وأحمد (رقم 6704) والرواية الأخرى له، وإسنادهم حسن.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار"(4/ 79): "وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها، فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}. ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها".
قلت: وهذا هو الحق الذي تقتضيه القواعد العلمية، أن الآية على عمومها وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد لأنه من سعيه بخلاف غير الولد، لكن قد نقل النووي وغيره الإجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصله ثوابها، هكذا قالوا (الميت) فأطلقوه ولم يقيدوه بالوالد، فإن صح هذا الإجماع كان مخصصًا للعمومات التي أشار إليها الشوكاني فيها يتعلق بالصدقة، ويظل ما عداها داخلا في العموم كالصيام وقراءة القرآن ونحوهما من العبادات، ولكنني في شك كبير من صحة الإجماع المذكور، وذلك لأمرين: الأول: أن الإجماع بالمعنى الأصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي علمت من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحول، كابن حزم في "أصول الأحكام" والشوكاني في "إرشاد الفحول" والأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه "أصول الفقه" وغيرهم، وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد في كلمته المشهورة في الرد على من ادعى الإجماع - ورواها عنه ابنه عبد الله بن أحمد في "المسائل".
الثاني: أنني سبرت كثيرا من المسائل التي نقلوا الإجماع فيها، فوجدت الخلاف فيها معروفاً! بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الإجماع فيها، ولو شئت أن أورد الأمثلة على ذلك لطال الكلام وخرجنا به عما نحن بصدده. فحسبنا الآن أن نذكر بمثال واحد، وهو نقل النووي الإجماع على أن صلاة الجنازة لا تكره في الأوقات المكروهة! مع أن الخلاف فيها قديم معروف، وأكثر أهل العلم على خلاف الإجماع المزعوم، كما سبق تحقيقه في المسألة (87)، ويأتي لك مثال آخر قريب إن شاء الله تعالى.
وذهب بعضهم إلى قياس غير الوالد على الوالد، وهو قياس باطل من وجوه:
الأول: أنه مخالف العموميات القرآنية كقوله تعالى {ومن تزكى فإنما يتزكي لنفسه} وغيرها من الآيات التي علقت الفلاح ودخول الجنة بالأعمال الصالحة، ولا شك أن الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه عليه فكان له أجره بخلاف غيره.
الثاني: أنه قياس مع الفارق إذا تذكرت أن الشرع جعل الولد من كسب الوالد كما سبق في حديث عائشة فليس هو كسبا لغيره، والله عز وجل يقول:{كل نفس بما كسبت رهينة} ويقول: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} . وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله عز وحل: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} : " أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء " وقال العز بن عبد السلام في "الفتاوى"(24/ 2 - عام 1692): "ومن فعل طاعة الله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت، لم ينتقل ثوابها إليه، إذ {ليس للإنسان إلا ما سعى}، فإن شرع في الطاعة ناوياً أن يقع عن الميت لم يقع عنه، إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج".
وما ذكره ابن كثير عن الشافعي رحمه الله تعالى هو قول أكثر العلماء وجماعة من، الحنفية كما نقله الزبيدي في "شرح الإحياء"(10/ 369).
قلت: ومما سبق تعلم بطلان الإجماع الذي ذكره ابن قدامة في "المغني"(2/ 569) على وصول ثواب القراءة إلى الموتى، وكيف لا يكون باطلاً، وفي مقدمة المخالفين الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وهذا مثال آخر من أمثلة ما ادعى فيه الإجماع وهو غير صحيح، وقد سبق التنبيه على هذا قريباً.
الثالث: أن هذا القياس لو كان صحيحاً، لكان من مقتضاه استحباب إهداء الثواب إلى الموتى ولو كان كذلك لفعله السلف، لأنهم أحرص على الثواب منا بلا ريب، ولم يفعلوا ذلك كما سبق في كلام ابن كثير، فدل هذا على أن القياس المذكور غير صحيح، وهو المراد.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " الاختيارات العلمية "(ص 54): "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعا، أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل".
وللشيخ رحمه الله تعالى قول آخر في المسألة، خالف فيه ما ذكره آنفا عن السلف، فذهب إلى أن الميت ينتفع بجميع العبادات من غيره!. وتبنى هذا القول وانتصر له ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "الروح" بما لا ينهض من القياس الذي سبق بيان بطلانه قريباً، وذلك على خلاف ما عهدناه منه رحمه الله من ترك التوسع في القياس في الأمور التعبدية المحضة لاسيما ما كان عنه على خلاف ما جرى عليه السلف الصالح رضي الله عنهم وقد أورد خلاصة كلامه العلامة السيد محمد رشيد رضا في "تفسير المنار"(8/ 254 - 270) ثم رد عليه ردًّا قويًّا، فليراجعه من شاء أن يتوسع في المسألة ..
وقد استغل هذا القول كثير من المبتدعة، واتخذوه ذريعة في محاربة السنة، واحتجوا بالشيخ وتلميذه على أنصار السنة وأتباعها، وجهل أولئك المبتدعة أو تجاهلوا أن أنصار السنة، لا يقلدون في دين الله تعالى رجلا بعينة كما يفعل أولئك! ولا يؤثرون على الحق الذي تبين لهم قول أحد من العلماء مهما كان اعتقادهم حسناً في علمه وصلاحه، وأنهم إنما ينظرون إلى القول لا إلى القائل، وإلى الدليل، وليس إلى التقليد، جاعلين نصب أعينهم قول إمام دار الهجرة "ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر"! وقال:"كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر".
وإذا كان من المسلَّم به عند أهل العلم أن لكل عقيدة أو رأى يتبناه في هذه الحياة أثرًا في سلوكه إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فإن من المسلَّم به أيضًا، أن الأثر يدل على المؤثر، وأن أحدهما مرتبط بالآخر، خيرًا أو شرًّا كما ذكرنا، وعلى هذا فلسنا نشك أن لهذا القول أثراً سيئاً في من يحمله أو يتبناه، من ذلك مثلاً أن صاحبه يتكل في تحصيل الثواب والدرجات العاليات على غيره، لعلمه أن الناس يهدون الحسنات مئات المرات في اليوم الواحد إلى جميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، وهو واحد منهم، فلماذا لا يستغني حينئذ بعمل غيره عن سعيه وكسبه.! ألست ترى مثلاً أن بعض المشايخ الذين يعيشون على كسب بعض تلامذتهم، لا يسعون بأنفسهم ليحصلوا على قوت يومهم بعرق جبينهم وكد يمينهم! وما السبب في ذلك إلا أنهم استغنوا عن ذلك بكسب غيرهم! فاعتمدوا عليه وتركوا العمل، هذا أمر مشاهد في الماديات، معقول في المعنويات كما هو الشأن في هذه المسألة. وليت أن ذلك وقف عندها، ولم يتعدها إلى ما هو أخطر منها، فهناك قول بجواز الحج عن الغير ولو كان غير معذور كأكثر الأغنياء التاركين للواجبات فهذا القول يحملهم على التساهل في الحج والتقاعس عنه، لأنه يتعلل به ويقول في
باطنه: يحجون عني بعد موتي! بل إن ثمة ما هو أضر من ذلك، وهو القول بوجوب إسقاط الصلاة عن الميت التارك لها! فإنه من العوامل الكبيرة على ترك بعض المسلمين للصلاة، لأنه يتعلل بأن الناس يسقطونها عنه بعد وفاته! إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سوء أثرها علي المجتمع، فمن الواجب على العالم الذي يريد الإصلاح أن ينبذ هذه الأقوال لمخالفتها نصوص الشريعة ومقاصدها الحسنة.
وقابل أثر هذه الأقوال بأثر قول الواقفين عند النصوص لا يخرجون عنها بتأويل أو قياس تجد الفرق كالشمس؛ فإن من لم يأخذ بمثل الأقوال المشار إليها لا يعقل أن يتكل على غيره في العمل والثواب، لأنه يرى أنه لا ينجيه إلا عمله، ولا ثواب له إلا ما سعى إليه هو بنفسه، بل المفروض فيه أن يسعى ما أمكنه إلى أن يخلف من بعده أثرًا حسنا يأتيه أجره، وهو وحيد في قبره، بدل تلك الحسنات الموهومة، وهذا من الأسباب الكثيرة في تقدم السلف وتأخرنا، ونصر الله إياهم، وخذلانه إيانا، نسأل الله تعالى أن يهدينا كما هداهم، وينصرنا كما نصرهم.
خامساً: ما خلَّفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية، لقوله تبارك وتعالى:{ونكتب ما قدموا وآثارهم} ، وفيه أحاديث:
الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله (1) إلا من ثلاثة [أشياء]،إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو
(1) أي فائدة عمله وتجديد ثوابه، قال الخطابى في "المعالم":"فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة للحاج دون المحجوج عنه، وإنما يلحقه الدعاء، ويكون له الأجر في المال الذي أعطى إن كان حج عنه بمال ". [منه]
ولد صالح (1) يدعو له».أخرجه مسلم (5/ 73) والسياق له والبخاري في (الأدب المفرد)(ص 8) وأبو داود (2/ 15) والنسائي (2/ 129) والطحاوي في (المشكل)(1/ 85) والبيهقي (6/ 278) وأحمد (2/ 372)، والزيادة لأبي داود والبيهقي.
الثاني: عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده» أخرجه ابن ماجه (1/ 106) وابن حبان في "صحيحة "(رقم 84،85) والطبراني في "المعجم الصغير"(ص79) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 15) وإسناده صحيح كما قال المنذري في "الترغيب"(1/ 58)
الثالث: عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته» أخرجه ابن ماجه (1/ 106) بإسناد حسن، ورواه ابن خزيمة في "صحيحة" أيضا والبيهقي كما قال المنذري.
الرابع: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر النهار، فجاءه أقوام حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي
(1) قيد بالصالح لأن الأجر لا يحصل من غيره، وأما الوزر فلا يلحق بالوالد من سيئة ولده إذا كان نيته في تحصيل الخير، وإنما ذكر الدعاء له تحريضاً على الدعاء لأبيه، لا لأنه قيد، لأن الاجر يحصل للوالد من ولده الصالح، كلما عمل عملاً صالحاً، سواء أدعا لأبيه أم لا، كمن غرس شجرة يحصل له من أكل ثمرتها ثواب سواء أدعا له من أكلَها أم لم يدع، وكذلك الأم. كذا في " مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار " لا بن الملك. [منه]
السيوف، [وليس عليهم أزر ولا شئ غيرها] عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر (وفي رواية: فتغير - ومعناهما واحد) وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وصلى [الظهر، ثم صعد منبراً صغيراً]، ثم خطب [فحمد الله وأثنى عليه] فقال:[أما بعد فإن الله أنزل في كتابه]: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا} ، والآية التي في (الحشر):{ويا أيها الذين آمنوا] اتقوا الله ولتنظر ننسى ما قدمت لغد واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون. ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون} تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، [من شعيره]، من صاع تمره، حتى قال:[ولا يحقرن أحدكم شيئا من الصدقة]،ولو بشق تمرة، [فأبطؤوا حتى بان في وجهه الغضب]،قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة [من ورق (وفي رواية: من ذهب)] كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت [فناولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على منبره] [فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله]، [فقبضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]، [قام أبو بكر فأعطى، ثم قام عمر فأعطى، ثم قام المهاجرون والأنصار فأعطوا]، ثم تتابع الناس [في الصدقات]، [فمن ذي دينار، ومن ذي درهم، ومن ذي، ومن ذي] حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله ص: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، و [مثل] أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن سنة في الاسلام سيئة كان عليه وزرها و [مثل] وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص