الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمفهوم قوله عليه السلام «إذا طعمت
…
، إذا اكتسيت
…
»: أنه إن لم يجد ما يطعم ويكتسي؛ فلا حق لها عليه، فبم يفسخ إذن بينهما؟
ولذلك؛ فإني أرى خلاف ما ذهب إليه الشارح تبعا للشوكاني «6/ 257 - 277» ، وهو ما رواه غير واحد عن الحسن؛ في الرجل يعجز عن نفقة امرأته؟ قال: تواسيه، وتتقي الله عز وجل، وتصبر، وينفق عليها ما استطاع.
وهو مذهب ابن حزم في «المحلى» «10/ 109» ؛ ويؤيده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما هن عوان عندكم
…
»؛ قال الشوكاني: «أي: حكمهن حكم الأسرى؛ لأن العاني: الأسير، والأسير لا يملك لنفسه خلاصا من دون رضا الذي هو في أسره؛ فهكذا النساء.
ويؤيد هذا حديث: «الطلاق لمن أمسك بالساق» ؛ فليس للزوجة تخليص نفسها من تحت زوجها؛ إلا إذا دل الدليل على ذلك».
قلت: وقد علمت مما تقدم أن دليل الفسخ بالإعسار غير قوي؛ فلا يصلح لاستثناء هذه المسألة من الحديث؛ فتأمل «
وخلاصة القول؛ أنني لا أرى التفريق {بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لإعساره؛ بل على الحاكم أن يأمر - بالإنفاق عليها - ولي أمرها بعد زوجها، فإن لم يكن لها؛ فالسلطان أو من يقوم مقام وليها، فهو ينفق عليها من بيت مال المسلمين، حتى يوسر زوجها، والله عز وجل يقول:{سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} .
(التعليقات الرضية (2/ 259)
طلاق الحائض
«عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهى حائض فسأل عمر النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له: «مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء
أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء» متفق عليه. صحيح.
وجملة القول: أن الحديث مع صحته وكثرة طرقه ، فقد اضطرب الرواة عنه فى طلقته الأولى فى الحيض هل اعتد بها أم لا؟ فانقسموا إلى قسمين: الأول: من روى عنه الإعتداد بها ، وهم حسب الطرق المتقدمة: الطريق الأولى: نافع.
ثبت ذلك عنه من قوله وإخباره ، وعنه عن ابن عمر مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم أنه جعلها واحدة.
الطريق الثانية: سالم بن عبد الله بن عمر ، وفيها قول ابن عمر أنها حسبت عليه.
الثالثة: يونس بن جبير ، وهى كالتى قبلها.
الرابعة: أنس بن سيرين ، وفيها مثل ذلك ، وفى رواية عنه: أنه اعتد بها ، وفى أخرى رفع ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، ولكن إسناد هذه ضعيف كما سبق بيانه خلافا للحافظ.
الخامسة: سعيد بن جبير ، وفيها قول ابن عمر أنها حسبت عليه.
الحادية عشر: الشعبى عنه رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
والقسم الآخر: الذين رووا عنه عدم الاعتداد بها ، وهم حسب الطرق أيضا: الخامسة: سعيد بن جبير عنه قال: «فرد النبى صلى الله عليه وسلم ذلك على» .
السادسة: أبو الزبير عنه مرفوعا: «فردها على ولم يرها شيئا» .
وطريق ثالثة أوردناها فى التى قبلها: عبد الله بن مالك الهمدانى عنه مرفوعا «ليس ذلك بشئ»
فإذا نظر المتأمل فى طرق هذين القسمين وفى ألفاظهما تبين له بوضوح لا غموض فيه أرجحية القسم الأول على الآخر ، وذلك لوجهين: الأول: كثرة
الطرق، فإنها ستة ، ثلاث منها مرفوعة ، وثلاث أخرى موقوفة ، واثنتان من الثلاث الأولى صحيحة ، والأخرى ضعيفة ، وأما القسم الآخر ، فكل طرقه ثلاث، اثنتان منها صحيحة أيضا والأخرى ضعيفة ، فتقابلت المرفوعات فى القسمين قوة وضعفا.
وبقى فى القسم الأول الموقوفات الثلاث فضلة ، يترجح بها على القسم الآخر ، لاسيما وهى فى حكم المرفوع لأن معناها أن عبد الله بن عمر عمل بما فى المرفوع ، فلا شك أن ذلك مما يعطى المرفوع قوة على قوة كما هو ظاهر.
والوجه الآخر: قوة دلالة القسم الأول على المراد دلالة صريحة لا تقبل التأويل ، بخلاف القسم الآخر فهو ممكن التأويل بمثل قول الإمام الشافعى «ولم يرها شيئا» أى صوابا.
وليس نصا فى أنه لم يرها طلاقا ، بخلاف القسم الأول فهو نص فى أنه رآها طلاقا فوجب تقديمه على القسم الآخر ، وقد اعترف ابن القيم رحمه بهذا ، لكنه شك فى صحة المرفوع من هذا القسم فقال:«4/ 50» : » وأما قوله فى حديث ابن وهب عن ابن أبى ذئب فى آخره: » وهى واحدة «فلعمر الله ، لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليها شيئا ولصرنا إليها بأول وهلة ، ولكن لا ندرى أقالها ابن وهب من عنده ، أم ابن أبى ذئب أو نافع ، فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يتيقن أنه من كلامه ، ويشهد به عليه ، ونرتب عليه الأحكام ، ويقال: هذا من عند الله بالوهم والاحتمال» .
قلت: وفى هذا الكلام صواب وخطأ:
أما الصواب ، واعترافه بكون هذه اللفظة نص فى المسألة يجب التسليم بها والمصير إليها لو صحت.
وأما الخطأ ، فهو تشككه فى صحتها ، ورده لها بدعوى أنه لا يدرى أقالها ابن وهب من عنده ....
وهذا شئ عجيب من مثله ، لأن من المتفق عليه بين العلماء أن الأصل قبول رواية الثقة كما رواها ، وأنه لا يجوز ردها بالإحتمالات والتشكيك ، وأن طريق المعرفة هو التصديق بخبر الثقة ألا ترى أنه يمكن للمخالف لابن القيم لأن يرد حديثه «فردها على ولم يرها شيئا» بمثل الشك الذى أورده هو على حديث ابن وهب بالطعن فى أبى الزبير ونحو ذلك من الشكوك ، وقد فعل ذلك بعض المتقدمين كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ، وكل ذلك مخالف للنهج العلمى المجرد عن الإنتصار لشئ سوى الحق.
على أن ابن وهب لم يتفرد بإخراج الحديث بل تابعه الطيالسى كما تقدم فقال: حدثنا ابن أبى ذئب عن نافع عن ابن عمر: «أنه طلق امرأته وهى حائض فأتى عمر النبى صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فجعله واحدة» .
وتابعه أيضا يزيد بن هارون أخبرنا ابن أبى ذئب به.
أخرجه الدارقطنى من طريق محمد بن «أمشكاب» أخبرنا يزيد بن هارون.
ومحمد بن إشكاب لم أعرفه الآن ، وبقية الرجال ثقات.
ثم عرفته فهو محمد بن الحسين بن إبراهيم أبو جعفر بن إشكاب البغدادى الحافظ من شيوخ البخارى ثقة.
وتابع ابن أبى ذئب ابن جريج عن نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هى واحدة» .
أخرجه الدارقطنى أيضا عن عياش بن محمد أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج.
قلت: ورجاله ثقات كلهم ، وعياش بن محمد هو ابن عيسى الجوهرى ترجمه الخطيب وقال «12/ 279»:«وكان ثقة» ، فهو إسناد صحيح إن كان ابن جريج سمعه من نافع.
وتابع نافعا الشعبى بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثم يحتسب بالتطليقة التى طلق أول مرة» وهو صحيح السند كما تقدم.
وكل هذه الروايات مما لم يقف عليها ابن القيم رحمه الله تعالى ، وظنى أنه لو وقف عليها لتبدد الشك الذى أبداه فى رواية ابن وهب ، ولصار إلى القول بما دل عليه الحديث من الاعتداد بطلاق الحائض.
والله تعالى هو الموفق والهادى إلى سبيل الرشاد.
تنبيه: من الأسباب التى حملت ابن القيم وغيره على عدم الاعتداد بطلاق الحائض ما ذكره من رواية ابن حزم عن محمد بن عبد السلام الخشنى: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفى حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال فى رجل يطلق امرأته وهى حائض؟ قال ابن عمر: لا يعتد بذلك.
وقال الحافظ فى «الفتح» «9/ 309» : «أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح» .
وقال أيضا: «واحتج بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روى عن الشعبى قال: إذا طلق الرجل امرأته وهى حائض لم يعتد بها فى قول ابن عمر.
قال ابن عبد البر: وليس معناه ما ذهب إليه ، وإنما معناه لم تعتد المرأة بتلك الحيضة فى العدة».
ثم ذكر الحافظ عقبه رواية ابن حزم وقال: «والجواب عنه مثله» .
قلت: ويؤيده أمران:
الأول: ان ابن أبى شيبة قد أخرج الرواية المذكورة بلفظ آخر يسقط الاستدلال به وهو:
نا عبد الوهاب الثقفى عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فى الذى يطلق امرأته وهى حائض؟ قال: «لا تعتد بتلك الحيضة» .
وهكذا أخرجه ابن الأعرابى فى «معجمه» «ق 173/ 2» عن ابن معين: أخبرنا الثقفى به.