الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السائل: لو قدرت يا شيخ تلك العملة بالذهب مثلاً أو بعملة أخرى ثابتة، وكان الدّين على أن يُسَلِّم المدين للدائن كذا وكذا من العملة الثابتة، مع أنه إنما سَلَّم له تلك العملة المحلية فلو وضع هذا الشرط مثلاً عند الدّين؟
الشيخ: أنا لا أعتقد أن هناك عملة ورقية ثابتة، فلو اشترط بالوفاء بالذهب فيكون هذا أضمن للمستقبل.
(الهدى والنور / 791/ 25: 05: 01)
حكم تسديد الدّين النقدي بشيء عيني
مداخلة: إذا كان الإنسان مديون لشخص بمال، هل يستطيع أنه يعطيه بضاعة ملابس أو طعام أو شيئًا؟
الشيخ: يعني هو يريد أن يشتري أم تريد أنت أن تفرض عليه الشراء؟ فإن كان الأمر الأول جاز وإلا فلا.
مداخلة: يعني إذا كان لا يستطيع رد الدين.
الشيخ: إذا كان الدائن يريد أن يشتري فيجوز وإلا فلا.
(الهدى والنور/664/ 27: 16: 00)
التشهير بالمدين المماطل القادر على سداد الدين ليس من الغيبة
الشيخ: إذا كان لإنسان حق ودين على آخر، وحَلّ وقت الوفاء، ولما طالبه بهذا الحق اعتذر بأنه معسور غير ميسور، فإذا كان صادقاً في هذا الاعتذار، فعلى صاحب الحق أن يَقْبَل عُذره وأن ينتظره إلى ميسره.
لا شك أن هذا الحكم هو من كان حقيقةً في عسر، أما من كان يُقَدِّم مصلحة نفسه، وقضاء مصالحه الثانوية غير الجوهرية على الوفاء بالدين، فهذا يكون مماطلاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:«مَطْلُ الغني ظلم» .
وفي حديث آخر أشد رهبة من الحديث الأول، ألا وهو قول عليه الصلاة والسلام:«لَيُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته» .
«لي» هو المماطلة نفسُها، في الحديث الأول:«مطل الغني ظلم» .
الحديث الثاني: «لَيُّ الواجد» أي: مماطلة الواحد للوفاء «يُحِل عرضه وعقوبته» .
والمقصود من قوله: «يُحِل عرضه» أي: النيل منه والطعن فيه، والتشهير به، وهو أن يقال: فلان ظلمني، فلان يُماطلني، وهو ليس عاجزاً عن الوفاء، بل هو قادر عليه، فيجوز للمظلوم المُماطل أن ينال من عرض المُماطل الواجد، أي أن يُشَهِّر به، وليس هذا من الغيبة المُحرّمة في شيء.
وعندما قلت: ليس هذا من الغيبة المُحرّمة؛ لأن هناك غيبة جائزة، لكن مع ذلك فهي حساسة ودقيقة، وليس كل إنسان يستطيع أن يُفَرِّق بين هذه الغيبة الجائزة وبين الغيبة المحرمة التي التحريم هو الأصل فيها، كما هو معلوم في الحديث الصحيح ألا وهو قوله عليه السلام:«الغيبة ذِكْرُك أخاك بما يكره» قال يا رسول الله: أرأيت إن كان فيه ما قلت؟ قال: «إن كان فيه ما قلت فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» .
فهذا هو الأصل في الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره، أنها حرام كما هو صريح الحديث والآية المعروفة:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].
ولكن كما يقول الفقهاء في كثير من المسائل: ما من عام إلا وقد خُصّ.
فالأصل والعموم في الغيبة هو التحريم، لكن لها مستثنيات، من هذه المستثنيات ما ذكرناه آنفاً بالنسبة للدائن الذي يُماطله المدين بعد حلول الأجل مع وجود الوفاء لديه، ولكنه يصرف ما له -لا نقول فيما لا يجوز- ولكن على الأقل فيما
لا يجب، بينما هذا واجب عليه أن يُؤديه، فلا يقوم بهذا الواجب، بينما يقوم بالأمور بالمستحبة إن كانت مستحبة، وأحسن أحوالها أن تكون جائزة ومباحة.
فالدليل الذي حمل العلماء على أن يُخَصِّصوا الغيبة المحرمة بأمور أخرى، تُجيز الاستغابة مع أنها مكروهة عند المستغاب، نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، فالآية الكريمة تقول:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
فإذاً: هذا المظلوم يجوز له أن يجهر بالقول السيئ بالنسبة للظالم.
وهناك أحاديث كثيرة جداً، استنبط منها الفقهاء ستة أجناس من الغيبة التي يصدق فيها أن المُسْتَغاب يكرهها، ولكن لا يَصْدُق فيها أنها غيبة محرمة، فقال أحد الفقهاء الشعراء:
القدح ليس بغيبة في ستة
…
مُتَظَلّم ومُعَرِّف ومُحَذّر
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكر
هذه ستة أشياء.
أتيناكم بالآية والحديث: «لَيُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته» .
وقبل أن نستطرد كثيراً عن هذا الحديث الذي كنا فيه، فقد يتساءل بعض الحاضرين: قد فهمنا مقصود النبي صلى الله عليه وسلم، من قوله:«يُحِل عرضه» فماذا يعني بقوله: «وعقوبته» ؟
الجواب: أن العقوبة هنا تعود إلى الحاكم، إلى القاضي الشرعي، إذا رفع المظلوم شكواه على ذلك الظالم إلى القاضي، فاستدعاه وعرف منه أنه مماطل، أي: واجد مماطل غير معسور، بل هو ميسور، فهذا يعاقبه على مماطلته وتقصيره في الوفاء بحق أخيه.
إذاً: «لَيُّ الواجد يُحِل عرضه» بالنسبة للدائن.
«وعقوبته» بالنسبة للحاكم.
نعود إلى الخصال الست التي استُثْنِيت من الغيبة المُحرّمة، كان أولها المتظلم، وفيها هذا النص القرآني، والحديث النبوي، وهناك حديث آخر، وهو من روائع أساليب الرسول عليه السلام في تربية المسلم الذي انحرف عن سواء السبيل، فقد روى الإمام البخاري في كتابه:«الأدب المفرد» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاراً له قائلاً: يا رسول الله! جاري ظلمني. قال: فاجعل متاع دارك في الطريق» . فأخرج عفش الدار وألقاه في الطريق.
ولا شك أن هذا العمل مما يُلْفت الأنظار، كلما مَرَّ شخص أو أشخاص مالك هنا؟ فيقول: جاري ظلمني. فيقولون: قاتله الله .. لعنه الله .. كلما مرَّ شخص أو أشخاص أو طائفة من الناس: ما بالك؟ فيقول: جاري ظلمني. فيسبُّوه: قاتله الله .. لعنه الله .. والظالم يسمع، فما كان منه إلا أن انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: يا رسول الله! مُر جاري بأن يُعيد متاعه إلى داره، فقد لعنني الناس، فقال عليه الصلاة والسلام:«لقد لعنك من في السماء قبل أن يلعنك من في الأرض» .
فهذا من الأحاديث التي يستدل بها العلماء على جواز استغابة الظالم.
أولاً: المظلوم شكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: جاري ظلمني، ولا شك أن هذه غيبة بالنسبة للتعريف العام غيبة؛ «ذِكْرُك أخاك بما يكره» ، وهو يكره أنه يقال عنه إنه ظالم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالشرع لإصلاح ما فسد من الناس، لا يدع القاعدة العامة التي وُضِعَت لإصلاح الناس لتعود مفسدة لإفساد الناس، وإنما وضع لها قيودًا وحدودًا وشروطًا، وهذا الوضع يكون ببيانه عليه السلام، بفعله وبقوله، فنجد الرسول عليه السلام في هذه الحادثة، لم يكن موقفه تجاه الشاكي المظلوم يقول له كما قد يفعل بعض المتنطعين الجاهلين من الناس، يقول له: اسكت يا أخي هذه غيبة؛ لأن الرسول قال: «الغيبة ذِكْرُك أخاك بما يكره» .
وهذا الورع البارد اليوم، متمثل في كثير من المعاملات المتعلقة ببعض الناس في صور شتى مختلفة، قد يأتي الرجل مثلاً إلى شخص صديق لزيد من الناس، الرجل
يريد أن يشارك زيداً المذكور، فيأتي إلى صاحبه يسأله: أنا يا أخي أريد أن أشارك زيداً هذا، فماذا تعرف عنه؟ أنا أريد أن أدخل على بصيرة في هذه المشاركة، ماذا تعرف عنه؟ هو قد يكون يعرف عنه كل شر، لكن يظن المسكين لجهله بشريعة نبيه أنه إذا ذكر ما فيه فقد استغابه، انطلاقاً منه من الحديث الذي يسمعه بكل مناسبة، وهو والحمد لله حديث صحيحة، ولكن لا يُشْرح شرحاً صحيحاً، فيكون الجواب: أن يكتم الحقيقة وأن يصارح بخلاف ذلك، فيقول: يا أخي كل الناس خير وبركة. فما يسع هذا الإنسان المُسْتَنْصَح إلا أن يشاركه، وبعد زمن يتبين أن ذلك الذي استنصحه ما نصحه، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أَكَّد وجوب النصيحة على المسلمين في الحديث المعروف من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» .
الشاهد هنا: والحديث يأخذ شرحاً طويلاً قوله: «وعامتهم» من المسلمين، يجب على كل مسلم أن ينصحهم.
فزيد هذا حينما جاءه المُسْتَنْصَح يسأله: أنا أُريد أن أشارك فلاناً، فكان عليه أن يُبَيِّن كل سوء يعرفه عنه، ليس بقصد التشفي والانتقام منه، وإنما بقصد النصيحة والبيان، ولذلك فيجب أن نفهم هذا الموضوع فهماً جيداً، ومخصصاً بهذه الأنواع الستة: أولها: مُتَظلّم.
الثاني: ومعرف.
وهذا له أمثلة من السيرة ومن واقع المسلمين في كل زمان ومكان.
جاءت السنة أن امرأة فاضلة من الصحابيات العالمات اسمها: فاطمة، كان زوجها طلقها طلقتين، ثم سافر عنها لعملٍ، فأرسل إليها إلى وكيله بطلقته الثالثة، فجاء الوكيل إليها يُخْبِرها بأن زوجها قد طَلّقها الطلقة الثالثة، فبانت منه بينونة كبرى، وعلى ذلك طلب منها أن تخرج من داره، دار الزوج المُطَلِّق، فهي طالبت
بحق السكن وحق النفقة كما هو قائم في النُّظُم والقوانين
…
فقال لها وهو وكيل: ليس لك سُكْنَى ولا نفقة. قالت: فتجنبته وانطلقت
…
اسمها فاطمة بنت قيس؛ والمشهور عند الصحابة فاطمتان، هم كُثُر، لكن المشهور اثنتان، إحداهم هذه فاطمة بنت قيس، وأخرى اسمها فاطمة بنت أبي حبيش، وأنا لما بدأت وأنا أسرد قصتها الأولى وقفت خشيت أن يختلط عليّ إحداهما بالأخرى، فاكتفيت بأن أقول فاطمة، ثم استرددت حافظتي وذاكرتي، فتذكرت أنها فاطمة بنت قيس، وفاطمة بنت أبي حبيش يحسن أن يعرفها الرجال قبل النساء، وإن كانت قصتها تتعلق بالنساء وليس بالرجال.
الشيخ: الشاهد، فجاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ما سمعت من وكيل زوجها «لا شيء لها» فقال عليه الصلاة والسلام:«لا نفقة لكِ ولا سُكْنَى» ؛ لماذا؟ لأنها مطلقة الطلقة الثالثة.
وعلى ذلك أمرها عليه الصلاة والسلام بأن تخرج من الدار؛ لأنها محتلة له، أما النفقات فهي غير واردة لها، فما بيدها شيء، أما المسكن ففي يدها، فأمرها أن تخرج من دار زوجها، ليستلم الدار وكيل الزوج، وقال لها:«اذهبي إلى دار أُمِّ شريك» أُمّ شريك صحابية، ثم قال مُعَقِّباً على قوله لها:«اذهبي إلى دار أُمِّ شريك» فبادر وقال عليه السلام: «لا، لا تذهبي إليها؛ فإنها دار يقصدها المهاجرون من الرجال، فأخشى أن يقع منك خمارك فيرون منك ما لا ترضين، اذهبي إلى دار عمرو بن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى إذا وقع خمارك عن رأسك لا يراك، فإذا قضيتِ عدتك فلا تفوتيني بنفسك» ما معنى الكلام العربي الجميل؟
حين تنقضي العِدّة تعالي إلى عندي، فذهبت إلى عند الضرير عمرو بن أم مكتوم، هذا هو الصحيح في اسمه، ويقال فيه: عبد الله بن أُمّ مكتوم في رواية، لكن الصحيح أنه عمرو بن أم مكتوم، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 1 - 4] .. إلى آخر الآيات.
انقضت عُدَّتُها ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! انقضت عدتي، وقد خطبني فلان وفلان .. خطبني أبو جهم بالميم، وليس أبو جهل ذاك قتيل وخبيث، خطبني أبو جهم ومعاوية بن أبي سفيان، هي تعرض عليه صلى الله عليه وسلم هذين الخاطبين لترى رأيه فيهما ليرى رأيه فيهما، فماذا كان قوله عليه السلام؟ لم يكن قوله كقول ذلك الإنسان: كل الناس خير وبركة. وإنما ذكر عيب كلٍ منهما بالنسبة للواقع وهو السؤال.
قال عليه السلام: «أما أبو جهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه» . في تفسير هذه الجملة النبوية قولان:
أحدهما: أنه ضَرَّاب للنساء.
والآخر: أنه كثير الأسفار؛ لأن العرب حينما يسافرون يضعون العصا على العاتق، واِلمزْود على الخلف ويتم ماشيًا.
على كل حال هذه العبارة كناية عن أحد المعنيين، وكل منهما عيب في الرجل لا ترضاه الزوجة أو المرأة المخطوبة، هذا وصفه عليه السلام للخاطب الأول وهو أبو جهم، وصفه بهذا الوصف المُنَفِّر للمرأة منه.
ثم قال عليه السلام: «وأما معاوية فرجل صعلوك» صعلوك: يعني فقير، لا جاه له، لا مال له .. إلى آخره.
ماذا كان موقف المرأة تجاه هذا الوصف؟ لا رغبت لا في هذا ولا في هذا، الجهال اليوم يقولوا: قطع من نصيبها. هذا هو الجهل بعينه.
لكنها قالت بعدما رأى منها الإنزواء والانحراف عنهم عرض عليها أسامة بن زيد، فرضيت به، قالت: فاغتبطت به. يعني: انبسطت معه.
الشاهد: قوله عن أحدهما أنه ضَرّاب للنساء غيبة. وعن الآخر: أنه صعلوك فقير لا قيمة له غيبة.
لكن هذه الغيبة مُغْتَفرة، بل واجبة في سبيل نصح المرأة.
ومن هنا يجب أن نفهم خطأ الذين لا ينصحون المستنصحين، الذين يكونون مثلاً بحاجة إلى خطبة امرأة أو فتاة، فيأتي إلى جارها بالجنب، يقول له: يا أخي أنا أريد أن أخطب فلانة لي أو لابني أو كذا .. ما رأيك فيها؟
نفس الجواب التقليدي في بعض البلاد: كل الناس فيهم خير وبركة، وهو يعرف فيها أنها شاردة البصر، وأنها تخرج من الدار، وأنها لا تصلح للخاطب المسلم الصالح. لماذا لا ينصح؟ غيبة، نقطع بنصيبها يا أخي. لا يجوز.
فقال العلماء:
القدح ليس يغيبة في ستة متظلم ومعرف
…
أتينا بالمثال من الحديث والمثال من الواقع.
فلانة والله كويسة، لكنها لا تصلي، والله بتصلي لكنها تخرج متبرجة، والله كل شيء فيها خير لكن موظفة .. وإلى آخره.
هذا يجب كله أن يُشْرَح للخاطب المستنصح وإلا يكون غَشّه وما نصحه.
«ومحذر» هذه الصورة لها واقعان متباينان أشد التباين:
من ينبغي التحذير منه لا يُحَذرون عنه، ومن ينبغي أن يصاحب إياك وإياه. والحر تكفيه الإشارة.
يعني مثلاً: قد يرى شخص رجلاً يصاحب غلاماً صبيح الوجه رشيق القامة، ويعرف عن هذا الغلام شيئًا من التَأنُّث أو التخنث، والذي يصاحبه رجل وليس بالرجل المعروف بِحُسْن السيرة والاستقامة والصلاح والتقوى، وهناك في الحارة من يعرف حقيقة هذا وهذا، فالواجب أن ينصح هذا الغلام وأن يقول: لا تصاحبن هذا الرجل الذي رأيتك تمشي معه.
هذه صورة ممكن أنتم تبسطوا منها صور شتى وكثيرة جداً.
أما الصورة المعاكسة حيث لا يجوز التحذير: فلا، يا أخي لا تمشِ معه؟
لماذا يا أخي هذا رجل صالح ومصلي؟
والله هو مثلما تقول، بس هذا وهابي، وإياك واحذر منه.
هذا الثالث: «ومحذر»
الرابع: «ومجاهر فسقاً» .
يجهر بالمعصية، لا يخش الله ولا يستحي من عباد الله، هذا ليس له غيبة، ولكني أُذَكِّر والذكرى تنفع المؤمنين، أن هذا الفاسق حينما يُراد استغابته، فليس يجوز أن يستغيبه المستغيب تفشيشاً وإرواء لغليل غيظه، وإنما نصيحةً للناس وتعريفاً للناس به.
فهذا الفاسق يجوز استغابته، ليس اندفاعاً أو انطلاقاً من حديث مشهور ضعيف السند لا تقوم به حجة ألا وهو:«ليس لفاسق غيبة» .
هذا من الأحاديث التي لا يصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه صحيحاً.
ويُشْبِه هذا الحديث من الناحيتين الضعف في السند والصحة في المعنى، حديث آخر موجود في «الجامع الصغير»:«أترعون عن ذكر الفاجر بما فيه، اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس»
«أترعون» أي: أتتورعون. يعني: ورعاً باردًا.
والأمثلة السابقة كلها عليه.
«أترعون عن ذكر الفاجر بما فيه، اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس»
أي: استغابة الفاسق الفاجر ليس هو تفشيش خلق، وإنما لتحذير الناس منه وبس، فهو داخل أيضاً في باب النصيحة.
قد يقال: ما دام الحديث الأول ضعيف السند، والثاني شرحه. فما الحجة الصحيحة بأن غيبة الفاسق جائزة.
نقول: حديث الإمام البخاري في صحيحه، عن السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: استأذن رجل في الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو» .
هذه غيبة أم ليست غيبة؟
مداخلة: غيبة.
الشيخ: غيبة؛ لأن ذاك في الخارج والرسول في الداخل، ويذكره بلا شك بما يكره، لكن هذا ليس داخلاً في النص العام.
«ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو» فلما دخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هَشَّ إليه وبَشَّ، وجلس ما جلس ثم خرج. وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تُراقب الحال، لما انصرف الرجل قالت:«يا رسول الله! لما استأذن قلت: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو» .
فلما دخل هششت له وبششت، قال:«يا عائشة! إن شر الناس منزلةً عند الله يوم القيامة، من يتقيه الناس مخافة شره» . فهذا هو الفاجر.
فالرسول صلى الله عليه وسلم تعريفاً للناس به، قال:«بئس أخو العشيرة هو» لكن هو كان رئيس عشيرة وتحت يده بعض ضعفاء المؤمنين، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أحسن استقباله ومعاملته، بل أغلظ عليه القول؛ لانقلب هذا الرئيس الفاجر ضرراً على أصحاب الرسول الضعفاء الذين هم من عشيرة الرجل، ولذلك قال عليه السلام وهذا من أسلوبه في الكلام، ما قال بئس الرجل هو، قال:«بئس أخو العشيرة هو» له عشيرة، له طائفة من الناس هو عليهم رأس، وتحته طائفة من المؤمنين الطيبين، فترفق به الرسول عليه السلام حينما استقبله، ولكنه ما كتم حقيقة أمره أمام السامعين بقوله الأول:«بئس أخو العشيرة هو» ذلك؛ ليصبح دليلاً للعلماء والفقهاء الذين سيقتدون به عليه السلام، أنه يجوز استغابة الفاجر بقصد تحذير الناس.
قال: ومستفت.
المستفتي: هذه قضايا تقع كثيراً، وكثيراً جداً في كل زمان ومكان، مما وقع في عهد الرسول عليه السلام، جاءت هند امرأة أبي سفيان فقالت:«يا رسول الله! إن زوجي رجل شحيح» .
بخيل، هنا الغيبة، الرجل غائب والزوجة تستغيبه، أي: تتكلم كلام في غيبته يكرهه.
«أفآخذ من ماله ما يكفيني أنا وأولادي؟ »
هل كان موقف الرسول مثل موقف هؤلاء المُتَوَرِّعين الباردين: اسكتي يا حرمة هذه استغابة لزوجك، لا يجوز.
وإنما أصغى إليها وسكت عن قولها، وأعطاها جواب سؤالها، فقال لها:«خذي من ماله ما يكفيك أنت وولدك بالمعروف» .
إذاً: سكت الرسول عليه السلام عن هذه الغيبة؛ لأن المستغيبة مستفتية تُريد أن تعرف حكم الله بالنسبة لهذه الحال التي هي مع زوجها، فالزوج يبخل عليها، ولا يُقَدِّم لها ما يجب عليه لها، ولأولادها من النفقة، فهي تشعر أنها بحاجة أن تأخذ من ماله، ولكنها لا تُريد أن تُقْدِم على أخذ هذا المال إلا بعد السؤال للرسول عليه السلام، ومعرفة الحكم الشرعي في ذلك، وهذا من ورع الصحابيات وخوفهن من الله عز وجل، وأنهم لا يقدمون على شيء إلا بعد سؤال أهل العلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: «خذي أنت وولدك من ماله» بشرط ما يكفي.
أي: ليس معنى ذلك أن تأخذي مثلما تشائين، وتتصرفي كأن المال مالُك، لا، إنما خذي أنت وولدك ما يكفيك من ماله بالمعروف.
فالشاهد: هذا الحديث هو من جملة الأدلة على النوع الخامس الذي ذكره الفقيه الشاعر في بيته وهو قوله: ومستفت.
والسادس: ومن طلب الإعانة في إزالة منكر.
قواعد الشريعة العامة التي منها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
ومثله قوله عليه السلام: «مثل القائم على حدود الله والمُدّهن فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة، فكانت طائفة في أعلاها، وطائفة في أدناها، تكاد هؤلاء الذين هم في أدناها يصعدون إلى أعلاها ليستقوا الماء» يعني فيه نوع من المشقة واللبكة.
«مثل القائم على حدود الله» يعني: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
«والمُدّهم فيها كمثل قوم ركبوا في سفينة
…
» إلى آخره.
فإذا كان هناك مثلاً محلة نظيفة من أماكن يرتادها الفساق والفجار، كالبارات والسينماهات والخمّارات ونحو ذلك، ثم بلغ أحدهم خبرًا بأن هناك شخص يريد أن يفتتح محلاً يبيع فيها ما لا يجوز شرعاً، كالخمر مثلاً ونحو ذلك، أو يريد أن يفتح دار سينما كما يقولون، في قرية لا تعرف هذه الملاهي كلها، وعلى ذلك فقس.
لكن هذا الرجل الذي بلغه الخبر، لا يستطيع أن يحول وحده بينه وبين ذلك الظالم، الذي عزم على أن يفتتح ذلك المكان المُحَرَّم، فيأتي إلى زيد وبكر وعمرو، ويحكي أن فلانًا يريد أن يفعل كذا وكذا.
هذا بلا شك هو النوع الأخير من الغيبة، وهو التعاون:«ومن طلب الإعانة في إزالة منكر» ؛ لأنهم إن تركوا هذا الإنسان غرق هو وغَرِق السُّكان.
فبهذه الأشياء الستة يجوز للمسلم أن يستغيب أحياناً، إذا كان أولاً: ليس قصده الطعن في الرجل، وإنما قصده النُّصح للمسلم أو للمسلمين، فهذه قاعدة يجب أن نعرفها جيداً.
(الهدى والنور / 278/ 38: 00: 00)