الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأُخروي، كما قال تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] العمل الصالح هو ما كان على وفق السنة، ثم يبتغي من وراء ذلك الأجر عند الله، وهذا معنى قوله تعالى:{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
فهذا المؤذن أو ذاك الإمام اذا ابتغى من وراء وظيفته هذه غير وجه الله فقد حبط عمله، ولذلك قال عليه السلام في الحديث الصحيح «بَشِّر هذه الأمة بالرِّفعة والسناء والمجد والتمكين في الأرض، ومن عمل منهم عملا للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب» .
(الهدى والنور / 130/ 23: 41: 00)
حكم أخذ الأجر على تعليم الأولاد القرآن وعلومه وتحفيظه
مداخلة: الأجر على تعليم الأولاد القرآن وعلومه وتحفيظه لو ذكرت دليلاً في هذا الأمر جزاك الله خيرًا.
وإضافةً إلى السؤال في جمعية إحياء التراث، ننوي دعوة المحسنين لدعم رواتب مُحَفِّظين القرآن خارج الكويت، ونُعيِّن نصيبًا مثلاً أكفل محفظ أو معلم للقرآن بمبلغ عشرين دينار شهرياً، ثم ندعوا نتصل بالجمعيات الإسلامية في الخارج، ونحدد لهم هذا الأمر، وهم بالتالي يتعاقدون معه أو محفظين أو معلمين على هذا الأمر، في خلاف في الساحة؟
الشيخ: لا أعتقد أن في هذا الأمر إشكالاً من الناحية الشرعية، وإن كان هذا الواجب هو من واجبات الدولة.
لكن مع الأسف الدول الإسلامية اليوم، أو بعبارة قد تكون أدق: أكثر الدول الإسلامية لا تعطي هذا الجانب العناية اللائقة به، فإذا قام بذلك بعض الأفراد من
المسلمين، فإنما هو واجبٌ كفائيٌ يسقطونه عن رقاب الأمة، فهم يشكرون على ذلك، ولهم الجزاء الأوفى عند الله تبارك وتعالى.
فأقول: قيام بعض الأفراد من المسلمين بهذا العمل فهو عمل جليل، يسقطون به واجباً عن الدولة، وجمع التبرعات لهذا الصدد هو من باب قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
لكن الحقيقة التي ينبغي الدندنة حولها، ولفت نظر أفراد المسلمين إليها وبخاصة منهم: هؤلاء الذين سَيُرَتَّب لهم هذه الرواتب، أن يجعلوا عملهم خالصاً لله؛ حتى نخلص من مشكلة أخذ الأجر، لإنه لكثرة ما يتردد مثل ذاك السؤال: هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلى إمامة الناس التأذين ونحو ذلك؟ أشعر شعوراً قوياً جداً، بأن الناس لا يُفَرِّقون بين ما يسمى أجراً، وبين ما يسمى راتباً أو تعويضاً.
وهذا التفريق أمر جوهري جداً؛ لأنه تختلف النتائج اختلافاً جذرياً بين أن يأخذ أجراً على عبادة، وبين أن يأخذ تعويضاً أو مكافأة أو نحو ذلك.
وقد يتوهم بعض الناس بأن المسألة شكلية، ما هو الفرق سميته أجر وإلا سميته مكافأة أو جعالة أو تعويضاً أو راتباً أو نحو ذلك، لا، الفرق كبير وكبير جداً، كالفرق بين من يخرج مجاهداً في سبيل الله يبتغي الشهادة في سبيل الله، وبين آخر يخرج للجهاد، ولكنه يصنع للكسب المادي.
ولذلك جاء الحديث المشهور الصحيح الذي افتتح الإمام البخاري الصحيح به: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
يذكر شُرَّاح الحديث، أن سبب هذا الحديث أن رجلاً خرج مع الرسول عليه السلام للجهاد في سبيل الله في الظاهر، ولكن نيته كانت لعله يحظى بامرأة في تلك البلاد التي كانت الهِمَّة متوجهة لغزوها، وهي تعرف بأُمِّ قيس، فهو خرج للجهاد لعله يحظى بهذه المرأة، وصار ذلك معروفاً عند علماء الحديث بحديث مهاجر أم
قيس، يعني: هذا هاجر بقصد الحصول على تلك المرأة، ولم يخلص النية في الهجرة أو في الجهاد في سبيل الله عز وجل فسمي بمهاجر أم قيس.
قلت: لأن علماء الحديث يذكرون هذه المناسبة، وإن كانت هذه المناسبة لا يصح إسنادها على طريقة علماء الحديث، بخلاف أصل الحديث فهو واضح وثابت ثبوتاً يقينياً؛ لأن إسنادهم أولاً صحيح لا غبار عليه، وثانياً: لأن الأمة بأجمعها تَلَقَّت هذا الحديث بالقبول؛ حتى قال بعض العلماء كالنووي وغيره: هذا الحديث ثلث الإسلام؛ لأن الأعمال كلها تقوم على هذا الإخلاص الذي تضمن الحديث الحض عليه، «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى
…
» إلى آخر الحديث.
ولذلك ينبغي لفت نظر هؤلاء المعلمين الذين يساعَدُون بمثل هذه المساعدات، التي تُجْمَع من كثير من المحسنين، ألَاّ يعتبروا ذلك أجراً فيُحْبَط عملهم، وإنما هذا يعتبر جُعْلاً راتباً مكافأة مساعدة إلى آخره.
ولاشك أن العمل الواحد يختلف حكمه شرعاً باختلاف النية، ولذلك فلا ينبغي للمسلم أن يستصغر هذا التفريق بين أن يأخذ هذا المال أجراً، وبين أن يأخذه تعويضاً أو مساعدة، لا ينبغي أن يستصغر هذا التفريق؛ لأنه تفريق جوهري؛ ذلك لأنه من الثابت أن العمل الواحد يختلف أمره باختلاف النية.
ومن الأدلة على ذلك: الحديث الصحيح الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفقراء حينما شكوا أمرهم إليه، وكانوا يغبطون الأغنياء على ما يقومون به من صدقات، مع مشاركتهم للفقراء في العبادات في الصلاة والصيام، لكنهم يتفوقون عليهم بالصدقات، فأجابهم عليه السلام في القصة المعروفة بقوله:«إن لكم في كل تسبيحة صدقة، وفي كل تحميدة صدقة، وفي كل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» هنا الشاهد. «قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوته وله عليها أجر؟ قال: نعم. أرأيتم إن وضعها في حرام، أليس يكون عليه وزر؟ قال: بلى. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له عليها أجر» .
فإذاً: هذا قضى شهوته وهذا قضى شهوته، ذاك قضى شهوته وكتب له عليها أجر، والآخر: قضى شهوته كتب عليه وزر.
وبناءً على هذا التفريق بين نيةٍ والأخرى في العمل الواحد، فَصَّلَ بعض العلماء الكلام على الحديث السابق:«إنما الأعمال بالنيات» فضربوا بعض الأمثلة الموضِّحة في أهمية هذا النوع من الحديث، قالوا: لو أن رجلاً سَافَرَ ثم رجع إلى بلده، ودخل دارَه، وجامع أهله، وبطبيعة الحال الرجل المسافر يكون تائقاً لزوجته، لكن تَبَيَّن له بعد بأن هذه ليست الزوجة؛ لأمرٍ ما الزوجة ذهبت عند أهلها حَلّ محلها أختها أو امرأة أخرى إلى آخره، هناك يعني: وقع في الأمر الخطأ، لكن تَبَيَّن حينما جامعها في ظنه أنها حلاله، فهذا لا إثم عليه.
يقابله مثال آخر عكس هذا تماماً: رجل متزوج لكنه غير قانع بزوجته، فخرج ذات ليلة يبتغي قضاء شهوته مع بعض النساء، فلما دخل داراً كان يعرف أن هناك مومسات، فقدمت إليه امرأة طبعاً تحت أنوار خافتة قضى شهوته منها، وإذا بها هي زوجته؛ لأنه لما خرج من الدار لقضاء شهوته في الحرام، هي بدورها أيضاً خرجت تفتش عن مثل هذه الشهوة الحرام، فالتقى بها على غير معرفة، لكن هما زوجان، لكنهما آثمان، ولو أن أحدهما قضى شهوته من زوجته، وهي بالتالي قضت شهوتها من زوجها، لكن النية كانت في الحرام، فالأول مع أنه واقع غير حلاله، فهو غير آثم، والآخر: مع أنه واقع حلاله فهو آثم، لماذا؟ لقوله عليه السلام:«إنما الأعمال بالنيات» .
فإذاً: رجلان يعلمان العلم الشرعي، أحدهما: مأجور والآخر: مأزور، وكلاهما لهما راتب، فيختلفان باختلاف النية.
ولذلك في اعتقادي أنه يجب أن يقترن مع هذا المشروع لفت النظر إلى هذه الحقيقة، وإلا بتكون القضية مساعدة على عدم الإخلاص في طاعة الله عز وجل، ومن ذلك تعليم الناس، ولكي يكون القائمون على هذا المشروع قد أحاطوا بالمشروع من الناحية الشرعية من جميع جوانبه، فكما أنهم يحسنون صنعاً حينما
يسعون حيثياً في جمع هذه المساعدات؛ لتفريغ بعض الناس للتعليم أيَّ علم كان من العلوم الشرعية كما ذكرنا آنفاً، في الوقت نفسه يجب أن يتولوا توجيه هؤلاء المُعَلّمين إلى أن يخلصوا في تعليمهم لله رب العالمين، هذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين إن شاء الله.
مداخلة: شيخنا يعني: لو نُرْجِع البحث، المسألة من ناحية شرعية، أدلة على شرعية أخذ الأجر على التلاوة، والأدلة التي يعني: يظهر منها كما ذكرت، والشخص الذي أُهْدِي إليه قوس؟
الشيخ: لا تؤاخذني إذا قلت لك: لا أزال أسمع منك تكرر كلمة الأجر، فأنا أرجوا تعديلها؛ لأننا في صدد بيان أنه لا يجوز أخذ الأُجرة.
نحن نعلم من السيرة النبوية، أن المجاهدين تقسم عليهم الغنائم بطريقة مُقَنّنة معروفة في الشريعة، فلاشك أن هذه الغنائم التي تعطى لهم ليس أجراً لجهادهم في سبيل الله، وإنما هذا تعويض ومكافأة من الله عز وجل على جهادهم في سبيل الله، ومع ذلك فالأمر فيه دِقَّة متناهية جداً.
قد جاء في صحيح مسلم أن المجاهد إذا غنم ذهب ثلثُ أجره، مع أنه لا يكون قاصداً في جهاده إلا وجه الله، فلأنه أُعطي هذا الكسب المادي، وهو لم يكن قاصداً له، وإلا يحبط عمله من أصله، يذهب ثلث أجره في الجهاد في سبيل الله ....
مداخلة: في على هذا حديث صحيح؟
الشيخ: الحديث في صحيح مسلم بهذا المعنى، أي نعم.
فنأخذ من هذا الحديث وأمثاله جواباً له شعبتان، من ناحية يجيز أخذ المال مقابل عبادة، إذا قام بها مخلصاً لوجه الله عز وجل، وقَدَّم إليه هذا المال، إما من الدولة الحاكم أو من ينوب منابه في القيام بهذه الواجبات.
ومن جهة أخرى: أخذ هذا المال قد يُقَلّل من ثواب عمله، ولو افترضنا في ذلك الإخلاص كله في طاعة ربه تبارك وتعالى.
فيضاف إلى ما سبق ذكره، أن الأصل في كل عمل يقوم به المسلم أنه جائز، وتحريمه يحتاج إلى نص خاص، ولا نجد في الشرع ما يحرم مثل هذا السعي في سبيل جمع الأموال؛ لتخصيص بعض الأفراد من المسلمين وتفريغهم للقيام ببعض الواجبات الدينية.
لهذا السبب: كان جرى عمل المسلمين حتى في القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، فالقُضاة مثلاً والمفتون كلهم كانوا يعطون لهم لا نقول أجوراً وإنما رواتب، وكأنه هذا الراتب هو لما أشرنا إليه من المساعدة على التفريغ لهؤلاء الناس أن يقوموا بواجبهم بناءً على ما نشاهده من وقائع وتجارب، أنه مع الأسف بالنسبة لكثير من هؤلاء الأفراد الذين يفرغون لهذا العمل، أن إخلاصهم يأخذ يقل حتى ليكاد أن يضمحل.
لكن في هذه الحالة نحن لا نرى أن مثل هذا الواقع ينبغي أن يصرفنا عما قد نكون في صدد مساعدة هؤلاء الناس، على التفرغ لتعليم العلم الشرعي؛ لأننا نحن نقوم بواجبنا، وعليهم هم أن يقوموا بواجبهم، فإذا هم قصروا فما علينا نحن من مؤاخذة، لكن بالشرط السابق الذي ألمحت إليه، بأنه ينبغي تنبيههم على ضرورة الإخلاص لله عز وجل في عملهم، هذا ما يحضرني جواباً على هذا السؤال الذي له شعبتان: شعبة جواز جمع الأموال في سبيل تفريغ بعض العلماء أو طلاب العلم في نشر العلم.
والشعبة الأخرى: هل يجوز لهؤلاء أن يأخذوا ذلك التعويض أو الراتب؟ نقول: نعم.
لكن لا يأخذونه أجراً، وإنما يأخذونه تعويضاً أو راتباً، هذا ما عندي والله أعلم.
(الهدى والنور / 171/ 49: 02: 00)