الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول وآخر وقت العشاء
أول وقتها حين يغيب الشفق وهو الأحمر - كما سبق - ومن حجة من قال ذلك ما قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول بيقين وهو الذي حد عليه الصلاة والسلام خروج أكثر الوقت به، فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين، فقد ثبت من النص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذلك يقينا أن الوقت دخل بالشفق الذي هو الحمرة» نقله الشوكاني «2/ 9» . وقد سبق ابن حزم إلى هذا المعنى في «المحلى» «2/ 193» ابن سيد الناس وكأنه أخذه عنه.
وهذا مذهب الجمهور.
وآخر وقتها حين ينتصف الليل كما في حديث أبي هريرة وابن عمرو المتقدمين. وهو مذهب ابن حزم «2/ 164» وقد رواه عن عمر رضي الله عنه بلفظ: «وصل صلاة العشاء من العشاء إلى نصف الليل أي حين تبيت» «رسمه في الأصل بدون إعجام. كذا في «المحلى» وأقول: الصواب: شئت فقد ذكره ابن حزم من طريق الحجاج بن منهال: ثنا يزيد بن هارون: ثنا محمد بن سيرين عن المهاجر أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى به. وقد رواه الطحاوي «1/ 94» من طريق أبي عمر الحوضي - واسمه حفص بن عمر - قال: ثنا يزيد بن هارون به بلفظ: أي حين شئت.
وهذا سند صحيح رجاله رجال الشيخين والمهاجر هذا هو أبو الحسن كما صرح ابن حزم «190» .
ولهذا الأثر طريق آخر أخرجه مالك «1/ 25» من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى بلفظ: «وأن صل العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، فإن أردت فإلى شطر الليل، ولا تكن من الغافلين» .
وهذا سند صحيح غاية.
وأما ما رواه الطحاوي من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير قال: كتب عمر إلى أبي موسى: «وصل العشاء أي الليل شئت ولا تغفلها» فمخالف لما سبق، وعلة هذه الرواية الانقطاع بين حبيب ونافع، فإن حبيبا وإن كان ثقة فقد كان كثير الإرسال والتدليس كما في «التقريب» ، وأنت ترى أنه قد عنعن ولم يصرح بالتحديث فلا يحتج بروايته هذه لا سيما وقد خالفت ما رواه الثقات.
وهذا المذهب روي عن مالك القول به كما في «بداية المجتهد» «75» وهو قول أبي سعيد الإصطخري قال: «إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه فاتت الصلاة وتكون قضاء» . ذكره في «المهذب» .
وهو ظاهر قول الإمام الشافعي في باب استقبال القبلة: «إذا مضى ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة» قال النووي في «شرح المهذب» «3/ 40» :
«فمن أصحابنا من وافق الإصطخري لظاهر هذا النص وتأوله الجمهور» .
وقلت: ومن حجة الشافعي في قوله بالثلث حديث عائشة قالت:
أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعتمة فناداه عمر رضي الله عنه: نام النساء والصبيان. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما ينتظرها غيركم» ولم يكن يصلي يومئذ إلا بالمدينة ثم قال: «صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل» .
أخرجه النسائي من طريق ابن حمير قال: ثنا ابن أبي عيلة عن الزهري عن عروة عنها.
وهذا سند جيد رجاله ثقات إلا ابن حمير واسمه محمد تكلم فيه بعضهم مع أنه من رجال البخاري، وقد أخرجه في «صحيحه» من طريق صالح بن كيسان: أخبرني ابن شهاب به نحوه إلا أنه قال بدل قوله: ثم قال: صلوها
…
إلخ قال: وكانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول.
لكن قد ثبت تحديد وقت صلاة العشاء إلى نصف «الليل» في الحديثين السابقين وهي زيادة يجب قبولها كما لا يخفى، وقد جاءت أحاديث أخرى في ذلك منها حديث أنس قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: «قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها» خ حم «3/ 200» والطحاوي «94» كلاهما عن حميد الطويل عنه. وأخرجه النسائي «93» من هذا الوجه بلفظ: «إلى قريب من شطر الليل» . وهو رواية لأحمد «3/ 189» .
وله طرق أخرى منها عن ثابت عنه بلفظ: «إلى شطر الليل» أو «كاد يذهب شطر الليل» . أخرجه مسلم «2/ 116» وأحمد «267» وليس عنده: «إلى شطر الليل» بل قال: «حتى كاد يذهب شطر الليل» .
ومنها عن قرة بن خالد عن قتادة عن أنس بلفظ: «حتى كان قريب من نصف الليل» .
أخرجه مسلم أيضا والطيالسي «267» وقال: «حتى مضى شطر الليل» وهذا اللفظ شاذ مخالف لسائر الروايات.
ومنها عن أبي هريرة مرفوعا: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» .
أخرجه «ت» وصححه مج «234» حم «250 - 433» عن عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عنه. ورجاله رجال الشيخين.
ورواه الحاكم «1/ 146» من طريق أخرى عن سعيد بلفظ: «إلى نصف الليل» بدون شك.
ورواه أحمد من طريق أخرى عن أبي هريرة بلفظ: «إلى ثلث الليل» بدون شك.
ولذلك رواه من وجه آخر عن سعيد عن عطاء مولى صفية عن أبي هريرة فقد اضطرب في هذه اللفظة. انظر التعليق على الترمذي.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل فقال: «خذوا مقاعدكم» فأخذنا مقاعدنا فقال: «إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل» . أخرجه د «69» واللفظ له ون «92» ومج «234 - 235» وحم «3/ 5» من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عنه. وهذا سند صحيح كما قال الحافظ في «التلخيص» «3/ 29» .
قلت: وهو على شرط مسلم.
هذا ولم نجد لمن ذهب - وهم الجمهور - إلى أن وقت العشاء يمتد إلى صلاة الفجر إلا حديثين وليسا بنص في ذلك:
الأول: عن أبي قتادة مرفوعا: «ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى» . احتج به على ما ذكرنا بعض أهل الظاهر من المتقدمين. والشوكاني المحقق من المتأخرين «1/ 10» ورد ذلك ابن حزم ردا قويا فقال «3/ 178» : هذا لا يدل على ما قالوه أصلا وهم مجمعون معنا بلا خلاف من أحد من الأئمة أن وقت صلاة الفجر لا يمتد إلى وقت صلاة الظهر، فصح أن هذا الخبر لا يدل على اتصال وقت كل صلاة بوقت التي بعدها، وإنما فيه معصية من أخر صلاة إلى وقت غيرها فقط، سواء اتصل آخر وقتها بأول الثانية لها أم لم يتصل، وليس فيه أنه لا يكون مفرطا أيضا من أخرها إلى خروج وقتها وإن لم يدخل وقت أخرى، ولا أنه يكون مفرطا بل هو مسكوت عنه في هذا الخبر، ولكن بيانه في سائر الأخبار التي فيها نص على خروج وقت كل صلاة والضرورة توجب أن من تعدى بكل عمل وقته الذي حده الله تعالى لذلك العمل فقد تعدى حدود الله وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
والحديث الثاني عن عائشة قالت: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى فقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على
أمتي». مسلم «2/ 116» ن «93» مي «1/ 276» والطحاوي «94» من طريق ابن جريج قال: أخبرني المغيرة بن حكيم عن أم كلثوم بنت أبي بكر أنها أخبرته عنها.
فظاهر الحديث أنه صلاها بعد مضي نصف الليل الأول ولكن الحديث مؤول:
قال النووي: «والمراد بعامة الليل كثير منه وليس المراد أكثره ولا بد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه لوقتها» ولا يجوز أن المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل لأنه لم يقل أحد من العلماء أن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل».
قلت: وقد يدل لهذا التأويل أن الحديث قد جاء في البخاري ومسلم والنسائي والدارمي والمسند «6/ 43 و 215 و 272» من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة وليس فيه قوله: «حتى ذهب عامة الليل» وإنما فيه: «حتى ناداه عمر بن الخطاب: قد نام النساء والصبيان» . وذلك إنما يكون عادة قبل نصف الليل. ويقوي ذلك أن الحديث هذا رواه ابن عباس أتم منه فقال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة حتى ذهب من الليل، فقام عمر رضي الله عنه فنادى: الصلاة يا رسول الله رقد النساء والولدان. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والماء يقطر من رأسه وهو يقول: «إنه الوقت لولا أن أشق على أمتي» . أخرجه النسائي «92» والدارمي «276» من طريق سفيان عن عمرو عن عطاء عنه وعن ابن جرير عن عطاء عنه.
وهذان إسنادان صحيحان على شرط الشيخين.
وقد رواه مسلم «117» وأحمد «1/ 366» عن ابن جريج به وفيه التصريح بسماع ابن جريج من عطاء.
فهذه الرواية تدل على أن حديث عائشة برواية أم كلثوم عنها وحديثها برواية عروة عنها إنما هو حديث واحد اختصره بعض الرواة وهي تدل دلالة ظاهرة على أن قوله فيها: «إنه الوقت» يريد به الوقت الذي نام فيه النساء والولدان، وذلك قبل نصف الليل عادة كما قلنا، فرجع الحديث إلى أن المراد بعامة الليل كثير منه لا أكثره كما قال النووي وهو من دقة فهمه رحمه الله. وإن كان لا بد من الأخذ بظاهر