الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه ونصيحة
(1)
إن واجبَ النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم قضى علي أن أنبه إخواننا إلى خطر أمر تفسير كتاب الله والقول فيه دون مستند: من نقل صحيح عن أساطين المفسرين، أو من إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل قد توفرت فيه شروط المفسر من الضلاعة في علوم الشريعة وعلوم العربية، ولا سيما علمًا المعاني والبيان اللذين بدونهما لا يأمن المرء من تكرر الخطأ في فهم معاني القرآن، فيضل المقدم على ذلك ويُضل غيره.
وقد قال العلامةُ الزمخشري في خطبة الكشاف: " [ثم] إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح [- من غرائب نكت يلطف مسلكُها، ومستودعاتِ أسرارٍ يدق سلكُها -] علمُ التفسير الذي لا يتم تعاطيه وإجالةُ النظر فيه لكل ذي علم [كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن]. فالفقيهُ وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلِّمُ وإن بزَّ أهلَ الدنيا في صناعة الكلام، [وحافظُ القصص والأخبار وإن كان من ابن القِرِّيَّة (2) أحفظ، والواعظ وإن كان
(1) المجلة الزيتونية، المجلد 1، الجزء 10، ربيع الثاني 1356/ جوان [يونيو] 1937 (ص 495 - 496).
(2)
هو أبو سليمان أيوب بن زيد بن قيس بن زرارة بن سلمة بن جشم بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، المعروف بابن القرية الهلالي. والقرية جدته، واسمها جماعة بنت جشم بن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج. كان فصيحًا بليغًا واعظًا، قتله الحجاج صبرًا بين يديه سنة 84 هـ لانضمامه إلى عبد الرحمن بن الأشعث في الثورة عليه، ويقال: إنه ندم على قتله.
من الحسن البصري أوعظ]، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحدٌ لسلوك تلك الطرائق ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجلٌ قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علما المعاني والبيان، وتمهل في ارتيادهما آونةً، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، [وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعًا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثيرَ المطالعات، طويلَ المراجعات، قد رجع زمانًا ورُجع إليه، [ورَدّ ورُدَّ عليه]، فارسًا في علم الإعراب، مقدَّمًا في حَمَلة الكتاب (يعني كتاب سيبويه). وكان مع ذلك مسترسلَ الطبيعة منقادَها، مشتعلَ القريحة وقَّادَها، [يقظان النفس]، درَّاكًا للمحة وإن لطف شأنها، منتبهًا إلى الرمزة وإن خفيَ مكانُها". (1)
وقال العلامة السكاكي في المفتاح: "وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقفَ على تمام مُراد الحكيم تعالى وتقدس من كلامه مفتقِرٌ إلى هذين العلمين: المعاني والبيان كلَّ الافتقار، فالويلُ كلُّ الويل لِمَنْ تعاطى التفسيرَ وهو فيهما راجل". (2)
وقد ذكر القرطبي في مقدمة التفسير أن مَنْ فسَّر شيئًا من القرآن بدون مُستَنَدٍ من نقل صحيح أو دليل اقتضته قوانينُ العلم كالنحو والأصول والبلاغة، فهو متَّبِعٌ لهواه ورأيه المجرد، واقعٌ في الوعيد الوارد فيمن فسر القرآن بهواه ورأيه. (3)
(1) الزمخشري، أبو القاسم جارالله محمود بن عمر بن محمد: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، نشرة بعناية محمد عبد السلام عبد الشافي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1415/ 1995)، ج 1، ص 7 (وما بين المعقوفتين لم يورده المصنف فأوردناه استكمالًا لمساق الكلام).
(2)
السكاكي، أبو يعقوب يوسف بن محمد بن علي: مفتاح العلوم، تحقيق عبد الحميد هنداوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1420/ 2000)، ص 249. قال السكاكي ذلك في مقدمة القسم الثالث من الكتاب الذي محضه لعلمي المعاني والبيان.
(3)
القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر: الجامع لأحكام القرآن والمبَيِّن لِمَا تضمنه من السنة وآي الفرقان، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي وآخرين. (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، =
وبرغم هذا ونحوه، فقد رأينا تهافتَ كثيرٍ من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن. فمنهم مَنْ يتصدى لبيان معاني الآيات على طريقة كتب التفسير، ومنهم مَنْ يضع الآيةَ ثم يركُض في مجالات من أساليب المقالات، تاركًا معنى الآية جانبًا، جالبًا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبًا.
وقد دلت شواهدُ الحال على ضعف كفاءة البعض لهذا العمل العلمي الجليل، فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدَّى طورَه، وأن يردَّ الأشياء إلى أربابها، ويأتِيَ البيوت من أبوابها. وعلى مَنْ لا يأنس من نفسه الكفاءة - وهو يرغب في إفادة العموم بمعاني القرآن - أن يقتصر على نقل كلام المفسِّرين في التفاسير المشتهرة، عازيًا ذلك إلى مواقعه، مع التحفظ على عباراته.
وفي الناس طبقةٌ ترتقي كفاءتُها إلى درجةٍ تُخوِّلها التصرفَ في جمع كلام المفسِّرين وترتيبه واختصاره. والواجبُ على كل راغبٍ في التحلي بذلك أن يدققَ النظرَ في ميزان نفسه ليقفَ عند الحد الذي يثق به عندها، حتى لا يختلطَ الخاثرُ بالزباد، ولا يكونَ كحاطبٍ في حالكِ سواد. وبذلك تحصل الفائدة، والاستبراء للدين والعرض.
وإن سكوتَ العلماء على ذلك زيادةٌ في الورطة، وإفحاشٌ لأهل هذه الغلطة. فمَنْ يركب متنَ عمياء ويخبط خبطَ عشواء، فحق على أساطين العلم تقويمُ اعوجاجه، وتمييزُ حُلوه من أُجاجه، تحذيرًا للمطالع، وتنزيلًا في البرج والطالع.
= 1427/ 2006)، ج 1، ص 57 - 58. وقد أحال القرطبي في ذلك على ابن عطية، انظر: ابن عطية الأندلسي، أبو محمد عبد الحق بن غالب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد (بيروت: دار الكتب العلمية، 1422/ 2001)، ج 1، ص 41.