المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إرسالَ القضاة، تخفيفًا من مشقة المتداعين وسرعةً بإنقاذ الحق المبين. - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌فَاتِحَةُ الكِتَاب

- ‌بين يدي مقالات ابن عاشور ورسائله

- ‌تمهيد: أنا وتراث ابن عاشور:

- ‌محاولات سابقة لجمع مقالات ابن عاشور، ولكن

- ‌منهجنا في هذه الجمهرة جمعا وترتيبا:

- ‌شكر وعرفان ودعاء

- ‌ضميمة

- ‌المِحْوَرُ الأَوَّلفِي العَقِيْدَةِوَالتَفْسِيْر وَالفِكرِ وَالحِكمَةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلالعَقيْدَة والتّفسِيْر

- ‌تنبيه ونصيحة

- ‌الرحمن على العرش استوى

- ‌[مقدمة]

- ‌[موقع الآية من المتشابه]

- ‌[طريقة السلف إزاء المتشابه]

- ‌[الخلف وتأويل المتشابه]

- ‌[رأي المصنف]

- ‌تكليم الله لموسى عليه السلام

- ‌وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌القول الفصل - لا في الفضل - في عصمة الأنبياء من بعد النبوة ومن قبل:

- ‌قول عياض:

- ‌[الخلاصة]:

- ‌شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌معنى الشفاعة:

- ‌أنواع الشفاعة ومكانة الرسول عليه السلام منها:

- ‌مراجعة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

- ‌المهدي المنتظر

- ‌[مقدمة]:

- ‌[مكانة حديث المهدي من تعاليم الإسلام]:

- ‌[مذاهب العلماء في المهدي]:

- ‌كيف نشأ القولُ بالمهدي المنتظر

- ‌[أنواع الآثار المروية في المهدي]:

- ‌الآثار المروية في المهدي:

- ‌الرأي في هذه الآثار من جهة علم الحديث:

- ‌الرأى فيها من جهة النظر:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفكْر وَالحكْمَة

- ‌من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

- ‌[تمهيد]:

- ‌دعائم الإسلام:

- ‌معنى التجديد

- ‌مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة والاحتياج إلى التجديد:

- ‌كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة

- ‌رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:

- ‌رأي مجد الدين ابن الأثير في تعيين المجددين

- ‌التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:

- ‌التوسم في تعيين المجددين بحسب أدلة الحق المبين:

- ‌[المائة الأولى]:

- ‌[المائة الثانية]:

- ‌[المائة الثالثة]:

- ‌[المائة الرابعة]:

- ‌[المائة الخامسة]:

- ‌[المائة السادسة]:

- ‌[المائة السابعة]:

- ‌[المائة الثامنة]:

- ‌[المائة التاسعة]:

- ‌[المائة العاشرة]:

- ‌[المائة الحادية عشرة]:

- ‌[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]:

- ‌[المائة الثانية عشرة]:

- ‌التقوى وحسن الخلق

- ‌شرف الكعبة

- ‌اللذة مع الحكمة

- ‌احترام الأفكار

- ‌العلم عند الله

- ‌تحصيله:

- ‌المقدم منه والمتعين:

- ‌خطته:

- ‌نعيمه والغاية القصوى منه:

- ‌مسألة خفية من مباحث الفلسفة الإسلامية: وحدة الوجود

- ‌ابن سينا والحكمة المشرقية

- ‌[تمهيد]:

- ‌أصل الحكمة اليونانية المنقولة إلى العربية:

- ‌طريقة الشيخ ابن سيناء في الحكمة:

- ‌الحكمة المشرقية:

- ‌الكتاب المعنون "منطق المشرقيين

- ‌الإنسان على الأرض

- ‌عمر الإنسان: ماذا أردت

- ‌أصول التقدم والمدنية في الإسلام

- ‌[مقدمة]

- ‌ما هو الإسلام

- ‌[التأسيسات الأصلية]

- ‌[وحدة النوع الإنساني: ]

- ‌ظهور الإسلام

- ‌واجب المسلمين أن يقتنعوا بهداية الإسلام

- ‌واجب المسلمين: النصيحة

- ‌ما هو النصح والنصيحة

- ‌اضطلاع الناصح بحق النصيحة:

- ‌قبول المنصوح للنصيحة:

- ‌الرفق بالحيوان في الإسلام

- ‌تحرير مسألة في علم الهيئة

- ‌المحْوَر الثّانِيفِي فِقْهِ السُّنَّةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلفِقْه الحَدِيْث

- ‌التعريف بكتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ونشأة علم الحديث

- ‌[تمهيد]:

- ‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الغرض من تأليف الموطأ

- ‌ما المراد بالحديث الصحيح

- ‌[نسخ الموطإ]

- ‌اسم كتاب "الموطأ

- ‌تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌[تقديم]:

- ‌ تعريف الحديث القدسي

- ‌صيغة رواية الحديث القدسي:

- ‌الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وبينه وبين غيره من الأحاديث النبوية:

- ‌مراجعة ما تضمنه كتاب "فتح الملك العلي

- ‌المراجعة الإجمالية:

- ‌المراجعة التفصيلية:

- ‌درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه: "جامع القضاء وكراهيته

- ‌[تمهيد: القضاء بين الترغيب والترهيب]:

- ‌[العدل أساسُ صلاح العمران]:

- ‌[شرح الحديث]:

- ‌الأسانيد المريضة الرواية: "حديث طلب العلم فريضة

- ‌أقوال الحفاظ في رجال سنده:

- ‌آراء الحفاظ في حالته:

- ‌[روايات الحديث]:

- ‌التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس

- ‌خلق النور المحمدي

- ‌متن هذا الحديث:

- ‌مرتبة هذا الحديث من الصحة:

- ‌نقده من جهة اللفظ:

- ‌نقده من جهة المعنى:

- ‌دفع إشكال في حديث نبوي: "سألتُ ربي

- ‌سند هذا الحديث:

- ‌[معنى الحديث]:

- ‌حديث: من سُئل عن علمٍ فكتمه

- ‌[سند الحديث]:

- ‌معنى الحديث:

- ‌[مسائل في فقه الحديث]:

- ‌حديث: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم

- ‌سند الحديث واختلاف ألفاظه

- ‌معنى الحديث:

- ‌تحقيق الخبر المأثور: "لا رهبانية في الإسلام

- ‌معنى الرهبانية:

- ‌لا صفر

- ‌شهر رجب

- ‌شهر شعبان

- ‌لا عزاء بعد ثلاث

- ‌تحقيق معنى لفظ العزاء

الفصل: إرسالَ القضاة، تخفيفًا من مشقة المتداعين وسرعةً بإنقاذ الحق المبين.

إرسالَ القضاة، تخفيفًا من مشقة المتداعين وسرعةً بإنقاذ الحق المبين. استقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا باليمن، وأولُ مَنْ استقضى بالمصر من الخلفاء علي رضي الله عنه، استقضى شُرَيْحًا بالكوفة أيامَ شغلته الخوارجُ بحروبها.

[شرح الحديث]:

" مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن هلم إلى الأرض المقدسة":

أبو الدرداء هو عُوَيْمر بن عامر الخزرجي، أحد الثلاثة الذين نزلوا دمشق من الصحابة مع بلال ومعاوية، توُفِّيَ سنة 31 هـ. ولِيَ قضاءَ القدس في خلافة عثمان وأمير الشام يومئذ معاوية، وقيل بل ولاه عمر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حكيم أمتي أبو الدرداء". (1) وسلمان الفارسي من رامهرمز. (2) قال في الاستيعاب: شهد [له] رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة في قوله: لو كان الدين أو العلم بالثريا لناله سلمان، وفي رواية رجلٌ من فارس، والمراد به سلمان. توفِّيَ سنة 35 هـ. شهد وقعة الأحزاب وهو الذي أشار أن تحصن المدينة بخندق يحيط بها. سلمان وأبو الدرداء آخى بينهما النبي صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار. وقد ورد دخولُ سلمان بيت أبي الدرداء، وأنه وجد أمَّ الدرداء متبذلة، وأنه لام أبا الدرداء على ذلك. وهما من الأربعة الذين شهد لهم معاذ إذ قال: "اطلبوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء،

(1) جزء من حديث بلفظ: "عويمر حكيم أمتي، وجُندب طريد أمتي يعيش وحده ويموت وحده والله يبعثه وحده"، البرهانفوري: كنز العمال، "كتاب الفضائل من قسم الأفعال"، الحديث 33132، ج 11، ص 644. قال المتقي الهندي:"عن أبي المثنى المليكي مرسلا".

(2)

وتقول العرب رامز اختصارًا، مدينة مشهورة من نواحي خوزستان، ما بين تستر وشيراز. تبعد اثنين وثمانين ميلًا إلى الجنوب الشرقي، وموقعها على نهر. فتحها المسلمون في خلافة عمر بقيادة النعمان بن مقرن سنة 17 من الهجرة. - المصنف.

ص: 396

وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام". (1) وباعتبار الشهادة النبوية لأبي الدرداء وسلمان، يكون الحوارُ الذي دار بينهما ملحقًا بالحديث النبوي؛ إذ هو دائر بين الحكمة والعلم المشهود بهما لهما.

"وهلم" اسم فعل، بمعنى أقبل إلي، يلازم حالة واحدة، فلا يتغير باختلاف المخاطَب به من تعدد أو تأنيث. استوفد أبو الدرداء سلمان لمساكنته رغبةً في جوار أهل الفضل من الأخلاء؛ لأنهم رهطُ الرجل الذين يعتضد بهم، وهم أنفع له من أقاربه المنافرين لشربه. فالعاقلُ في مواصلة أهل رأيه أرغبُ منه في مُجاورة أهل نسبه، وكذلك يكون الجوار خلة متى جلبه الود والاصطحاب. سئل الحكيم: أي الرجلين أحب إليك: أخوك أم صديقُك؟ فقال: إنما أُحِبُّ أخي إذا كان صديقي.

قال أبو الوليد الباجي في المنتقى: "قول أبي الدرداء: أن هلم إلى الأرض المقدسة؛ يريد المطهرة. والمقدس في كلام العرب المطَهَّر، وإنما أراد موضعًا من الشام يسمى المقدس، ومنه سمي مسجد إيليا: البيت المقدس، يريد المطهَّر. ومعناه أنه مطهر مما كان في غيره من المواضع من الكفر، وكان ذلك في وقت من الأوقات، فلزمه الاسم والوصف بذلك.

ويُحْتَمَل أن يكونَ معنى تقديسها [و] تطهيرها، أن فيها يُطهَّرُ من الذنوب والخطايا، فيكونُ معنى المقدَّس المقدَّسُ أهلُها. ويدل على صحة هذا التأويل قولُ

(1) أخرج الترمذي والحاكم - واللفظ للترمذي - عن يزيد بن عميرة أنه قال: "لمَّا حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا، قال: أجلسوني، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما (يقول ذلك ثلاث مرات)، والتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهوديًّا فأسلم. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة"". سنن الترمذي، "أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث 3810، ص 861؛ المستدرك على الصحيحين، "كتاب العلم"، الحديث 334، ج 1، ص 167؛ "كتاب مناقب الصحابة"، الحديث 5827، ج 3، ص 511. قال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب".

ص: 397

سلمان: "إن الأرض لا تُقَدِّس أحدًا"، ولا تطهره من ذنوبه، "وإنما يقدسه عمله". فيكون على هذا التأويل إنما وُصف أهلُ بيت المقدس بذلك في زمان عملوا فيه بطاعة الله تعالى، وكان كثيرٌ منهم أنبياء وسائرُهم أتباعًا للأنبياء". (1)

وأقول: تقديس البقاع مثل تقديس الأوقات، هو أمر جعلي من الله تعالى تبعًا لما رسم لها من إيقاع الأعمال الصالحة التي أهمها التوحيد. وقد كان المسجد المقدس ثانِيَ بيت وضع للناس لإعلان توحيد الله وتنزيهه، وذلك أساسُ فضائل الأعمال.

"فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا": لم يشتمل جوابُ سلمان على تقرير لما يخالف اعتقاده، كالذي تشتمل عليه مخاطباتُ الناس ورسائلُهم من الإطراء لما قد يعتقده المرء فاسدًا بعلة المداهنة التي علق عليها الناس اسم المداراة، فعدموا بذلك فائدةَ النصيحة والتواصي بالحق.

ذلك أن سلمان وأمثاله صدقوا ما عاهدوا الله من بذل النصيحة لكل مسلم، وكذلك يكون الأمر بين أقوياء النفوس وراجحي الأحلام أن لا يكتموا شيئًا يرون منه صلاحًا ونصحًا؛ لأن الكذب هو علة انقلاب الحقائق وموجب ارتفاع الاطمئنان. وذلك يسبب التخاذل والتفريق، فلا يرجى اتحادٌ ما دام هذا سائدًا في أمة.

قوله: "إن الأرض لا تقدس أحدًا"، هو رد لِمَا تضمنه كلامُ أبي الدرداء حين دعاه إلى سكنى الأرض المقدسة؛ لأن الصفة تؤذن بالتعليل، فيتضمن أنه يكتسب من السكنى بها تقديسًا في نفسه. وقصد سلمان أن يدفع ما وقر في صدور الناس من الشعور بأن المرء قد تغني عنه ملابساتُه، حتى الأرض التي هو فيها. وأبو الدرداء وإن كان منزهًا في نظر سلمان عن اعتقاد هذا لعلمه وصحبته، ولكنه رأى لسانه جرى على ما تجري به ألسنةُ العموم، أو أنه رام ترغيبَه في القرب منه بمرغِّبٍ ما، وهو فضل الأرض التي يسكنها استكمالًا للفضيلة.

(1) الباجي: المنتقى، ج 8، ص 162 - 163.

ص: 398

"وإنما يقدس الإنسان عمله": جاء بقضية كلية بعد أن نفى التقديسَ في جزئيته؛ لأن تلك الجزئية المنفية ليست أوْلَى الجزئيات بثبوت الحكم بحيث إِنْ نُفي عنها اقتنع المتكلِّم عن نفي ما عداها من الجزئيات، مما الشبهةُ به أشدُّ والخطأ إليه أسرع، نحو قرابة من المقدس أو صلة به.

فأورد هذا الحصر بإنما تنبيهًا على تعميم القضية، فقصر بذلك صفة تقديس الإنسان على العمل لا تتجاوزه إلى غيره، وهو قصر حقيقي. وليس ورود القصر بعد النفي بجاعله إضافيًّا؛ لأن النفي إنما يلمح إلى الاعتقاد المردود الباعث على سلوك طريق القصر. على أن النفي هنا متقدم، وهو عند التقديم صريحٌ في أن الداعي إلى الخطاب بالقصر يفيد. ووِزانُه وزانُ "إنما الولاءُ لِمَنْ أعتق"(1) بعد كلام أشار إلى أن البائع لا يستحقه، ولذا اتفق جمهورُ الفقهاء على أن لا ولاءَ إلا لمن أعتق.

"وقد بلغني أنك جُعِلْتَ طبيبًا تداوي": أشار إلى ولاية أبي الدرداء قضاء بلد القدس. ومراد سلمان ظاهر؛ إذ قد علم أبو الدرداء أنه لم يكن طبيبًا، فهو يعلم أن سلمان أراد تمثيلَ حاله في القضاء بحال الطبيبِ أو المتطبِّب. وسمي القاضي طبيبًا على طريقة الاستعارة، لمشابهة القاضي الطبيبَ في إصلاح حال البشر وإزالة أدواء الظلم. فإن كان الطب يصلح مزاج المرضى، فالقضاء بالحق يصلح مزاج العالم

(1) عن ابن شهاب، عن عروة: أن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءتني بريرةُ فقالت: كاتبتُ أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أُوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحبَّ أهلُك أن أُعِدْها لهم ويكون ولاؤكِ لي، فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم فأبو ذلك عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاءُ لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فاخبرت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". صحيح البخاري، "كتاب البيوع"، الحديث 2168، ص 346 - 347؛ صحيح مسلم، "كتاب العتق"، الحديث 1504 (8)، ص 580.

ص: 399

أجمع، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]؛ لأن الناس إن اطرد بينهم القضاء بالحق زالت طماعيتُهم في استلاب حقوق الغير، فاستقاموا من تلقاء أنفسهم متى علموا أن لا غاية يجتنونها من وراء الظلم.

فأما متى كان القضاء مختلًّا، فإن للظالم أمنيةَ الانزواء تحت التخفيف. هب أن الجور كان يقضي أن يشدد على البريء تارة، فإن ذلك لا يرفع المظالم؛ لأن النفوس عند الشهوات تتمسك بالطمع، ولهذا حظرت الشريعةُ الشفاعةَ لِمَنْ بلغ الإمامَ في الحدود وغيرها. وجاء بكلمة "تداوى" ترشيحًا للاستعارة وإيماءً إلى وجه الشبه، إذ كانت الاستعارةُ من الغرابة بالمكان الذي ربما أَبْهم أمرَها على السامع.

"فإن كنتَ تُبرئ": طرد الاستعارة، ومن محاسن التشبيه أن يكون مطردًا في جميع أصوله وفروعه. وأراد بكونه يبرئ المقدرةَ على إصابة الحق، وحملَ الناس عليه بتنفيذه فيهم، وتحملَ مصاعب القضاء التي أقلُّ ما فيها أنه يقضي على ذويه وأصحابه وهو كاره وهم كارهون. قال الباجي:"يريد بالإبراء هنا إصابةَ الحق ودفعَ الباطل؛ لأن الباطل [وما يتضادُّ به الشرعُ] هو الداءُ الذي يَسْأل عنه المستفتي لإزالته". (1)

"فنعمَّا لك": نعم فعل غير متصرف عند محققي النحاة، وتدخل عليها "ما" التي هي في الأصل معرفة غير موصولة هي بمعنى الشيء، فتدغم ميم "نعم" في ميم "ما". والغالب أن يقع بعدها ضميرٌ مخصوص بالمدح، نحو قوله تعالى:{فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]، فإن وقع فعل بعد "ما" صارت موصولة، نحو:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58]، فلا يُذكر بعدها مخصوصٌ بالمدح استغناءً عنه بما أشعر به من الكلام. وإذا وقع بعد "ما" حرفُ جر، كما هنا، صح أن يُجْعَلَ صلة "ما" أو صفةً لها، أي نعم الشيء لك أو نعم الذي لك. وفي الحديث: "بئس ما لأحدهم أن يقول: نَسِيتُ آية

(1) الباجي: المنتقى، ج 8، ص 163.

ص: 400

كذا وآية كذا". (1) إلخ. والمعنى: فنعم الشيء لك القضاء بين الناس، لما فيه من إيصال الحق.

"وإن كنت متطببًا فاحذَرْ أن تقتل إنسانًا": أراد بالمتطبب هنا المتفعل المتكلف من الطب المراد هناك، أي غيرَ عالمٍ بوجوه القضاء، ورشح هاته الاستعارة بقوله:"أن تقتل إنسانًا". وقد شبه بقتل المتطببِ مريضَه ما يُحدثه قضاءُ القاصر من ضياع الحقوق المفضي إلى الفساد، فيكون الترشيح مستعارًا للازم المشبَّه من لوازم المشبه به على نحو:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، فيفيد الترشيحَ بلفظه والاستعارةَ بمعناه وقرينته.

وأراد بالمتطبِّبِ الذي ليس على بينةٍ من أمره، فهو يقصد الحقَّ فيقع في الباطل، كشأن كلِّ مَنْ لم يكن متحقِّقًا من شيء. فسلمان لا يَخْشى على أبي الدرداء الْجور، ولا يحذره منه؛ لأنه آمِنٌ عليه منه لعدالته، إذ هو من أصحاب رسول الله، وهم عدول. وإنما خشي عليه أن لا يتأمل جيدَ التأمل في بعض القضايا، مبالغةً في النصح له، وذلك لأن القضاء بغير الحق جهلًا يساوي قصدَ الجور في عدم الوصول إلى الحق.

وفي حديث النَّسائي عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"القضاةُ ثلاثة: اثنان في النار، وواحدٌ في الجنة. رجلٌ علم الحقَّ فقضى به فهو في الجنة، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار، ورجلٌ جَارَ في الحكم فهو في النار". (2)

(1)"حدثنا محمد بن عرعرة: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آيةَ كيت وكيت، بل نُسِّي، واستذكروا القرآن، فإنه أشدُّ تفَصِّيًا من صدور الرجال من النعم". صحيح البخاري، "كتاب فضائل القرآن"، الحديثان 5032 و 5039، ص 901 - 902؛ صحيح مسلم، "صلاة المسافرين وقصرها"، الحديث 790، ص 285.

(2)

سنن ابن ماجه، "أبواب الأحكام"، الحديث 2315، ص 331؛ سُنَنُ أبي دَاوُد، "كتاب الأقضية"، الحديث 3573، ص 567 (بترتيب مختلف لبعض ألفاظه).

ص: 401

وهذا يدل على اشتراط العلم في القاضي. والعلم مهما أُطلق في لسان أهل الأصول والمتقدمين، فإنما يُراد به أصدقُ معانيه، وهو الفكرُ والنظر. فلا يصح عند الأئمة ولايةُ قاضٍ عامِّيٌّ أو مقلِّدٍ لا يستطيع النظرَ في مدارك الأحكام أو في مسائل الخلاف، قال عبد الوهاب في التلقين:"ولا يُستَقْضَى إلا فقيهٌ من أهل الاجتهاد لا عامي مقلِّد؛ [لأنه يحتاج فيما ينزل من الحوادث إلى الاجتهاد. فلا يصح أن يكون عاميًّا؛ لأنه ليس بمجتهد] ". (1)

وشرح المازري فقال: "وقد قال مالك في كتاب ابن حبيب: فإن لم يكن عالم، فعاقل ورع؛ فإنه بالعقل يقف وبالورع يسأل. فهذا قول ابن حبيب سهل في ولاية القضاء المقلد، ولكنه لم يصرح بجواز هذا مع القدرة على قاض نظار، بل أشار إلى كون الضرورة تدعو إلى ولاية مقلِّد. ولا خلافَ أن ولاية النظار أجدرُ من ولاية المقلد، وإنما الخلافُ هل تصح ولايةُ المقلد وتنفذ أحكامه أم لا؟ فيمنع ذلك الشافعي، وهو الذي يحكيه أئمةُ مذهبنا عن المذهب، ويجيز ذلك أبو حنيفة ويأمره بمشاورة النظار. واحتج أصحابُنا وأصحابُ الشافعي بقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وبقوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].

أما عصرُنا هذا، ففي إقليم المغرب لا يوجد مفتٍ نظَّار، فالمنعُ من ولاية المقلد تعطيلٌ للأحكام، ولكن تختلف أحوال المقلدين. ثم إذا كان النظر شرطًا، فهو يتضمن المنعَ من اشتراط الإمام على رجل نظار أن لا يحكم إلا بمذهب أحد الأئمة؛ لأن الرجل إذا أداه اجتهادُه إلى الصواب وأُمِر أن يَقضيَ بخلاف ما عنده فقد صار مأمورًا بمخالفة الحق في اعتقاده. فإذا انعقدت الولايةُ على هذا الوجه، فإن هذا عقدٌ

(1) البغدادي، القاضي أبو محمد عبد الوهاب: التلقين في الفقه المالكي، تحقيق محمد ثالث سعيد الغاني (بيروت: دار الفكر، 1415/ 1995)، ص 530.

ص: 402

لا يجوز، وينبغي فسخُه ورده. وذهب بعضُ الناس إلى أن القضاء على هذه الصفة لا يُفسخ، بل يمضي ويبطل الشرط؛ لأن الفسادَ في الشرط لا في التولية". (1)

وقال أبو بكر ابن العربي: "الذي يقضي بالحق، إن كان عن علم فهو الذي يقوم عن يمين الرحمن، وإن كان عن تقليد فلا يجوز أن يُتخذ قاضيًا إلا عند الضرورة، فيقضي حينئذ في النازلة بفتوى عالِم رآه ورواه (2) بنص النازلة. فإن قاس على قوله أو قال: يجوز من هذا كذا أو نحوه فهو متعد". (3) وقال خليل: " [أهل القضاء عدلٌ ذكَرٌ فطن] مجتهدٌ إن وجد، وإلَّا فأمثلُ مقلد". (4)

وشذ ابن رشد وابن زرقون (5) فقالا: ذلك مستحب، صرح بذلك في المقدمات. (6)

(1) لم يتيسر لمحقق كتاب "شرح التلقين" في طبعته الجديدة (الصادرة عن دار الغرب الإسلامي ببيروت) العثور على كامل أجزاء الكتاب، بها ذلك الجزء الذي يتضمن باب القضاء، ولذلك لم يتسن لنا توثيق كلام المازري الذي استشهد به المصنف هنا.

(2)

كذا في الأصل، ولعل الصواب: رآه ورواها. والله أعلم.

(3)

ابن العربي: المسالك، ج 6، ص 225. وقد ساق المصنف كلامَ ابن العربي ببعض تصرف وسقناه بعبارته.

(4)

المالكي، خليل بن إسحاق بن موسى: مختصر خليل في فقه الإمام مالك (القاهرة: مطبعة مصطفى بابي الحلبي وأولاده بمصر، 1341/ 1922)، ص 243.

(5)

أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أحمد بن زرقون، الأنصاري (502/ 1108 - 586/ 1190)، فقيه أندلسي مالكي، عارف بالحديث. ولد في شريش، واستقر بإشبيلية، ومات بها. كان مسند الأندلس في وقته، ولِي قضاءَ شلب وقضاء سبتة، وحُمِدت سيرتُه واشتهرت نزاهته. له كتاب "جوامع أنوار المنتقى والاستذكار" في شرح موطأ الإمام مالك.

(6)

بعد أن بين ابن رشد الجد أن للقضاء خصالًا مشترطة في صحة الولاية وخصالًا غير مشترطة في صحتها ولا يوجب عدمُها عزل القاضي عن الولاية، ذكر أن له خصالًا مستحبة كثيرة "منها أن يكون من أهل البلد، ورعًا، عالمًا يسوغ له الاجتهاد، غنيًّا ليس بمحتاج، إلخ". ابن رشد القرطبي، أبو الوليد محمد بن أحمد: المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، تحقيق محمد حجي وسعيد أحمد أعراب (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1408/ 1988)، "كتاب الأقضية"، ج 2، ص 258.

ص: 403

وعليه قال ابن عاصم: "ويُستحب العلم فيه"، (1) فلما اطلع على هذا اللفظ مَنْ لا وقوفَ له على اصطلاح الناس في العلم ظن أن المستحبَّ العلمُ المقابل للجهل.

هكذا يتم تشبيه سلمان؛ لأن العالم بالحق يقضي وهو عالم أن ذلك هو الصواب، فهو كالطبيب المعتمد فيما يشير به على تجربة النفع. أما المقلد فهو كرجل بلغه أن الدواء نافع ولم يجربه، أو اقتضب دواءً من تلقاء نفسه يريد أن يجربه في ذلك المريض، فهذا إذا ناول المريضَ شيئًا لم يكن آمنًا من سوء المغبة.

إذا نظرنا إلى الشروط الواجبة في القاضي، نجدها ترجع إلى دفع وصف المتطَبِّب عنه وهي:1. التكليف؛ لأن غير المكلف قاصرُ النظر قطعًا. 2. والذكورة لضعف المرأة عن الأخذ بالحقوق ونزوعها إلى الرحمة والشفقة. 3. والحرية لأن المملوك لا يُرجى لإقامة الحق ما دام يَخاف غيرَه، فربما قضى بهوى سيده. هذا هو الذي تشدون عليه من سر اشتراط الحرية في القاضي، ولا تُصْغُوا إلى ما يذكرونه من أن الرق أثر الكفر؛ لأنه لو صح لبطل استقضاء المولى. 4. والعدالة، وأمرها واضح. 5. والسلامة من فقد الحس أو المنطق؛ لأنه لا يُتَوصَّل إلى الحقيقة إلا بالفهم والاستفهام.

(1) جزء من صدر البيت السابع عشر من نظم أبي بكر ابن عاصم المعروف "تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام"، وتمام البيت:

وَيُسْتَحَبُّ العِلْمُ فِيهِ وَالوَرَعْ

مَعَ كَوْنِهِ الأُصُولَ لِلْفِقْهِ جَمَعْ

التسولي، أبو الحسن علي بن عبد السلام: البهجة في شرح التحفة ومعه حُلى المعاصم لفكر ابن عاصم، نشرة بعناية محمد عبد القادر شاهين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418/ 1998)، ج 1، ص 38. وانظر كذلك (مع بعض الاختلاف): التوزري الزبيدي، عثمان بن المكي: توضيح الأحكام على تحفة الحكام (تونس: المطبعة التونسية، 1339)، ج 1، ص 20 (والتوزري صاحب هذا الشرح أحد علماء جامع الزيتونة، كان من زملاء المصنف، وقد أُجيز كتابُه هذا من قبل النظارة العلمية للجامع التي كان ابن عاشور من أعضائها، عليهما رحمة الله).

ص: 404

وبقي شرط الاتحاد على خلاف فيه، فدليلُ مشترِطه أنه أَعْوَنُ على اتحاد الأحكام والسلامة من التشويش على الخلق. (1)

"فتدخل النار": لقد أبدع كلامُ سلمان في التفنن؛ إذ تخلص من المشابهة التمثيلية على طريقة الخطابة البلاغية إلى المشابهة الشرعية المسماة بالقياس، فرَتَّب على تمثيل القضاء بالطب تمثيلَ القضاء بغير الحق بقتل النفس، تحذيرًا من العقاب المشهور لقاتل النفس، وهو دخول النار بجامع إضاعة الحق فيهما. ولأن القضاء قد يتعلق بالقصاص، فإذا تساهل فيه قتل نفسًا خطأ قريبًا من العمد لأجل التساهل.

وقد بلغ سلمان النصيحة والتذكير بخوف الله تعالى، فاستقاموا وأقاموا العدل، وسادوا العالم. فلما انقلبت الحال في عقائد الناس إلى المماهلة (2) في أمر الله، والاستخفاف بالوعيد تحت اسم الرجاء وما هو إلا الإرجاء، واتكل الناس على الطمع في المغفرة، آل بهم الأمرُ إلى الإدبار. قال حجةُ الإسلام أبو حامد في كتاب الرجاء من إحياء علوم الدين:"المحبوبُ المتوقَّع لا بد وأن يكون له سبب، فإن كان انتظارُه لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء عليه صادق. وإن كان ذلك انتظارًا مع انخرام أسبابه واضطرابها، فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء. وإن لم تكن الأسبابُ معلومةَ الوجود ولا معلومةَ الانتفاء، فاسم التمني أصدقُ على انتظاره؛ لأنه انتظار من غير سبب". (3) ومعرفة الأسباب تسهل لمن يعرض نفسه

(1) قال ابن رشد الحفيد: "ومن شرط القضاء عند مالك أن يكون واحدًا، والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رسم لكل واحد منهما ما يحكم فيه. وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يَجز، وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان: الجواز والمنع". ابن رشد القرطبي، القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق هيثم جمعة هلال (بيروت: دار المعارف، ط 1، 1427/ 2006)، ص 856 - 857.

(2)

المماهلة هنا بمعنى التباطؤ والإهمال وعدم الاكتراث.

(3)

الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: إحياء علوم الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 1423/ 2002)، ج 4، ص 190. هذا وقد ساق المصنف كلام الغزالي بشيء من التصرف وأوردناه كاملًا.

ص: 405

على كتاب الله تعالى، ولا يصغي إلى ما يقر به الغرورُ من الاستخفاف وتهوينِ أمر الله عند عامة عباده.

"فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما وقال: ارجعا [إليَّ] أعيدا علي قضيتكما": هذا أصلٌ عظيم في أن المرء لا يأمن من الخطأ ما بلغ به العلم، وأنه يجب تعقبُ الأحكام لإزالة الخطأ عنها. وإن تقرر الخطأ للقاضي إذا لاح له فاستنكافه عن نقض حكمه شرُّ الجورين، فإن جُعِل ذلك إليه بالولاية فظاهر، وإن لم يُجْعَل إليه نقضُ أحكامه وجب عليه رفعُها لمن إليه النقضُ والإبرام.

"متطبب والله": قد يقف النظر هنا، ريثما يستبين أمرَ هاته الكلمة. فإنه يرى أبا الدرداء بعد أن نصح له سلمان بأن المتطبِّبَ لا يأمن أن يقع فيما يُدخله النارَ وقَبِلَ النصيحةَ منه، أخبر عن نفسه بأنه متطبِّب، فيتساءل: لماذا لم يترك هاته الخطة لطبيب؟ فيظن أن هاته كلمةُ تواضعٍ منه، ولكنه ما يقدم خطوته حتى يرى يمينَ أبي الدرداء على ذلك الذي يعين كلامه للحقيقة.

وقد كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتادوا من قدوتهم الأعظم العصمة، فصاروا على وجلٍ من اقتحام القضاء بين الناس مع انتفاء العصمة، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه:"أيُّ أرض تُقِلُّني، وأيُّ سَماءٍ تُظِلني، إن قلتُ في كتاب الله شيئًا من رأيي؟ "(1)

فكذلك أبو الدرداء لمَّا اعتبر بكلام سلمان، رأى أن التطبُّبَ لا يفارق غيرَ المعصوم، فقال:"متطبب والله". فينبغي أن يكون مرادُه تطببًا غير التطبب الذي أراده سلمان. وأحسب أنه أراد به عدمَ أمن المجتهدين من الخطأ في اجتهادهم، فهو لا يسلم من الوعيد إلا إذا بذل مقدارَ استطاعته مع مظنة المقدرة والتأهل من نفسه؛ لأن الخطأ لا ينافي العلم والنظر، ولا يُلَامُ في ذلك إلا حيث يكون الخطأ في محل

(1) الطبري: جامع البيان، ج 1، ص 72، وفيه:"إذا قلت في القرآن ما لا أعلم"، بدل:"إن قلتُ في كتاب الله شيئًا من رأيي".

ص: 406

الوضوح والحياد عن الدليل إلى غيره، أو مع التقصير في تقصِّي النظر ومعرفة الحجج. فهو بإعادة النازلة يَستدرك ما عسى أن يُلِمَّ به من خطأ على غرة. ولو كان أبو الدرداء شاكًّا في كفاءته، لمَنعتْه عدالتُه من أن يليَ هذا الأمر.

وفي كلام أبي الدرداء ما يصدق قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه "إنه حكيم"، فقد دل على سعة صدره وترحابه بما يُسدى إليه من النصائح. وذلك آيةُ الكمال ومحبة الحق؛ لأن النفوس الكبيرة لا يهمها إلا المشيُ على الصواب أبدًا، فهي لا تحب أن تخالفه، ولذلك تبتهج بكل ما يجنبها الضلالَ عنه. أما النفوسُ المستضعفة والعقول السخيفة، فإنها تستنكف عن شعور الناس بحالها؛ إذ ليس لها ما تُقنع به نفسَها إلا المغالطة والتناسي، فهي لا تستطيع كمالًا من شعورها بالعجز عنه. فلذلك يكون ذكرُه لها تعبًا ونكدًا، بخلاف الأخرى فإنها إن لاح لها خطأٌ في بعض أعمالها تعزت بالصواب في بقيتها، فأنشد حالُها قولَ أبي الطيب:

ومَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا

كَفَى الْمرءَ نُبلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ (1)

قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125]. وفي ملازمة أبي الدرداء لهاته الكلمة إشعارٌ بتحفظه على النصيحة، حتى لقد اتخذ لفظَها شعارًا له لا يفارقه ذكرُه في كل قضية.

(1) هذا البيت لَمْ أجده في ديوان المتنبي بشروح البرقوقي والواحدي والعكبري وأبي العلاء المعري، ولا في بعض النشرات غير المحققة من الديوان. وقد ذكره أبو الهلال العسكري في ديوان المعاني، ولم ينسبه لأحد. والراجح أنه لعلي بن الجهم (188 - 249 هـ)، وقد نسبه إليه أبو منصور الثعالبي: المنتحل، تحقيق أحمد أبي علي (الإسكندرية: الطبعة التجارية، 1316/ 1901)، ص 100. وعنه نقله محقق ديوانه في تكملة الديوان. ديوان علي بن الجهم، تحقيق خليل مردم بك (بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدة، ط 2، 1400/ 1980)، ص 118.

ص: 407

وكذلك حكماء الناس إذا اهتموا بأمر، ربما اتخذوا اسْمَه شعارًا لهم، حتى لقد كانت تُعرف أخلاقُ الرجل منهم في اختيار نقش خاتمه. وهذه سنةُ كلِّ قول، إنما يُعتَدُّ به إذا تبعه عمل. وبمقدار ذلك يكون النفعُ والتأثير، فأيُّمَا قولٍ أو علم لم يتبعه عملٌ فهو تبعاتٌ على صاحبه. ولهذا تعوَّذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، (1) أي لا ينشأ عنه عمل. وقد كان من دعاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدنِي علمًا". (2) والله أعلم.

(1) عن زيد بن أرقم. قال: "لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: "اللهم! إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهم! آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"". صحيح مسلم، "كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار"، الحديث 2722، ص 1046؛ سنن الترمذي، "كتاب الدعوات"، الحديث 3482، ص 799؛ سُنَنُ أبي دَاوُد، "كتاب الصلاة"، الحديث 1548، ص 251؛ سنن ابن ماجه، "كتاب السنة - المقدمة"، الحديث 250، ص 38.

(2)

أخرج الترمذي عَن أَبي هُرَيْرَةَ أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ انفعني بما علَّمتني، وعلِّمني ما ينفعُنِي، وزدني علمًا، الحَمْدُ لله على كُلِّ حالٍ وأعوذُ بالله منْ حالِ أهلِ النَّارِ". قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ من هَذَا الوَجْهِ". سنن الترمذي، "كتاب الدعوات"، الحديث 3599، ص 821؛ سنن ابن ماجه، "كتاب السنة - المقدمة"، الحديث 251، ص 38 (بدون: وأعوذُ بالله منْ حالِ أهلِ النَّارِ).

ص: 408