الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللذة مع الحكمة
(1)
سبرنا أغراضَ الإنسان، فوجدناه ظَمِئًا إلى ملائِمات نفسه كيفما اتفق، ومتى اتفق، وأين اتفق، غيرَ باحثٍ عما يتبع ذلك من المضار، فأردنا أن نبين هنا حقيقة اللذة، ثم نبحث عن مواقعها، وننظر فيما إذا كانت لذةً دائمة في هذا الكون الجثماني.
اضطربت آراءُ الناس - حتى الفلاسفة - في تشخيص معنى اللذة، وكلَّت أقلامُ الكتاب والشعراء دون ذلك. والذي نختار من بين كثرتها رأيان: أولهما يرى أن اللذة هي إدراكُ النفس ما يلائمها وتراه حسنًا، وثانيهما أنها التخلُّصُ من آلام طبيعية أو عارضة.
ونحن إن نقدنا الأقوال، ولم نذهب مع تَشَعُّبها، لا يعترضنا شكٌّ في الحق أن اللذة إدراكُ النفس ما يلائمها على ما رأى أهلُ الرأي الأول، وأن مَنْ حصر اللذةَ في التخلص من الألَم لَمْ يستقرئ في حدها استقراء تامًّا، كما يجب أن يكون التحديد للموجودات، إنما نظر إلى نحو النوم والأكل والشراب من كل لذة دعا إليها احتياج فطري، وضيق في دائرتها حتى كاد أن يخرج المعارف كلها عن اللذة.
نحن لا ننكر أن أكثر اللذات لا يفارقه الشعورُ بمبدأ ألَم، ولو بالأقل ألَم الشوق إلى نيل ما يلائم النفس، حتى ننكرَ على هذا القائل قولَه كله. ولكنَّا نعلم أن من اللذات ما ينساق إلى المرء بدون فكر سابق، وربما وقع منه موقعًا لا يقعه لو كان مترقَّبًا من قبل؛ فماذا ترون في هذا الإحساس؟
(1) السعادة العظمى، المجلد 1، العدد 19/ 20، 16 شوال 1322 هـ (ص 304 - 310).
انقسمت اللذاتُ بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية وعقلية ومركبة منهما. والنظر في التقسيم إلى الداعي والحاصل جميعًا: فإن كان الداعي الحس وهو الذي تحصل به، فهي الحسية. وإن كان العقل، فهي العقلية. وإن كان الداعي العقل وتحصل بالحس، فهي المركبة. (1)
أما الحسية فأمرها خطير، ومطالبها محدودة، يسهل استيفاء ما تقتضيه في الإمكان. (2) ومتى قضى الحسُّ منها شيئًا، كان الزائدُ عليه عنده ألمًا. وأما العقلية، فهي حركة الفكر في المعقولات التي تطمح إليها النفس، وشعوره بالحقائق التي يجد عند الشعور بها مسرةً لا يعدلها عنده شيء، وهذه يجدها العقل طوعه، متى بالغ في البحث وجدها منطاعة لا تقف به عند حد.
أما إن أردتم التعبَ الشديد والمشقةَ في السرور، فاطلبوا قسمَنا الثالث من أقسام اللذة، أعني ما تطلبه النفس ويقتضيه البدن، تجدوا خرطَ القتاد دونه سهلًا، ويفرضه في المحبة الحبُّ العشقي؛ فإن الروح إن تعلقت به لقيت في سيرها من المكدِّرات ما يمرر حلاوة منالها منه، إذا كانت مطالبُ الروح غيرَ واقفة عند مدى، فإن سلطان وهم المحبة يتسلط عليها فيناجيها أن تطمع باتحاد الروحين، وأن تروم المقارنة الدائمة، والرِّضا الأبدي.
وهكذا يغادرها تستهتر بأماني لا يتناهى غرامُها، ولا يبرد أُوارُها، ولكنها تجد طريقَ الاقتضاء هذا البدنَ القادر في مبدئه، العاجز في غايته، الذي تسئمه المداومة، وتعوقه الموانع؛ فماذا عساه حقق من مطالب هاته الروح؟ وكم ذا يمكنها أن تقضي من استخدامه؟ لا شك أنها سيكون لها مثلًا في هذه الحال قولُ أبي الطيب:
(1) أما القسم الرابع في التقسيم العقلي، فهو مهمل لعدم وجود لذة يدعو لها الحس وتحصل بالعقل إلا المحبة الأفلاطونية على تعذر أو ندرة فيها. - المصنف.
(2)
قلنا في الإمكان لأن أمر تحصيلها ممكن ولكنه ربما لم يكن موجودًا، وأشرنا إلى ما يأتِي من أن المطالب النفسية منها ما يتعذر تحصيله فهو غير ممكن أبدا. - المصنف.
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا
…
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ (1)
فإذا نظرنا بعد هذا إلى المقدار الذي يمكن الإنسان تناوله من غير القسم الثاني، نجد أن لا شيء من الملاذ الحسية بلذَّة حقيقية، وإن تموه على عقول جمهور الناس؛ فإن هاته الملاذَّ - على ما فيها من توقفٍ على تسويغاتِ الدين والصحة والعادة والاحتياج إلى مكنة الفرض - هي واقفة عند غاية. ثم ماذا ترى عند البلوغ إلى غايتها؟
ترى الهيضةَ (2) إن أَكَلتْ، والامتلاء إن شَرِبتْ، والندامة إن داعبتْ، والعجز إن استزادت. غير أن الذي يريد أن يغض عن هذا كله، ولا يعتبر من حال اللذات إلا أوقاتَ اقتضائها، ويقول ما الإنسان إلَّا ابنُ ساعته، وما هو بمفكر في التي تليها؛ نقول له: انظر إليك وأنت تزعم أنك في لذاتك الحالية، (3) وجرِّدْ عقلَك مما تسلط عليه من الوهم، تَجِدْ نفسك في لذاتك كلها محتاجًا إلى معونة غيرك. وإن كنت عاجزًا عن تحضير أسباب لذاتك، فليتك تشعر أنك تفقد واحدًا أو ينقبض لك آخر! وفي الأقل تفكر في انتهاء اللذَّة ومفارقتها، وكيف تجدك في حالك هاته؟ ألا تجدك كما قال الشاعر:
فَأَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ
…
وَأَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ؟ (4)
(1) البيت من قصيدة بعنوان: "كل يوم لك احتمال"، قيلت في مدح سيف الدولة، وهي من بحر الخفيف. البرقوقي، عبد الرحمن: شرح ديوان المتنبي (بيروت: دار الكتاب العربي، 1407/ 1986)، ج 4، ص 64.
(2)
الهيضة: معاودة الهم والحزن، والمرضة بعد المرضة.
(3)
يبدو في الكلام شيء من اضطراب، إما بزيادة أو نقصان؛ فإن كانت الأولى، فعبارة "تزعم أنك" حقها الحذف، وإن كان الثاني فهناك حاجة إلى إضافة عبارة من مثل "تنعم" بعد عبارة "لذاتك الحالية".
(4)
البيت للشاعر الحماسي وَرْد بن عمرو الجعدي، وصدره على غير ما أورده المصنف، وهو من مقطوعة من بحر الوافر يقول فيها: =
حُكِيَ أن الناصر لدين الله - ملك قرطبة - كتب بخطه أنه لم يَصْفُ له من زمان حكمه على ذلك البلد الطيب في ذلك السلطان القاهر الذي دام خمسين سنة إلا ساعات، تلفق من جميعها مقدارُ أربعة عشر يومًا. لذلك قال الأسطوانيون (1) من الفلاسفة:"إن الدنيا دارُ شقاء وبلاء".
دعْ عنك هذا، ووَلِّ وجهَك شطرَ اللذات الروحية والكمالات العقلية تجدِ المرء متى التذَّ بشيء منها لا يقف عند منتهى، فهو كلَّ الزمان مبتهجٌ بما يعلمه من العلوم ويستفيده من الآداب. تذكرة، وتُزوَى له. وهذا حال الحكيم: فهو دائمًا ينظر نفسه فيستفيد علومًا، ويلمح العالم فيزداد الدنيا فلا تهزه، وهو مسرور بإقبالها، وتدبر عنه وهو مسرور بما يعلم من إخلافها. ربما نام ليلةً وهو يرصد طلوعَ الصباح للرجوع إلى لذة التفكير التي قطعها عنه النوم، فإن حاول أمرًا، أو تم له، فلا تسلْ عن لذته منه، وإن لم يتم فقد حَصَّل - في الأقل - معرفةَ طريقٍ لا يهدي إليه. ومتى أَلَمَّ به ضرر من مصاب، استهون به في فائدة التجربة، كما يرى العالِمَ النحرير فيسره مرآه لما ينال من علمه، كذلك يرى الأحمقَ الجاهل فيعلمه، وبالأقل يأخذ الحكمةَ من حاله بطريق الحضارة، فرب خطأ جرَّ إلى صواب.
إذن فالحكيم لا يتنكد أبدًا، وهو مسرورٌ في كل وقت. وسببُ ذلك علمُه بحقيقة كل شيء؛ لأنَّ هاته الدنيا وإن كانت خضرة حلوة، فإنها تعقب تفاهةً أو
= وَمَا فِي الخلقِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ
…
وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلِّ حِينٍ
…
مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوقًا إِلَيْهِمْ
…
وَيبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّنَائِي
…
وَتَسْخُنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي
المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1339 (الحماسية 540).
(1)
هم أصحاب زينون [zeno] الفيلسوف اليوناني الزاهد المولود سنة 490 قبل المسيح، وهو الذي لما مات بأثينا صاغوا له تاجًا من الذهب وضعوه عل قبره، تنويهًا بقدره. وقال بعضُ خطبائهم في ذلك: "ليعلم أن أهل أثينا يكرمون أهلَ الفضل أحياءً وَأمواتًا. أما كلمة الأسطوانيين، فالتحقيق أنها مأخوذة من اليونانية. - المصنف.
مرارة في فم مجتنيها، ومن ثَمَّ لا يوجد فيها سرورٌ متساوي الأطراف، وقد كادت مصالِحُها أن لا تسلم من ضرر تخلفه. وينبغي أن يكون هذا سبيلَ طائفة الأبيكوريين (1) من الفلاسفة الذين يرون الدنيا كلَّها لذَّات؛ فإن رئيسَهم لا يذهب عنه أن متاعبها كثيرةٌ لغير الحكيم، ولكنه أراد اقتضاءَ لذاتها بقدار الاستطاعة.
جاءت شريعةُ الإسلام في آدابها على الحكمة الفطرية، فلذلك يكون حالُ المؤمن أشبهَ بحال الحكيم، ذلك أن الدين يأمره أن يأخذ من الدنيا ما يريد من الحلال، وأن لا يكون جازعًا عند فقدها. وبهاته التربية التي أصلُها التسليمُ للقدر فيما لا حيلةَ فيه، فُقدت المفاسدُ التي تنشأ عن آلالام في الأمم الأخرى من انتحار وجنون ونحوهما، قال تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
إذا كانت النفسُ ميَّالةً إلى لذاتها في كل حال، فالعاقلُ لا يسمح لنفسه باقتضاء لذتها الحسية. وربما وصل العقلُ إلى التفكر في حال اللذة ومآلها، فرأى أن لا بدَّ من انقطاعها، فقطعها قبل أن تقطعه. وهو مبدأ عظيم من الحكمة، قال فيه فيلسوفُ الشعراء أبو العلاء المعري:
ضَحِكْنَا وكَانَ الضَّحكُ منَّا سَفَاهَةً
…
وَحُقَّ لِسُكَّانِ البَسِيطَةِ أَنْ يَبْكُوا (2)
(1) هم أصحاب أبيكور [Epicurus] الفيلسوف اليوناني المولود سنة 341 قبل المسيح ومات سنة 270. وهو الذي كان مبدؤه أن الدنيا خُلقت للسرور وكان قد اتخذ لتلاميذه مدرسة في بستان كبير وكان يسلك بهم مسلك الرياضة والنزهة والأكل الطيب البسيط الذي لا يخلف أكدارًا ويرى أن الرجل يجب عليه اغتنام اللذات بقدر استطاعته ويجب أن يتكدر في الدنيا. ولا شك أن هذا لا يتم بغير ما بينا من التوطين النفسي، فإن كان غرض أبيكور تحصيل مع إهمال هذا، فهو يطلب ما لا يسمح به الزمان. - المصنف. وقد شاع في الكتابات الفلسفية العربية الحديثة استعمال لفظ "الأبيقوريين" بدل "الأبيكوريين" نسبة إلى أبيقور.
(2)
المعري، أبو العلاء: لزوم ما لا يلزم: اللزوميات (بيروت: دار صادر، ط 1، 1427/ 2006)، ج 2، ص 126. والبيت هو الأول من بيتين من بحر الطويل.
وكما ترى من نفسك استنكافًا عن بعض اللذات، وترى غيرَك يرغب فيها، بل ترى من نفسك الفرقَ في لذاتك بين حالتي الصبا والفتوة مثلًا. كذلك لا تشك أنَّ الحكمة إنْ أشرقت على قوم، ربما نزعت كلَّ هوس من قلوبهم، فرأوا الدنيا كلَّها سفاسفَ وغرورًا، كما ترى أنت اليوم الرقصَ مع الصبيان وتلقفَ الكرة جنونًا بعد أنْ كانا شغلَك الوحيد. أُولئك هم السعداء الذين استوى عندهم الكدر والطرب، فعاشوا وقلوبُهم مُمتَّعةٌ بإدراك الحقائق الذي وراءه للعاقل مطلب، وهذا قسمٌ شريف فات أبي الطيب إذ يقول:
تَصفُو الْحَيَاةُ لِجَاهِلٍ أَوْ غَافِلٍ
…
عَمَّا مَضَى فِيهَا وَمَا يُتَوَقَّعُ
وَلِمَنْ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ نَفْسَه
…
وَيَسُومُهَا طَلَبَ المُحَالِ فَتَطْمَعُ (1)
وذكَّرني تشَكِّي الناس من سوء معاملة الزمان عادةً من عوائده، وهي انزواؤه لِمَنْ لا يقدره قدره أو مَنْ لا ينتفع به، وتزلُّفه لمن عَدِم العقل والفضيلة، وأنه لا وصولَ إلى مقاصده وأمانيه من الحكيم بما سهلت الدنيا بين يديه لولا أن يخونه الطريق، فيضله عن كنه مقاصده. وكما ترى الجمادات تنال بدون ارتقاب ما تشيب دون نيله رؤوسُ الشباب، وترى الزُّجاجَ ينال من الثغور ما تتلظى دونه أربابُ الأساورة والقصور، (2) فلا تتعجبْ ممن قرب إلى الجمادية أن تكون الدنيا أسْوَقَ إليه، وأنها لا تدين لِمَنْ يسخر منها، وإنما تقرب مَنْ تضحك عليه.
(1) البيتان من قصيدة عنوانها "لكن المنية أسرع"، قيلت في رثاء أبي شجاع فاتك بعد خروج الشاعر منها، وهي من بحر الكامل. شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 13.
(2)
هذه صورة لكثرة ما يحصل للأكواب أو الكؤوس الزجاجية من كثرة مماسة الثغور إياها عند الشرب.