الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن سينا والحكمة المشرقية
(1)
[تمهيد]:
تهبُّ الصَّبا بليلة من جانب الشاطئ الشرقي، وتميل بأفنان البساتين فتجعل صيفَ المرسى (2) ربيعًا، وتجلو من أحاسن محاسنها منظرًا بديعًا. وكما تميل بالأفنان، كذلك تميل بما للنفوس من الفنون، فإذا كلُّ حزبٍ بما لديهم فَرِحون:
(1) نشر في قسمين في الهداية الإسلامية، المجلد 9، الجزء 3، رمضان 1355 هـ (ص 141 - 154)؛ والجزء 4، شوال 1355 هـ (209 - 211) بعنوان "ورقة مطوية من تاريخ الفلسفة الإسلامية: الشيخ ابن سينا والحكمة المشرقية".
(2)
المرسى بلد أفيح ذو قصور وبساتين واقع على شاطئ البحر [الأبيض] المتوسط قرب قرطاجنة القديمة، وبها آثار رومانية. وكانت تُسمَّى مرسى عبدون، ثم سميت مرسى جراح باسم رجل صالح كان قد جعل فيها رباط حراسته على البحر يقال له سيدي جراح، لقيه الشيخ محيي الدين ابن عربي في عام 590 هـ. وقد دخلها الشيخ محيي الدين بن عربي مرتين في عام 590 هـ قاصدًا الحج ولقي بها الشيخ عبد العزيز المهدوي دفين رباط المرسى، ثم دخلها مرة ثانية في عام 598 هـ وأقام في رباط الشيخ عبد العزيز بها تسعة أشهر. ثم سميت مرسى الظريف؛ لأن في طرفها القبلي على شاطئ البحر جبلًا به مقام الشيخ محمد الظريف. ثم ابتنى بها السلطان أبو عبيد الله بن الحسن الحفصي قصرًا وبساتين فسميت العبدلية. - المصنف. تقع المرسى على مسافة 18 كيلومترًا شمالِي مدينة تونس، وهي تمثل مع حلق الوادي والكرم وقرطاج ضاحيتها الشمالية، وكانت بها سكنى المصنف رحمه لله. والصَّبا ريحٌ معروفة عند العرب، تُقابلها الدَّبور، وتُجمع على صبوات وأصباء. وقيل إن مهبَّها المستوي أن تهب من الشرق أو من جهة مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار. ولهذه الريح مكانة خاصة عند الشعراء، فكثيرًا ما يتغنون بها ويخاطبونها باثين لها شكواهم ومحملين إياها تحياتهم وأشواقهم إلى محبوبيهم، ومن ذلك قول الأرجاني:
سَلَامٌ بِهِ بَعَثَتْ مِنْ هَوًى
…
وَإِنْ هِيَ بَاتَتْ بِلَيْلِ السَّلِيمِ
عَلَى يَدِ رِيحِ صَبَا رِيحُ صَبٍّ
…
إِلَى مُقْلَتَيْ رَشَإٍ بِالصَّرِيمِ =
فَمَفْتُونٌ بِآيَاتِ المَثَانِي
…
وَمفتون بِرَنَّاتِ المثاني (1)
وأنا مولَعٌ بورقةٍ تُحرَّر، أو كتابٍ يُطالع فيه رأيٌ أصيل، أو أدبٌ جزيل. ولا بدع أن تهز الصبا أريَحِيَّتِي صيفًا، كما كانت تهزّ في الشتاء رياحُ أبي عقيل. (2) وقد
= ديوان الأرجاني (ناصح الدين أحمد بن محمد)، تحقيق قدري مايو (بيروت: دار الجيل، ط 1، 1418/ 1998)، ج 2، ص 189. والرَّشأ: ولد الظبية، وتشبه به المرأة الصبية.
(1)
البيت (وأوله "فمشغوف" بدل "فمفتون") هو الثاني من مقطوعة من ثمانية أبيات للحريري من بحر الوافر، يصف فيها البصرةَ ومباهج الحياة ومرافق الحضارة فيها، أولها وآخرها البيتان الآتيان:
بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا
…
وَجِيرَانٍ تَنَافَوْا فِي المَعَانِي
وَدُونَكَ صُحبَةَ الأَكْيَاسِ فِيهَا
…
أَوِ الْكَاسَاتِ مُنْطَلِقَ الْعِنانِ
الحريري، أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان: مقامات الحريري المسمى بالمقامات الأدبية (بيروت: دار الكتب العلمية، بدون تاريخ) ص 525 - 526 (المقامة الثامنة والأربعين: المقامة الحرامية).
(2)
أبو عقيل هو لبيد بن ربيعة العامري، كان نذر في الجاهلية، وقيل في الإسلام، أن لا تهبَّ الصَّبَا إلا أطعم المحاويج. وقد لحقه احتياجٌ آخرَ عمره في بعض السنوات، فأراد أن يستمنح أميرَ الكوفة الوليد بن عقبة، وكان لبيد قد انقطع عن قول الشعر، فقال لابنته: قُولِي شعرًا، فأنشدت:
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُ أَبِي عَقِيلٍ
…
دَعَوْنا عِنْدَ هَبَّتِهَا الْوَلِيدَا
- المصنف. وبقية الأبيات:
أشَمَّ الأَنْفِ أصيَد عَبْشَميًّا
…
أَعَانَ عَلَى مُرُوءَتِهِ لَبيدَا
بأمْثَالِ الْهِضَابِ كَأَنَّ رَكْبًا
…
عليها مِن بَنِي حَامٍ قُعودا
أَبَا وهْبٍ جَزَاك اللهُ خَيْرًا
…
نَحَرْنَاها وأطْعَمْنا الثَّريدا
فَعُدْ إِنَّ الْكَرِيمَ لَهُ مَعَادٌ
…
وظَنِّي بابْنِ أَرْوَى أن يَعُودا
قدم أبو عقيل على النبي صلى الله عليه وسلم سنة وفد قومه بنو جعفر بن كلاب بن عامر بن صعصعة، وأسلم وحسن إسلامه. ابن عبد البر [النمري]، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي (بيروت: دار الجيل، ط 1، 1412/ 1992)، ج 3، ص 1335 - 1336. وذكر ابن سلام أن لُبيدًا لمَّا انقطع عن قول الشعر قال: "قد أبدلني الله بالشعر سورةَ البقرة وآلَ عمران، فزاد عمر في عطائه فبلغ به ألفين، فلما ولِيَ معاويةُ قال: يا أبا عقيل عطائي وعطاؤك سواء، لا أُرانِي إلا سأحطك، قال: أَوَتدعني قليلًا ثم تضُم عطائي إلى عطائك، =
كنت من قديم مُغرَمًا بمؤلفات الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا أن تجمع قولًا فصلًا، ورأيًا عدلًا ومنطقًا، لا هراء ولا هزلا.
فلما مالت بِيَ المطالعةُ إلى جانب قماطير الحكمة، اجتذبتُ منها كتابًا كان ظهر في المطبوعات منذ عام 1328 هـ معنونًا باسم "منطق المشْرقِيِّين"، منسوبًا إلى الشيخ ابن سينا، مما نشرتْه المكتبةُ السلفية لصاحبيها الفاضلين محبّ الدين الخطيب وعبد الفتاح الفتلان. وله مقدمة تستغرق ثمانية وثلاثين صفحة، فيها ترجمةُ الشيخ منقولةً عن أهم المصادر.
وذلك عملٌ يُشكر عليه صاحباه، شُكْرَ مَنْ عمل عملًا برَّ به أباه. لكن هذه المقدمة لم يكن فيها نصيبٌ من التعريف بالكتاب المعنْوَن، ولا بتصحيح نسبته إلى الشيخ، ولا التعريف بالأصل الذي نُقِل عنه والمكتبة التي تحويه. ولعل المُطالِعَ يشتهي أن يعرفَ هذا الكتاب وصحةَ نسبته إلى أبي علي، ثم هو يتوق إلى العلم بماذا يعني الشيخ حين يصف الحكمةَ بالمشرقية، وحين يصف بعضَ الحكماء بالمشرقيين. وقد احتار في ذلك الباحثون من قديم، ولم يأْوَوْا بالْحَرَّان (1) إلى ظلٍّ بارد ولا كريم (2).
= فتأخذه أجمع. . . وعُمِّر عمرًا طويلًا، وكان في الجاهلية خيْرَ شاعر لقومه يمدحهم ويرثيهم، ويعد أيامهم ووقائعهم وفرسانهم، وكان يُطعم ما هبت الصبا، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبت الصبا قال: أعينوا أبا عقيل على مروءته". الجمحي: طبقات الشعراء، ص 57. وانظر أخباره في الأصفهاني: الأغاني، ج 5/ 15، ص 718 - 730 (نشرة الحسين)
(1)
الحران: العطشان، ومؤنثه حَرَّى. وفىِ الحديث عن سراقة بن مالك قال:"سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل تغشى حياضي، قد لطتها لأبلي، فهل لِيَ من أجر إن سقيتها؟ قال: "نعم، في كل ذات كبد حَرَّى أجر". سنن ابن ماجه، "أبواب الأدب"، الحديث 3686، ص 528؛ المستدرك على الصحيحين، "كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم"، الحديثان 6678 - 6679، ج 4، ص 53 - 54.
(2)
ههنا تضمين من قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} [الواقعة: 43، 44].