الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بذلك إلى تحصيل هدوء الممالك الإسلامية في وجهه بعد أن صار معظمُها في دائرة مفتوحاته، إلا أن قومه نقموا عليه الانتقالَ من دينهم، فثاروا عليه وقتلوه.
[المائة الثامنة]:
ثم مضت فترة أخرى إلى سلطنة خربند بن أرغون بن أبغا بن هولاكو سنة 702 هـ، فأسلم وتسمى محمدًا، وأناب عنه قطلوشاه أحد أمرائهم الكفرة في غزو البلاد، فدامت النكاية بالمسلمين. ولم يُخلص التتر الإسلامَ إلا بعد موت قطلوشاه سنة 714 هـ، فحينئذ قُطعت جرثومةُ الوثنية في ملوك التتر وجندهم، فصاروا إخوةً لبقية المسلمين، وسلم المسلمون من مصائب استئصالهم، واعتز بِهم الإسلامُ بعد أن كانوا يُعجِّلون إلى نكايته.
فبحق يعد الملك خربند التتري ومَنْ حَفَّ به من العلماء والصوفية هم مجددي رأس المائة الثامنة. ومِمَّنْ يُعرف من هؤلاء العلماء نظامُ الدين محمود الشيباني، وبدر الدين محمد بن جماعة الشافعي، وتقي الدين أحمد بن تيمية الحنبلي، وجلال الدين محمد القزويني الشافعي، رحمهم الله أجمعين.
لم يكن المشرقُ الإسلامي في هذا القرن منفردًا بالمصائب والمحن، فقد شاركه المغرب في ذلك. ففي بلاد الأندلس قد اشتدت شوكةُ ملوك الجلالقة على ملوك الإسلام بعد وقعة العُقاب سنة 600 هـ، ثم تلتها حوادثُ في مدة السلطان محمد بن محمد بن يوسف من بني الأحمر - ملك غرناطة من سنة 672 هـ، إلى سنة 702 هـ - تكالب فيها العدوُّ على بلاد الأندلس إلى أن جرى النصرُ على يد السلطان إسماعيل بن فرج من بني الأحمر سنة 719 هـ، فتنفس الحال عن المسلمين بالأندلس مدة طويلة. فلا يبعد أن يكون السلطان إسماعيل فرج سلطان غرناطة في عداد المجددين للإسلام في رأس المائة الثامنة.
وُجد الإسلام في قارة آسيا مقر الحضارة العتيقة، فنشأ بالحجاز في وسط حضارة بسيطة، وسرى متدرجًا في أقطار الحضارات الكبرى من العراق والشام
وفارس، ثم تطرق إلى قارة إفريقيا، فدخل مصر وبرقة وإفريقية والمغربين (1) والصحراء. فمازج الحضاراتِ العتقيةَ كلَّها ومازجته، فلم يكن المسلمون في القرون الأولى من تاريخ الإسلام تقصر حضارتُهم عن حضارة أفضل الأمم المتمدنة، بل كانت تفوقها بما عليه المسلمون من التخلق بالفضائل الإسلامية.
وكانت أوروبا أيامئذ منقسمة قسمين: قسم شرقي وهو المجاور لبلاد الشام وهو المسمى بيزنطة وعاصمته القسطنطينية، وحضارته تساوي أو تفوق حضارات أفضل الأمم الأخرى، وقسم غربي وهو المجاور لإفريقيا، وأشهر عواصمه رومة، ولم يكن يومئذ يداني حضارة القسم الشرقي، على أن معظم بلاده لم يكن ذا حضارة معتبرة. ولقد وطئت أقدامُ المسلمين غربَ أوروبا بفتح بلاد الأندلس، وتوغلوا فيها زمنًا مستقرين أو مناوشين، فنشروا هنالك حضارةً وقعت من أمم غرب أوروبا بمحل الإعجاب، وكانت لفتح عين نهضتهم أكبرَ الأسباب.
وقد أخذت ممالكُ أوروبا في القرن الرابع عشر من تاريخهم المسيحي تسعى بخطًى واسعة إلى تأسيس تمدن منتظم، وحضارة فكرية سامية ومتماثلة تؤذن بما سيكون لممالك هذه القارة من الشأن والاتحاد التمديني في تاريخ التمدن الحديث، وسيادة العالم عن قريب. وكانت أوروبا الشرقية حينئذ مندحرة إلى السقوط والانحلال، فكان مستقبل سيادة العالم صائرًا إلى غرب أوروبا. ويومئذ كان المسلمون متزحزحين عن ممتلكاتهم الوحيدة في أوروبا، وهي كُوَر بلاد الأندلس؛ إذ قد استرد ملوكُ الجلالقة معظمَ تلك البلاد التي انتزعها منهم المسلمون.
فانحصر مُلْكُ المسلمين في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل التاسع في رقعة ضيقة من أرض الأندلس هي كورة ألبيرة، وهي قطعة بين مدينة رندة (2)
(1) وهما الأوسط والأقصى، أو الجزائر والمغرب. أما المغرب الأدنى فهي إفريقية أو تونس.
(2)
بضم الراء وسكون النون. - المصنف. تقع مدينة رندة (Randa) بإسبانيا في مقاطعة مالقة بالأندلس، يبلغ عدد سكانها حسب إحصاء سنة 2006 حوالي مائة واثنتين وخمسين وواحد وأربعين ألف نسمة. عرفت هذه المدينة ازدهارًا كبيرًا في ظل الحكم الإسلامي للأندلس، وكانت =
ومدينة ألبيرة (1) من الغرب إلى الشرق في مسافة عشر مراحل (أي ثلاثمائة ميل)، وفيما بين البحر الأبيض وبين غرناطة من الجنوب إلى الشمال في مقدار مسافة واحدة (أي ثلاثين ميلًا). على أن تلك القطعة لم تلبث أن سُلبت منهم فيما بعد، فيعد المسلمون يومئذ في حكم المسلوبين من الملك في أوروبا.
فلو بقيَ المسلمون منزوين في آسيا وإفريقيا لكانوا عاكفين على حضارة قديمة، ولمَا نالهم شيءٌ من سريان تلك الحضارة الجديدة، وما استطاعوا أن ينغمروا فيها، ولكان حظُّهم عند استتباب العظمة لأوروبا هو الخمول والخضوع تحت سلطان أوروبا للعجز عن مجاراة أممها الناهضة. ولا ندري مقدارَ ما كان يحصل من الوهن والضعف في السلطنة الإسلامية، وإلى أين يرمي ذلك الضعفُ بحكومة الإسلام من مرامي الإهمال تجاه الأمم المعاصرة.
فكان لزامًا لاستبقاء حضارة المسلمين وقوتهم وحظِّهم من السيادة في العالم المتمدن الذي هو بصدد التكون، أن تكون لهم قدمٌ في أوروبا - مهد تلك الحضارة الجديدة. وكان امتلاكُ عاصمة شرق أوروبا أجدَى على المسلمين من امتلاك بلاد الأندلس؛ لأن تلك العاصمة هي بابُ أوروبا كلها. وهي الحدُّ الجامع بين آسيا وأوروبا، وهي برزخُ الحضارات المتنوِّعة الكائنة حولها ووراءها، فلا يُجهل ما يكون لِمَالكها من الفائدة في عظمة السلطان وارتقاء المدنية والحضارة. وهي من جهة أخرى مجاورةٌ لأعظم ممالك المسلمين ولمقار قوتهم وعتيد جيشهم، فهم فيها أمكنُ
= عاصمة إقليمية. وإليها يُنسب الشاعر المشهور أبو البقاء صالح بن يزيد الرُّندي (601/ 1204 - 684/ 1285)، صاحب المرثية الشهيرة التي نظمها في رثاء الأندلس والتي يقول في مطلعها:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
…
فلا يُغرُّ بِطيبِ العيشِ إنسانُ
هِيَ الأمورُ كما شَاهَدْتَها دولٌ
…
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أزمانُ
انظرها كاملة في المقري: أزهار الرياض، ج 1، ص 47 - 50.
(1)
بهمزة قطع في أوله مفتوحة. - المصنف. ألبيرة (Elvira) بلدة في شرق الأندلس قريبة من ساحل البحر، من أعمال المرية، ولها مرسى للسفن بين مرسية والمرية.