المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]: - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌فَاتِحَةُ الكِتَاب

- ‌بين يدي مقالات ابن عاشور ورسائله

- ‌تمهيد: أنا وتراث ابن عاشور:

- ‌محاولات سابقة لجمع مقالات ابن عاشور، ولكن

- ‌منهجنا في هذه الجمهرة جمعا وترتيبا:

- ‌شكر وعرفان ودعاء

- ‌ضميمة

- ‌المِحْوَرُ الأَوَّلفِي العَقِيْدَةِوَالتَفْسِيْر وَالفِكرِ وَالحِكمَةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلالعَقيْدَة والتّفسِيْر

- ‌تنبيه ونصيحة

- ‌الرحمن على العرش استوى

- ‌[مقدمة]

- ‌[موقع الآية من المتشابه]

- ‌[طريقة السلف إزاء المتشابه]

- ‌[الخلف وتأويل المتشابه]

- ‌[رأي المصنف]

- ‌تكليم الله لموسى عليه السلام

- ‌وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌القول الفصل - لا في الفضل - في عصمة الأنبياء من بعد النبوة ومن قبل:

- ‌قول عياض:

- ‌[الخلاصة]:

- ‌شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌معنى الشفاعة:

- ‌أنواع الشفاعة ومكانة الرسول عليه السلام منها:

- ‌مراجعة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

- ‌المهدي المنتظر

- ‌[مقدمة]:

- ‌[مكانة حديث المهدي من تعاليم الإسلام]:

- ‌[مذاهب العلماء في المهدي]:

- ‌كيف نشأ القولُ بالمهدي المنتظر

- ‌[أنواع الآثار المروية في المهدي]:

- ‌الآثار المروية في المهدي:

- ‌الرأي في هذه الآثار من جهة علم الحديث:

- ‌الرأى فيها من جهة النظر:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفكْر وَالحكْمَة

- ‌من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

- ‌[تمهيد]:

- ‌دعائم الإسلام:

- ‌معنى التجديد

- ‌مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة والاحتياج إلى التجديد:

- ‌كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة

- ‌رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:

- ‌رأي مجد الدين ابن الأثير في تعيين المجددين

- ‌التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:

- ‌التوسم في تعيين المجددين بحسب أدلة الحق المبين:

- ‌[المائة الأولى]:

- ‌[المائة الثانية]:

- ‌[المائة الثالثة]:

- ‌[المائة الرابعة]:

- ‌[المائة الخامسة]:

- ‌[المائة السادسة]:

- ‌[المائة السابعة]:

- ‌[المائة الثامنة]:

- ‌[المائة التاسعة]:

- ‌[المائة العاشرة]:

- ‌[المائة الحادية عشرة]:

- ‌[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]:

- ‌[المائة الثانية عشرة]:

- ‌التقوى وحسن الخلق

- ‌شرف الكعبة

- ‌اللذة مع الحكمة

- ‌احترام الأفكار

- ‌العلم عند الله

- ‌تحصيله:

- ‌المقدم منه والمتعين:

- ‌خطته:

- ‌نعيمه والغاية القصوى منه:

- ‌مسألة خفية من مباحث الفلسفة الإسلامية: وحدة الوجود

- ‌ابن سينا والحكمة المشرقية

- ‌[تمهيد]:

- ‌أصل الحكمة اليونانية المنقولة إلى العربية:

- ‌طريقة الشيخ ابن سيناء في الحكمة:

- ‌الحكمة المشرقية:

- ‌الكتاب المعنون "منطق المشرقيين

- ‌الإنسان على الأرض

- ‌عمر الإنسان: ماذا أردت

- ‌أصول التقدم والمدنية في الإسلام

- ‌[مقدمة]

- ‌ما هو الإسلام

- ‌[التأسيسات الأصلية]

- ‌[وحدة النوع الإنساني: ]

- ‌ظهور الإسلام

- ‌واجب المسلمين أن يقتنعوا بهداية الإسلام

- ‌واجب المسلمين: النصيحة

- ‌ما هو النصح والنصيحة

- ‌اضطلاع الناصح بحق النصيحة:

- ‌قبول المنصوح للنصيحة:

- ‌الرفق بالحيوان في الإسلام

- ‌تحرير مسألة في علم الهيئة

- ‌المحْوَر الثّانِيفِي فِقْهِ السُّنَّةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلفِقْه الحَدِيْث

- ‌التعريف بكتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ونشأة علم الحديث

- ‌[تمهيد]:

- ‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الغرض من تأليف الموطأ

- ‌ما المراد بالحديث الصحيح

- ‌[نسخ الموطإ]

- ‌اسم كتاب "الموطأ

- ‌تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌[تقديم]:

- ‌ تعريف الحديث القدسي

- ‌صيغة رواية الحديث القدسي:

- ‌الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وبينه وبين غيره من الأحاديث النبوية:

- ‌مراجعة ما تضمنه كتاب "فتح الملك العلي

- ‌المراجعة الإجمالية:

- ‌المراجعة التفصيلية:

- ‌درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه: "جامع القضاء وكراهيته

- ‌[تمهيد: القضاء بين الترغيب والترهيب]:

- ‌[العدل أساسُ صلاح العمران]:

- ‌[شرح الحديث]:

- ‌الأسانيد المريضة الرواية: "حديث طلب العلم فريضة

- ‌أقوال الحفاظ في رجال سنده:

- ‌آراء الحفاظ في حالته:

- ‌[روايات الحديث]:

- ‌التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس

- ‌خلق النور المحمدي

- ‌متن هذا الحديث:

- ‌مرتبة هذا الحديث من الصحة:

- ‌نقده من جهة اللفظ:

- ‌نقده من جهة المعنى:

- ‌دفع إشكال في حديث نبوي: "سألتُ ربي

- ‌سند هذا الحديث:

- ‌[معنى الحديث]:

- ‌حديث: من سُئل عن علمٍ فكتمه

- ‌[سند الحديث]:

- ‌معنى الحديث:

- ‌[مسائل في فقه الحديث]:

- ‌حديث: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم

- ‌سند الحديث واختلاف ألفاظه

- ‌معنى الحديث:

- ‌تحقيق الخبر المأثور: "لا رهبانية في الإسلام

- ‌معنى الرهبانية:

- ‌لا صفر

- ‌شهر رجب

- ‌شهر شعبان

- ‌لا عزاء بعد ثلاث

- ‌تحقيق معنى لفظ العزاء

الفصل: ‌[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]:

يقضي على الإسلام بالممالك الهندية التي تحوي ملايين عظيمة من المسلمين. (1)

ولكنه ما لبث أن توُفِّيَ سنة 1014 هـ، وخلفه في سلطنة الهند ابنُه سليم جهانكير، وعندما وَلِيَ نبذ طريقةَ أبيه في أمور الدين، واعتصم بالإسلام وبمذهب أهل السنة وانتصر له، فأنقذ الله به الإسلامَ في الشرق كما أنقذه في الغرب بالسلطان أحمد خان الأول. فإذا صح ما ورد في أخبار أكبر شاه ولم تكن مبالغة، فإن ابنه سليمًا جهانكي جديرٌ بأن يُعَدَّ مجدِّدًا أيضًا على رأس المائة الحادية عشرة من وقت إخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم (2)

[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]:

ما كانت الأدواءُ التي انتابت هيكلَ الجامعة [الإسلامية] في القرن الحادي عشر الهجري بالتي تتركه سليمًا من أخطار تنخر عظمه، وتنزف دمه، وتشرف به على الهلاك. وبإجالة نظرةٍ واسعة على تاريخ الإسلام في ذلك القرن، نرى حالةً هي أعصبُ الأحوال التي عرضت للمسلمين عامة. فلقد تفككت الجامعةُ الإسلامية في كل مكان بما اعتراها في دخيلتها من فتن الثوار، وانقسام الأهواء، واضطراب الحياة الاجتماعية، وفقدان الأمن في سائر البلاد شرقًا وغربًا. فقد تضاءل نورُ العلوم، وحل الفساد في الأخلاق، وساد المسلمين الوهنُ وحبُّ الدعة، وغشيت

(1) انظر تحليلًا تاريخيًّا وفكرِيًّا عميقًا لعهد الملك أكبر شاه وللعوامل التي أثرت في شخصيته وأدت إلى حدوث تقلبات في فكره وسلوكه وعرضًا شيقًا لما قام به في الكتاب الماتع للعلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي: رجال الفكر والدعوة في الإسلام (دمشق/ بيروت: دار ابن كثير، ط 3، 1428/ 2007)، ج 3 - 4، ص 81 - 133.

(2)

قلت: لو أن المصنف عليه رحمة الله أتيح له الاطلاع على سيرة الشيخ أحمد السَّرهندي سليل النسب الفاروقي (نسبة إلى الفاروق عمر بن الخطاب) والتعرف على فكره التجديدي وحركته الإصلاحية بما أدى إلى عودة الروح والأصالة الإسلامية إلى مسلمي الهند، لما تردد في عده هو المجدد. انظر في ذلك: الندوي: رجال الفكر والدعوة في الإسلام، ج 3 - 4، ص 137 - 342.

ص: 192

على عقولهم الأوهامُ والغرور، واحتارت العقولُ باضطراب الفتن التي أعمى الأمةَ عَجَاجُها وغمرهم عجَّاجُها. (1)

فأما الشرقُ الإسلامي فقد كان معظمُه يومئذ للدولتين العثمانية والفارسية، فبلاد الدولة العثمانية (وهي بحق يومئذ سيدة الممالك الإسلامية) قد صارت بؤرة فتن بجنود الانكشارية، وآلت كمثل الكرة تتلقفها أيدي زعماء الجنود يترامون بها على حسب أهوائهم. ابتدأت ثورة هؤلاء الجنود على السلطان مصطفى خان الأول سنة 1027 هـ، فلا نجد مَنْ سلم بعده من سلاطين آل عثمان من ثورة آلت إلى قتل أو خلع، فصارت الدولةُ مهزلةً في أيدي شياطين الفتنة ودعاة الضلالة المشتهرين بتطلب الرزق من وجوه الغدر والحرابة.

وكانت المملكةُ الفارسية في ذلك القرن منتزى أمراء بيت الملك الصفوي والأزابكة رؤساء الجنود بعد وفاة الشاه طَهْماسَب بن الشاه إسماعيل، واختلاف أولاده الكثيرين في ابتزاز أمر المملكة، حتى انبرى لجمع الكلمة الشاهُ عباس بن طهماسب. ولكنه لمَّا جمع الكلمة في بلاده، حدثت بينه وبين السلطان مراد الرابع العثماني حروبٌ من أثناء عام 1032 هـ، تلك الحروب التي يظهر أن سببها إحنٌ ودخائلُ قلبية كانت قد نبتت في قلوب الفرس أتباع المذهب الشيعي، إذ كانت تضيق صدورُهم أيام تفوق الدولة العثمانية عليهم من جراء ما كانوا يلقون منها من الغضاضة والاضطهاد في المعاملة يسبب اختلاف النزعتين. فلما تنسَّمُوا نسيمَ القوة، نشطت نفوسُهم، فأثمرت تلك الإحنُ طلبَ الانتصاف لنصرة مذهبهم على مذهب سكان البلاد العثمانية من الأشاعرة والماتريدية، فأخذت الفتنُ تظهر في بغداد التي هي برزخ بين المملكتين، وملتقى أتباع البلادين، حتى ملأت القلوبَ إحنًا، والعصورَ بعدها فتنًا.

(1) العَجَاج هو الغبار، والعجَّاج هي الريح الشديدة.

ص: 193

واستولَى الفرسُ على بغداد استيلاءَ الجبابرة، فأحرقوا خزائنَ كتبها، وخربوا ضريحَ الشيخ الجيلي. وكانت بلادُ العراق تبعًا لحال هاتين الدولتين: إن قامت الفتنُ بينهما كان مَجَالُها العراق، وإن آلت إلى ملك الدولة العثمانية كان اختلالُ حالها تبعًا لاختلال حال الدولة العثمانية. وكذلك كان حالُ الممالك الشامية، وكانت الصولةُ للجند في هذين القطرين العراقي والشامي.

وكانت بلادُ الْحجاز في فوضى عظيمة من أثناء سنة 1077 هـ حين توفِّي أمير الحجاز العظيم زيد بن محسن، فاضطرب الحجازُ بنزاع بين الشريف سعد بن زيد المحصل على الإمارة وبين أخيه محمد يحيى، والشريف محمود الداعي لنفسه. فأصبح الحرمُ الأمين مطارَ شرر الفتن، وعم النهبُ والسلب إلى منتهى القرن الحادي عشر، ففي سنة 1099 هـ قطع العرب طريقَ الحاج المصري والمغربي، وكان بالحجاز خوفٌ عظيم.

وأما مصر - وهي واسطةُ البلاد الإسلامية بين الشرق والغرب - فكانت في خلال القرن الحادي عشر بحالة فوضى وإهمال؛ لأن حضارتها قد أخذت في الانتفاص من وقت انقراض خلفاء العباسيين منها حين دخلت تحت الدولة التركية في مدة السلطان سليم، إذ صار حكمُها لباشوات في القاهرة، وللكُشَّاف (جمع كاشف)، والسناجق في كور مصر الأربع والعشرين. وكان دأب الجميع الْجَوْر والعسف والسلب وإذلال الأمة، حتى ماتت الهمم، وصار السير إلى الوراء بعد الأمم. قال المؤرخ محمود فهمي (1) في البحر الزاخر: "وفي ظرف القرنين اللذين

(1) هو محمود فهمي باشا، مهندس معماري من مصر، ولد سنة 1255/ 1839 في الشنتور من قرى بني سويف، وتعلم فيها، ثم في مدرسة المهندسين (المهندسخانة) ببولاق في عهد علي مبارك. مارس العلوم العسكرية، وعين معلمًا في مدرسة الهندسة العسكرية، فكبيرًا لمهندسي قسم الساحل على البحر الأبيض المتوسط، فبنى العديد من القلاع العسكرية. أُرسل في حملة لمساعدة الجيش العثماني في حروب الصرب والجبل. وحين قامت الثورة بقيادة أحمد عرابي ناصرها، وولي نظارة الأشغال العمومية في وزارة محمود سامى البارودى. وعندما هاجم الإنجليز مصر، كان رئيسًا =

ص: 194

أعقبا التغلب العثماني (العاشر والحادي عشر) كانت مصر محكومةً بباشوات وسناجق من طرف الدولة العثمانية، فأخذت هذه المملكة في الاضمحلال في الأنفس والأموال، وصار هؤلاء الباشوات والسناجق في طريق السلب والنهب". وقال الجبرتي: إن السلطان سليمًا لَمَّا أخذ مصر وخرج راجعًا إلى بلاد سلطنته، "أخذ معه الخليفة العباسي، وأخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لا توجد في بلاده، بحيث إنه فقدت من مصر نيف وخمسون صناعة". (1)

فما ظنُّك بعاقبةِ هذه الحالة؟

= لأركان حرب الجيش المصرى، فأُسر بعد دفاع مستميت، وحوكم مع زعماء الثورة العرابية، فحكم عليه بالإعدام، ثم أبدل الإعدام بالنفى إلى جزيرة سيلان حيث توفي سنة 1311/ 1894. من مؤلفاته "البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر" الذي صدرت طبعته الأولى في مصر عن المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1312/ 1894 في أربعة أجزاء، وقد حققته لطيفة محمد سالم ومصطفى الغريب محمد، وصدر عن دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة سنة 1428/ 2007 في ثلاثة مجلدات، وله كذلك كتاب "جامع المبادي والغايات في فن أخذ المساحات". هذا ولم يتيسر لنا الاطلاع على هذا الكتاب لتوثيق ما نقله المصنف منه.

(1)

أورد المصنف كلام الجبرتي بتصرف، ونرى من المناسب نقله كاملًا حفاظًا على سياق موضع الاستشهاد، قال بعد أن تحدث عن نهاية جولة الجراكسة:"وسبب انقضائها فتنة السلطان سليم شاه ابن عثمان وقدومه إلى الديار المصرية، فخرج إليه سلطان مصر قانصوه الغوري فلاقاه عند مرج دابق بحلب وخامر عليه أمراؤه [كذا] خير بك والغزالي فخذلوه وفقدوه، ولم يزل حتى تملك السلطان سليم الديار المصرية والبلاد الشامية، وأقام خير بك نائبًا بها كما هو مسطر ومفصل في تواريخ المتأخرين، مثل مرج الزهور لابن إياس وتاريخ القرماني وابن زقبل وغيرهم. وعادت مصر إلى النيابة كما كانت في صدر الإسلام. ولمَّا خلص له أمرُ مصر، عفا عمن بقي من الجراكسة وأبنائهم، ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية، بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوف وغلال الحرمين والأنبار، ورتب للأيتام والمشائخ والمتقاعدين ومصارف القلاع والمرابطين، وأبطل المظالِمَ والمكوسَ والمغارم. ثم رجع إلى بلاده وأخذ معه الخليفة العباسي، وانقطعت الخلافة والمبايعة، وأخذ صحبته ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم توجد في بلاده بحيث إنه فقد من مصر نيف وخمسون صنعة". الجبرتي، عبد الرحمن بن حسن: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، نشرة بعناية إبراهيم شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية؛ ط 1، 1417/ 1997)، ج 1، ص 29.

ص: 195

وما كان المغربُ بأهنأ عيشًا من المشرق تلك المدة، فإن طرابلس وتونس والجزائر كانت تابعةً للدولة العثمانية، فكانت أدواءُ تلك الدولة تتسلل إلى هذه الإيالات، وتزيد بما تزيد به من الفقر والجهل وقلة النظام، وكان الحكم في هذه الأقاليم بيد الجند وزعمائه.

فطرابلس خَيَّم عليها الجهل، وأرهقها ظلمُ الولاة الذين من آخرهم خليل باي الذي كان نصيرًا لمراد باي أبي بالة - والِي تونس - على تخريب القيروان سنة 1111 هـ. وتونس كانت قرارةَ فتن وأكدار من حروب قائمة بين أهل الجزائر من سنة 1096 هـ، ومن اشتداد مظالم مراد باي المرادي الملقب بأبي بالة، (1) والمتوثب على إمارة تونس سنة 1110 هـ، فإنه عاث في البلاد إفسادًا، وقتلًا وتمثيلًا، ومجاهرةً بالفواحش، وهدم مدينة القيروان وقرًى كثيرة من البلاد. قال الوزير المؤرخ الشيخ أحمد بن أبي الضياف التونسي في تاريخه ما ملخصه:

"ولي مراد باي في رمضان سنة 1110 هـ، ولم يلبث أن سلَّ سيفَ بغيه وفعل ما لم يؤثر عن غيره قديمًا وحديثًا، وانهمك في العبث بالخلق. وكان يؤتى بالرجل الذي يغضب عليه، فيقوم بنفسه ويذبحه، ويقطع أعضاءه، ويشق بطنه، ويدخل يده ويخرج أمعاءه. أُتِيَ إليه بالفقيه المفتي الشريف محمد العواني القيراني فقتله بنفسه، وجعل يشوي لحمه ويأكل منه. وكان يعبث بالعلماء ويمتهنهم، ويُكره بعضَهم على الحضور في مجلس خموره، وأخرج شِلْوَ (2) سَلَفِه عَمِّه رمضان باي فأحرقه بالنار، وجمع رماده فألقاه في البحر بسوسة. وفعل بأهل باجة ما حملهم على مفارقة بلدهم، فخرجوا منها إلى الشعاب والأودية. وقاتل أهلَ القيروان، وأباحها لخليل باي والي

(1) البالة: اسم سيف قصير مستقيم. كان مراد هذا يحمل سيفًا من هذا النوع يقتل به مَنْ يغضب عليه، فإذا مضى يومٌ ولم يقتل به أحدًا يقول:"جاعت البالة"! - المصنف.

(2)

الشِّلو. العضو، والقطعة من اللحم، والبقية من كل شيء، وتجمع على أشلاء. والمقصود هنا أن المتحدَّثَ عنه أحرق ما تبقى من جثمان عمه بعد إخراجه من القبر!

ص: 196

طرابلس فنهبها وسبى نساءها وذراريها. ثم إن مراد باي أمر بهدم جميع بناء القيروان عدا الجوامع والمساجد والزوايا، وجمع خيلًا اورجالًا لغزو بلاد الجزائر، وعاضده على ذلك خليل باي طرابلس. وحاصر قسنطينة خمسة أشهر، ثم دخلها عنوة، وأثخن في أهلها وجيشها قتلًا وأسرًا، وهدم معظم أبنيتها". (1)

وبلادُ الجزائر كانت في فتن مع أهل البلاد التونسية أيام مراد أبي بالة كما قلنا، وكان مراد قد خرَّب قرًى كثيرة بين البلاد التونسية وبين قسنطينة. وكانت أيضًا في حروب مع سلاطين المغرب من جهة تلمسان وسجلماسة، فكانت تلتهمها النيرانُ من أطرافها.

وأما المغرب الأقصى - وهو المملكة الوحيدة في المغرب المستقلة عن حكم الدولة العثمانية - فكان في فتن مضطرمة: من ثورات القبائل، واختلاف الدعاة، وعصيان المدن بما حولها من القبائل، فعصت تازا وفاس ومراكش وتارودانت وغيرها في أواخر القرن الحادي عشر من سنة 1070 هـ. وكان الإسبنيول [الإسبان] قد انقضَّ على مدينة المهدية المغربية المعروفة بالمعمورة من عام 1020 هـ إلى عام 1092 هـ، وأخذوا الجديدة والعرائش وأصيلة وسبتة.

وأما ما انتاب الجامعةَ الإسلامية من الخارج، فإن دولَ أوروبا الذين كانوا يحسبون محاربةَ الدولة العثمانية لهم وقت ظهورها جهادًا دينيًّا، وكانوا قد مُلئت قلوبُهم رعبًا من عواقب تلك الحروب قرونًا طويلة، فلما رأوا وهنَ تلك الدولة من وقت نشوب الحرب بينها وبين دولة الفرس وما عقبه من فوضى الجند، نشطت تلك الدولُ لاستزداد قواها. فالذين كانوا منها تحت حكم الدولة العثمانية طمحوا إلى الخروج عنها، وجعلوا يظهرون التذمر من مظالم ولاة الترك إياهم، ويخيلون تعليلَ ذلك بأنه الكراهيةُ الناشئة عن التعصب الديني.

(1) لم يتهيأ لنا الحصول على كتاب ابن أبي الضياف "إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وملوك عهد الأمان" لتوثيق ما نقله المصنف عنه.

ص: 197

وزاد الطينَ بلةً وجسدَ الإسلام علةً أن التكافؤ الفكري والتمديني بين الأمم في الشرق والغرب قد اختل، فكانت الأممُ العظيمة في أوروبا قد تفوقت في العلم والتفكير على الأمم الإسلامية بنشاط أولئك وخمول هؤلاء. والتحفز إلى طلب الكمال من أولئك وغرور هؤلاء، فكانت دول أوروبا قد زالت أدواؤها، وقوي ساعد نفوذها، وانبث سفراؤها وعلماؤها ومفكروها في دواخل البلاد الإسلامية، يسبرون أحوالها، فشعروا شعورًا كاملًا بانحلال الجامعة الإسلامية، وتحفزوا لاحتلال مكانها من سيادة العالم.

ولكنهم لم يلبسوا لها جلد النمر، بل دفنوا تحت الرماد شواظَّ الجمر، وجعلوا يكيدون كيدًا، ويتخطون إلى بلاد الشرق رويدًا. فطمعت جمهوريةُ البندقية في السلطة العثمانية، واستولَى أسطولُها العتيد على دواخل الدردنيل، وتساجل الفريقان حروبًا كانت الانهزاماتُ فيها أكثرَ حظوظ الجيوش التركية. على أنه وإن كانت من بين تلك الدول دولٌ تُظهر المودة من غير عداء، فهم وإن لم يباكروها الغارة، ما كانوا يؤملون لجيشها على عدوه انتصارَه، فقالوا في نفوسهم نحن أولى بالغنيمة، وحبائبُ العروس أحقُّ بانتهاب طعام الوليمة:

قَالَتْ رَأَيْتُ الأعَادِي غِرَّةً

والشَّاةُ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ هُوَ مُرْتَمِ (1)

فأما الدولةُ الفارسية فقد كانت في ذلك القرن بعد وفاة الشاه عباس في حالة سكون، وكانت دول أوروبا لاهيةً عنها بتوجه همتها إلى الدولة المزاحمة لعظمتها، وهي الدولة العثمانية.

ثم إن قوةَ أساطيل الدول المحاربة للدولة العثمانية كانت قد رجحت رجحانًا عظيمًا على أساطيل دول الإسلام، فكانت القرصنةُ تنال من المسلمين ما لا تناله قرصنةُ هؤلاء من الأوروبيين، فأصبحت أسرى المسلمين في البلاد الأجنبية أوفرَ

(1) البيت لعنترة من معلقته. ديوان عنترة، ص 214.

ص: 198