الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأرض والمعادن باسم إسفندارمذ، وسَمَّى النفس الناطقة إسفَهبد، وسَمَّى جبريل روانبخش، وسَمَّى الشمس خُرَّة، وسَمَّى الشمس في بعض المواضع رخش. (1)
ولنصير الدين الطوسي في "شرح الإشارات" وللقطب الشيرازي في "شرح حكمة الإشراق" تكملاتٌ لحقائق من الحكمة المشرقية، ولعلّنا نتعرض في مقال آخر إلى ما أودعه المشايخ الأربعة من الحكمة المشرقية البحتة في مطاوي حكمة الإشراق. (2)
فها أنذا قد أريتك نموذجًا من الحكمة المشرقية، وأشهدتك مبناها ومرادَ مَنْ توخّاها من بين رامزٍ وصريح. وعساك تتفطّن للسبب الذي لأجله لم يستقر منها ما كتبه الشيخ ولا عرف له طريقٌ خاص تمتاز به، وأنها نشأت ملفّقة مخلوطة، ثم انقرضت غير مدروسة ولا مخطوطة. ولقد حُقِّق لديك أن الشيخ الرئيس هو الذي أدخل على الحكمة طريقةً مُحْدَثة لم تكن معهودة، فصار عملُه مبدأ طورٍ جديد في تاريخ الحكمة الإسلامية كانت تكون أوسعَ لولا أن عاجلته المنية، فكنا نراها طريقةً ثالثة مخطوطة مسلوكة، ولا يقتصر مقدارُ ما وصلَنا منها على مقدار ألوكة. (3)
الكتاب المعنون "منطق المشرقيين
":
إنني لأعجب من تسمية الكتاب الذي حَدّثتك عنه في أول المقال باسم "منطق المشرقيين"، على حين لا أُلفي هذا الاسم من بين ما يُنسب إلى الشيخ من التصانيف. ثم يرتقي بِيَ العجبُ من إضافة منطق إلى المشرقيين، على حين نجد الشيخ ومتابعيه مصرِّحين بأن الحكمة المشرقية وليدةُ الكشف والذوق، وليس
(1) انظر الشيرازي: شرح حكمة الإشراق، ص 342، 345، 357، 417، 423، 439، 441 - 442، 444 - 446، 449، 453 - 454، 458، 460 - 461، 463 - 464.
(2)
لم يتهيأ لي حتى الآن العثور على أي مقال للمصنف في هذا المعنى، ولست أدري إن كان فعلًا وفَّى بما وعد به، ولعل خبيرًا بتراث الشيخ من ذريته وتلاميذه أن يأتينا بخبر يقين في ذلك.
(3)
الألوكة - بفتح الهمزة - الرسالة، وأصلها الرسالة التي تبلغ شفاهًا، وتُطلق على الرسالة المكتوبة وهو المراد هنا. - المصنف. وهنا ينتهي القسم الأول من المقال.
المنطق إلا أساس الحكمة البحثية، وهو من وضْع إمام تلك الحكمة أرسططاليس. فمن أجل ذلك أيقنتُ أن هذه التسميةَ تسميةٌ مُلصَقة وباطلة. (1)
أما الذي أراه في شأن هذا الكتاب، فهو أنه قطعةٌ من كتاب "ما يوصل إلى علم الحق" - أحد تصانيف الشيخ المعدود في جريدة تآليفه؛ (2) لأنا نجد في ديباجة هذا الكتاب أنه ألّفه "فيما اختلف فيه أهلُ البحث"، وأنه لم يلتفت فيه "لِفْت عصبيةٍ، أو هوى، أو عادة، أو إِلف". (3) وقدّمه بمقدمات من المنطق رعيًا لعادتهم في افتتاح كتب الحكمة، ولأنه قصد أيضًا تحريرَ مسائل المنطق.
قال في ديباجته: "نريد أن نوردَ فيه العلمَ الآلِيَّ، والعلم الكلِّي، والعلم الإلهي، والعلمَ الطبيعي الأصلي"، وذكر أنه ألّفه بعد كتاب "الشفاء" وفي مدة اشتغاله بتأليف كتاب "لواحق الشفاء"، إذ قال في ديباجته: "وأما العامةُ مِنْ مزاولِي هذا
(1) نشر المستشرق الإيطالي كارلو الفونسو نلينو C . A. Nallino سنة 1925 بحثًا مستفيضًا باللغة الإيطالية حول مفهوم الحكمة أو الفلسفة المشرقية وأصولها ومجاريها ومكانة ابن سينا منها بعنوان: "حكمة ابن سينا الشرقية أو الإشراقية؟ " orientale" od "illuminative" Filosofia) d' Avicenna)" وقد ترجمه الدكتور عبد الرحمن إلى اللغة العربية بعنوان "محاولة المسلمين إيجاد فلسفة شرقية". انظر التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين ألف بينها وترجمها عن الألمانية والإيطالية عبد الرحمن بدوي (الكويت: وكالة المطبوعات/ بيروت: دار القلم، ط 4، 1980)، ص 245 - 296.
(2)
كذا ذكر محبّ الدين الخطيب وعبد الفتاح الفتلان في تعريفهما بابن سينا في مقدمة نشرتهما لكتاب "منطق المشرقيين" الصادرة سنة 1328/ 1910 عن المكتبة السلفية بالقاهرة، دون أن يبينا عن معتمدهما في ذلك. إلا أني لم أعثر على ذكرٍ لهذا المصنف في أي من المصادر التي ترجمت للشيخ الرئيس التي أمكنني مراجعتها، بما في ذلك قائمة مؤلفاته التي أوردها تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، ولا هو مذكور في قائمة مصنفات ابن سينا المخطوطة والمطبوعة وما كُتب عنه باللغة العربية واللغات الأخرى التي أعدها الأب قنواتي ونشرتها الإدارةُ الثقافية جامعة لجامعة الدول العربية في كتاب بمناسبة مهرجان ابن سينا. قنواتي، الأب جورج شحاته: مؤلفات ابن سينا (القاهرة: دار المعارف بمصر، 1950).
(3)
ابن سينا: منطق المشرقيين، ص 19.
الشأن، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثيرٌ لهم وفوقَ حاجتهم، وسنعطيهم في اللواحق ما يصلح لهم زيادةً على ما أخذوه". (1)
والمقدارُ المنشور بالطبع من هذا الكتاب هو قطعةٌ من علم المنطق، فيها مباحثُ الدّلالات، والمفرد والمركب، والتعريفات، والقضايا، والتناقض، وانتهت في أواخر مباحث التناقض انتهاءً يدل على أنه غير متعمَّد. (2)
فالظاهر أن الكتاب أُصيب بخرم أو تفريق فتلِف آخرُه. وما احتوى عليه هذا المقدار من مسائل المنطق لا يختلف عما تتضمنه متوسطاتُ كتب المنطق، ويُلاحظ أن طريقته تختلف اختلافًا ما عن طريقة المنطقيين بتميّز هذا الكتاب:
أولًا: بمحاولة نقض بعض المصطلحات المشائية في المنطق بما هو أوضح، وإن كان لا يخالف المعنى.
وثانيًا: بمخالفة ترتيبه الترتيب المعتاد، ومثال ذلك أن ما يسميه المناطقة "شروطًا" يجعله الشيخ في هذا الكتاب امتحانًا للقواعد على نحو طريقةِ علم الحساب في امتحان العمليات.
وثالثًا: بأنه خالف في تعقّل الحقائق المنطقية طريقة المنطقيين فيما ظهر له أنهم قصّروا فيه، مثال ذلك أن المنطقيين إذا تكلّموا عن الكليات الخمسة التي لا يخلو
(1) المصدر نفسه، ص 22.
(2)
يشهد لكلام المصنف قول ابن سينا في نهاية النسخة المطبوعة أثناء كلام عن نقيض الموجبة المطلقة الجزئية: "وأما إن كانت بحيث تعم اللازمة المشروطة والطارئة"، وبَيِّنٌ أن الكلام غير مكتمل. وقد جاء في خاتمة مخطوطة المكتبة الخديوية التي اعتمد عليها في نشر الكتاب قول ناسخها عبد الرازق بن عبد العزيز بن إسماعيل الفارابي الصفناجي:"هذا مقدارُ ما يوجد من الكتاب". منطق المشرقيين، ص 141. ولعل ابن أبي أصيبعة يعني الكتاب نفسه بقوله:"كتاب في الحكمة المشرقية لا يوجد تامًّا". ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، ج 3، ص 28. وعسى أن ينكشف قادم الأيام عن نسخ أخرى من الكتاب يُجبَر بها هذا النقص.
عن تعقّل بعضها كلُّ تعقُّلٍ لحقيقة شيء من الأشياء (وهي الجنس، والفصل، والنوع، والخاصة، والعَرَض) فإنهم يتكلمون عليها بما يفيد تعقُّلُها من حيث هي صالِحةٌ للوقوع في الأقوال الشارحة للحقائق (أي المعرِّفات)؛ لأن معرفة الحقائق هي أساس الفلسفة. فلذلك كانوا يقسِّمون الكليَّ باعتبار صلاحيةِ وقوعه في جواب سؤال سائل (أي متطلّب لشرح حقيقةٍ ما)، فيقولون مثلًا:"الجنس هو المقول في جواب ما هو على كثيرين مختلفين الحقيقة". (1)
ونجد الشيخَ سلك في هذا الكتاب إلى تقرير مبحث الكلّيّات من نهج آخر، وهو نهج تعقلها بأوصافها الثابتة لها من حيث هي هي، بقطع النظر عن صلوحيتها للوقوع في الأقوال الشارحة؛ أعني بوصف كونها مواهيَ وحقائقَ متعَقَّلةً في نفسها، سواء وقعت في القول الشارح أم لم تقع. فلذلك قسّمها في هذا الكتاب باعتبار كونها مقوِّمةً لحقيقة ما وغير مقومة، أو باعتبار كونها ملازمةً لحقيقةٍ ما وغير ملازمة. (2)
والطريقتان متآيِلتان، (3) والشيخُ لم يعلل وجهَ مخالفته الطريقةَ المشهورة. وأنا أظن أنه قصد من ذلك أن العلمَ بالكليات الخمسة هو في ذاته علمٌ بحقائق كثيرة الجدوى على الحكيم؛ فإن منها المقولات، وهي الأجناس العالية للموجودات.
ووجهُ العلم بالكليات في الطريقتين إنما هو بالرسم؛ أعني تعريفَ الماهية بلوازمها، فإن كونَ الكليِّ واقعًا في الجواب أو كونه مقوّمًا وغيرَ مقوم، أو لازمًا
(1) انظر مثلَ هذا التعريف للجنس في كتاب "النجاة" لابن سينا نفسه حث يقول: "الجنس هو المقولُ على كثيرين مختلفين بالأنواع في جواب ما هو". ثم شرح هذا التعريف بقوله: "وقولنا مختلفين بالأنواع، أي بالصور والحقائق الذاتية، وإن لم تعرف بعد النوع الذي هو مضاف إلى الجنس. وقولنا في جواب ما هو، أي قولًا بحال الشركة، لا بحال الانفراد". ابن سينا، الشيخ الرئيس الحسين أبو علي: كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تحقيق ماجد فخري (بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1405/ 1985)، ص 47.
(2)
ابن سينا: منطق المشرقيين، ص 32 - 59.
(3)
متآيلتان، أي تؤولان المآل ذاته أو إلى النتيجة ذاتها.
وغير لازم، كل ذلك من التعريف باللازم. إلا أن تعقل الكلِّي من حيث إنه مقوم وغيره، أو لازم وغيره، أقرب إلى ذاتية الكلي من تعقله من حيث إنه واقع في جواب.
فهذا نموذجٌ من تدقيقات الشيخ في تمحيص أساليب الحكمة. ولا شك أنه ما تفرغ إلى محاولة تهذيب الأساليب إلا بعد أن مَرِس بالحكمة مِراسًا، وحُقّ له أن يلقّب فيها شيخًا ورأسًا.